شرح ألفية السيرة النبوية للحافظ زين الدين العراقي (12)

المقدمة

الحَمدُ للهِ الَّذِي أَكرَمَنَا بِالإِسلَامِ وَأَعَزَّنَا بِالإِيمَانِ، وَأَنعَمَ عَلَينَا بِالقُرءَانِ، وَجَعَلَنَا مُوَحِّدِينَ، غَيرَ ضَالِّينَ وَلَا مُضِلِّينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى نَبِيِّنَا الأَمِينِ، سَيِّدِ الأَنبِيَاءِ وَالمُرسَلِينَ، مَنْ بَعَثَهُ رَبُّهُ بِالحَقِّ المُبِينِ، الَّذِي بَشَّرَ بِنُبُوَّتِهِ مُوسَى وَعِيسَى وَهَارُونُ وَالمُرسَلُونَ، وَأَشهَدُ أَنْ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، ولا مثيلَ لَه، ولا ضِدَّ وَلا نِدَّ لهُ، وَأَشهَدُ أنَّ سَيِّدَنَا وَحَبِيبَنَا وَعَظِيمَنَا وَقَائِدَنَا وَقُرَّةَ أَعيُنِنَا مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ وَصَفِيُّهَ وَحَبِيبُهُ، بَلَّغَ الرِّسَالَةَ وَأَدَّى الأَمَانَةَ، وَنَصَحَ الأُمَّةَ، وعَلَّمَ النَّاسَ مَا يَنْفَعُهُم، وحَذَّرَهُمْ مِمَّا يَضُرُّهُمْ، فِي دينِهِم ودُنْيَاهُم، فَبَيَّنَ أَنَّ الصدقَ مَنْجَاةٌ، وَالكَذِبَ مَهْلَكَةٌ، فَأَمَرَ بالصِّدْقِ وعَظَّمَ أَهْلَهُ، وَحَذَّرَ مِنَ الكَذِبِ وَذَمَّ أَهلَهُ، فَصَلِّ اللهم عليهِ صَلَاةً تكونُ سببًا فِي مغفرةِ الذنوبِ، وسترِ العيوبِ، والنَّجاةِ مِنَ الكروبِ، أمَّا بعدُ:

ونكمل في شَرحِنَا لأَلفِيَّةِ السِّيرَةِ النبَوِيَّةِ الشريفَةِ للحافِظِ العرَاقِيِّ ووصَلنَا إِلَى قولِهِ:

ذِكرُ الهِجرَتَينِ إلى النَّجاشِي وحَصْرِ بَنِي هاشِمٍ في الشِّعْبِ
لَمَّا فَشَـا الإِسْـلَامُ وَاشْـتَدَّ عَلَى *** مَـنْ أَسْـلَـمَ البَلَاءُ هَاجَـرُوا إِلَى
أَصْـحَمَةٍ فِي رَجَـبٍ مِـنْ سَـنَةِ *** خَـمْـسٍ مَضَـتْ لَهُمْ مِنَ النُّبُوَّةِ
خَمْسٌ مِنَ النِّسَـاءِ وَاثْنَا عَشَـرَا *** مِـنَ الرِّجَالِ كُـلُّهُمْ قَدْ هَـاجَـرَا
(لَمَّا فَشَا الإِسْلَامُ وَاشْتَدَّ عَلَى، مَنْ أَسْلَمَ البَلَاءُ): لَمَّا ظَهَر وانْتَشَر الإِسْلَامُ بينَ كثيرٍ مِن أبناءِ القبائلِ، وَاشْتَدَّ وزادَ وقسَى عَلَى مَنْ أَسْلَمَ البَلَاءُ والتَّعذِيبُ مِن قِبَلِ المشرِكِينَ، (هَاجَرُوا إِلَى، أَصْحَمَةٍ فِي رَجَبٍ مِنْ سَنَةِ، خَمْسٍ مَضَتْ لَهُمْ مِنَ النُّبُوَّةِ): قَدِمَ المسلِمونَ المُهاجِرونَ عَلَى النَّجاشِيِّ مَلِكِ الحَبَشَةِ أَصْحَمَةَ بنِ أبجَرَ، وكان ذلك في شهر رجب من السنة الخامسة للبعثة النبوية المباركة.

قال لهُمُ النَّبِيُّ ﷺ: “تَفَرَّقُوا فِي الأَرْضِ فَسَيَجْمَعُكُمُ اللهُ“، قالوا: إلى أينَ نَذْهَبُ؟ قال: “هَاجِرُوا إِلَى أَرْضِ الحَبَشةِ، فَإِنَّ بِهَا مَلِكًا لَا يُظْلَمُ عِندَهُ أَحَدٌ، حَتَّى يَجْعَلَ اللهُ لَكُم فَرَجًا“، فهَاجَرُوا فِرَارًا بدِينِهِم إِلَى أرضِ الحَبَشةِ، وهِيَ أَوَّلُ هِجْرةٍ للمُسلِمِينَ، فمِنهُم مَن هاجَرَ بأَهْلِه ومِنهُم مَن هاجَرَ بنَفْسِه.

والنَّجاشِيُّ لقَبٌ لِكُلِّ مَن مَلَكَ الحبشةَ، كلَقَبِ قَيصَرَ لِمَن مَلَكَ الرُّومَ، وكِسرَى لِمَن مَلَكَ الفُرسَ، وخَاقَانَ لِمَن مَلَكَ التُّركَ، وفِرعَونَ لِمَن مَلَكَ مِصرَ، وتُبَّعٍ لِمَن مَلَكَ اليمَنَ، وبَطْلِيمُوسَ لِمَن مَلَكَ اليُونانَ، ومَالَخٍ لِمَن ملَكَ اليهودَ، ونُمرُودَ لِمَن مَلَكَ الصّابِئةَ، وفَغْفُورَ لِمَن مَلَكَ الهِنْدَ أَوِ الصِّينَ، وجالوتَ لِمَن مَلَكَ البَرْبَرَ.

وكانت هِجرةُ المُسلمِينَ الأُولَى إلى الحبَشةِ فِي شَهرِ رَجَبٍ الحَرامِ، مِنْ سَنَةِ خَمْسٍ مَضَتْ لَهُمْ مِنَ النُّبُوَّةِ، أي بَعد خمسِ سِنِينَ مِنَ البِعثَةِ.

(خَمْسٌ مِنَ النِّسَاءِ وَاثْنَا عَشَرَا مِنَ الرِّجَالِ كُلُّهُمْ قَدْ هَاجَرَا): أي وعدَدُ الّذِينَ هاجَرُوا وقتَئِذٍ سَبعةَ عَشَرَ، خَمْسٌ مِنَ النِّسَاءِ، وَاثْنَا عَشَرَ مِنَ الرِّجَالِ، كُلُّ المُهاجِرينَ إلى الحبَشةِ قَدْ هَاجَرَ فِرارًا بِدِينِه.

وَخَـرَجَـت قُـرَيــشُ فِي الآثَارِ *** لَـم يَصِـلُوا مِنهُم لِأَخـذِ الثَّارِ
فَـجَــاوَرُوهُ فِـي أَتَـمِّ حَـالِ *** ثُـمَّ أَتَــوا مَـكَّـةَ فِـي شَــوَّالِ
مِـن عَامِـهِم إِذ قِيلَ أَهـلُ مَكَّـةِ *** قَـد أَسـلَمُوا وَلَم يَكُن بِالثَّبَتِ
(وَخَرَجَت قُرَيشُ فِي الآثَارِ، لَم يَصِلُوا مِنهُم لِأَخذِ الثَّارِ): لَمَّا شَاعَ خَبَرُ هِجرَةِ بَعضِ المُسلِمِينَ إِلَى الحَبَشَةِ خَرَجَ بَعضُ مُشرِكِي قُرَيشٍ فِي تَتَبُّعِ الآثَارِ الَّتِي خَلَّفَهَا المُهَاجِرُونَ مِن وَرَائِهِم حَتَّى جَاؤُوا إِلَى البَحرِ إِلَّا أَنَّهُم لَم يَجِدُوا أَحَدًا مِنهُم، فَلَم يَصِلُوا إِلَيهِم لِلِانتِقَامِ مِنهُم عَلَى فِرَارِهِم بِدِينِهِم سَعيًا مِن كُفَّارِ قُرَيشٍ لِأَخذِ الثَّأرِ مِنَ المُهَاجِرِينَ عَلَى مَا يَزعُمُونَ.

(فَجَاوَرُوهُ فِي أَتَمِّ حَالِ): وَوَصَلَ المُسلِمُونَ إِلَى الحَبَشَةِ فَتَلَقَّاهُمُ النَّجَاشِيُّ بِالرَّحبِ وَالإِكرَامِ، فَجَاوَرُوهُ بِالإِقَامَةِ هُنَاكَ عَلَى أَتَمِّ حَالٍ، وَعَبَدُوا اللهَ جَهرًا وَهُم فِي أَمَانٍ.

(ثُمَّ أَتَوا مَكَّةَ فِي شَوَّالِ، مِن عَامِهِم): كَانَ خُرُوجُهُم إِلَى الحَبَشَةِ فِي رَجَبٍ سَنَةَ خَمسٍ كَمَا تَقَدَّمَ، فَلَم يُطِيلُوا المُكثَ، بَل أَقَامُوا شَعبَانَ وَرَمَضَانَ مِنَ العَامِ نَفسِهِ، ثُمَّ أَتَوا مَكَّةَ رَاجِعِينَ فِي شَهرِ شَوَّالٍ مِن عَامِهِمُ الَّذِي هَاجَرُوا فِيهِ.

(إِذ قِيلَ أَهلُ مَكَّةِ، قَد أَسلَمُوا وَلَم يَكُن بِالثَّبَتِ): لَم يَكُن رُجُوعُهُم لِأَمرٍ حَدَثَ بِأَرضِ الحَبَشَةِ، بَل لَقُوا فِي الحَبَشَةِ رَكبًا مِن كِنَانَةَ كَافِرِينَ فَقَالُوا لِلرَّكبِ: قِيلَ لَنَا كُفَّارُ أَهلِ مَكَّةَ قَد أَسلَمُوا؟، فَقَالَ لَهُم الرَّكبُ الكِنَانِيُّ: ذَكَر مُحَمَّدٌ ءَالِهَتَهُم بِخَيرٍ فَتَابَعَهُ المَلَأُ، ثُمَّ ارتَدَّ مُحَمَّدٌ عَنهَا فَعَادُوا لَهُ بِالشَّرِّ، وَكَلَامُهُم هَذَا فِي النَّبِيِّ بَاطِلٌ، بَل وَلَم يَكُن مَا زَعَمُوهُ مِن إِسلَامِ مُشرِكِي مَكَّةَ بِالأَمرِ الثَّبَتِ أَيِ الثَّابِتِ حُصُولُهُ، بَل كَانَ مُخَالِفًا لِلوَاقِعِ.

ويذكُرُونَ فِي هَذِهِ الفَترَةِ قِصَّةً مَكذُوبَةً، وهِيَ أنهُم يقولُونَ أنَّ النبِيَّ ﷺ وقتَ هِجرَةِ أصحَابِهِ للحبَشَةِ كان يقرَأُ القرآنَ في سُورَةِ النجمِ، فقرَأَ قولَهُ تعَالَى: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّىٰ * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَىٰ﴾، يقولُونَ إنَّ الشيطَانَ ألقَى على لسَانِ النبيِّ ﷺ كلَامًا فيهِ مدحٌ للأصنَامِ والعِيَاذُ باللهِ، وهُوَ قولُهُم: وتلكَ الغَرَانِيقُ العُلَا وإنَّ شفَاعَتَهُنَّ لتُرتَجَى، (الغَرَانِيقُ هُنَا الأَصنَامُ)، والغرانيق في الأصل اسم للذكر من طيور الماء البيض، شبهوا الأصنام بها.

فسجَدَ المشرِكُونَ فرَحًا بزَعمِهِم لأَنَّ النبيَّ ﷺ مدَحَ أصنَامَهُم، ووصَلَ الخبرُ للمسلِمِينَ في الحبَشَةِ أنَّ قريشًا أسلَمُوا وآمَنُوا بالنبيِّ ﷺ لأَنَّهُم سجَدُوا لسُجُودِهِ، ورَجَعَ عدَدٌ منهُم، وهذَا باطِلٌ، لأَنَّهُ لا يَحصُلُ مِن أحدٍ مِنَ الأنبياءِ علَيهِمُ الصلاةُ والسلامُ أن يَكتُمَ شيئًا أُمِرَ بتبلِيغِهِ، ولا أَن يبَلِّغَ شيئًا بخِلَافِ مَا يُوحَى إلَيهِ، ولا يُوحَى إليهِ بِالكُفرِ ومَدحِ الأصنَامِ قَطعًا، فذلِكَ مستَحِيلٌ في حقِّهِم، ويَدخُلُ في ذلكَ أنَّهُ يستَحِيلُ على النبيِّ ﷺ أَن يتلُوَ علَى الناسِ شيئًا على أنّه مِن كتابِ اللهِ وهوَ ليسَ كذلِكَ في الحقيقَةِ.

أما الصَّحِيحُ الثابِتُ عَنِ العلَمَاءِ ومَرِوِيٌّ فِي البخارِيِّ أنَّ النبيَّ ﷺ كانَ يقرَأُ سورَةَ النجمِ، فسجَدَ المشرِكُونَ مِن عظَمَةِ القرءَانِ وفصَاحَتِهِ وبلَاغَتِهِ، فبِسَبَبِ سُجُودِ المُشرِكِينَ لِعَظَمَةِ القرءانِ وفصَاحَتِهِ وبَلَاغَتِهِ، وصَلَ الخَبَرُ إِلَى مَن هَاجَرَ إلى الحبَشَةِ أنَّ أَهلَ مَكَّةَ أسلَمُوا وانتَشَرَ الإِسلَامُ فرجَعُوا.

وَقَالَ القَاضِي عِيَاضٌ: كَانَ سَبَبُ سُجُودِهِم فِيمَا قَالَ ابنُ مَسعُودٍ: إنَّهَا أَوَّل سَجْدَةٍ نَزَلَتْ، وأَمَّا ما يَرْوِيهِ الإِخبَارِيُّونَ أنَّ سَبَبهُ مَا جَرَى عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللهِ ﷺ مِنَ الثَّنَاءِ على الأصنامِ بقوله تِلْكَ الغَرَانِيقُ العُلَا فبَاطِلٌ لا يَصِحُّ لا نَقْلًا ولا عَقْلًا، لأَنَّ [هذا] كُفْرٌ، ولَا يَصِحُّ نِسبَةُ ذلكَ إِلَى رسولِ اللهِ ﷺ وَلَا أن يَقُولَهُ الشيطَانُ بلِسَانِهِ حَاشَاهُ مِنهُ اهـ.

قال ابن عاشور وهو عالم الشمال الإفريقي من علماء المالكية بعد أن أورد القصة المكذوبة: وَهِيَ قِصَّةٌ يَجِدُهَا السَّامِعُ ضِغْثًا وَلَا يُلْقِي إِلَيْهَا النِّحْرِيرُ بَالَهُ. وَسَنَدُهَا إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ سَنَدٌ مَطْعُونٌ. وَهِيَ أَخْبَارُ تُعَارِضُ أُصُولَ الدِّينِ لِأَنَّهَا تُخَالِفُ أَصْلَ عصمَة الرَّسُول ﷺ لَا الْتِبَاسَ عَلَيْهِ فِي تَلَقِّي الْوَحْيِ. وَيَكْفِي تَكْذِيبًا لَهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى [النَّجْم: 3]

وَكَيْفَ يَرُوجُ عَلَى ذِي مُسْكَةٍ مِنْ عَقْلٍ أَنْ يَجْتَمِعَ فِي كَلَامٍ وَاحِدٍ تَسْفِيهُ الْمُشْرِكِينَ فِي عِبَادَتِهِمُ الْأَصْنَامَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى [النَّجْم: 19] إِلَى قَوْلِهِ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ [النَّجْم: 23] فَيَقَعُ فِي خِلَالِ ذَلِكَ مَدْحُهَا بِأَنَّهَا «الْغَرَانِيقُ العلى وَأَن شفاعتهن لَتُرْتَجَى». اهـ

فَاسْـتَـقْبَلُوهُمْ بالأَذَى وَالشِّـدَّةِ *** فَـرَجَـعُـوا لِلْهِـجْـرَةِ الثَّانِـيَـةِ
(فَاسْتَقْبَلُوهُمْ بالأَذَى وَالشِّدَّةِ): لَمّا بلَغَ المُسلمِينَ أنّ رُؤساءَ قُرَيشٍ أسلَمُوا ترَكُوا الحبَشةَ ورجَعُوا إلى مكّةَ، وقيل: عاد مِنهُم قَومٌ وتخَلَّفُ مِنهُم ءاخَرُونَ، فلَمّا قَدِمَوا مكّةَ ظهَرَ لَهُم أنَّ خبرَ إسلامِ قُريشٍ كانَ باطِلًا، فَاسْتَقْبَلَهُم كُفّارُ قُريشٍ بالأَذَى قولًا وفِعلًا وَبالشِّدَّةِ علَيهِم، (فَرَجَعُوا) أي المُستَضعَفُون مِن المسلمِينَ مرّةً أُخرَى خارجِينَ مِن مكّةَ (لِلْهِجْرَةِ الثَّانِيَةِ) إلى الحبَشة فِرارًا بدِينِهم.

هنا استأذَنُوا رسولَ اللهِ ﷺ في الخروجِ مرّةً ثانيةً إلى الحبَشةِ، فأَذِنَ لَهُم، فكانَت خَرْجَتُهم الثانيةُ أعظَمَ مَشَقّةً، فقال عُثمانُ بنُ عَفّانَ: يا رسولَ اللهِ، فهِجْرَتُنا الأُولَى وهذِه الآخِرةُ ولَستَ معَنا؟، فقال رَسولُ اللهِ ﷺ: “أَنْتُم مُهَاجِرُونَ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَإِلَيَّ، لَكُمْ هَاتَانِ الهِجْرَتَانِ جَمِيعًا“، قال عُثمانَ: فحَسْبُنا يا رسولَ الله، فَرَجَعَ المُستَضعَفُون مِنَ المسلمِينَ مرّةً أُخرَى خارجِينَ مِن مكّةَ لِلْهِجْرَةِ الثَّانِيَةِ إلى الحبَشةِ فِرارًا بدِينِهِم.

فِـي مـائَـةٍ عَـدُّ الـرِّجَـالِ مِنْهُمُ *** إِثْنَانِ مِـنْ بَـعْـدِ الثَّمَانِيـنَ هُمُ
فَـنَـزَلُـوا عِنْدَ النَّجَـاشِـيِّ عَلَى *** أَتَـمِّ حَـالٍ………………………..
(فِي مائَةٍ عَدُّ الرِّجَالِ مِنْهُمُ، إِثْنَانِ مِنْ بَعْدِ الثَّمَانِينَ هُمُ): رجَعَ المُسلِمُونَ وكَانَ عَدَدُهُم مائَةً مِن الرِّجالِ والنِّساءِ، وقيلَ غيرُ ذلكَ.

وكان عَددُ الرِّجَالِ مِنْهُمُ اثْنَانِ أو ثلاثةٌ وثَمَانونَ، فَقَدِمُوا الحبَشةَ ونَزَلُوا عِنْدَ أصْحمةَ النَّجَاشِيِّ، فآواهُم وأكرَمَهُم وهُم عَلَى أَتَمِّ حَالٍ ءامنِينَ مِن أذَى كُفّارِ قُريشٍ، وكانَ علَى رأسِهِم جعفَرُ بنُ أبي طالِبٍ رضي الله عنه، وفيهِم مِنَ الرّجالِ: عثمانُ وقُدامةُ وعبدُ اللهِ أولادُ مظعونٍ وأبو موسَى الأشعريِّ وعبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ وأبُو عُبَيدَةَ بنِ الجراحِ وغيرُهُم، ومِن النِّساءِ: رَمْلةُ بنتُ أبي عَوفٍ وسَودةُ بِنتُ زَمْعةَ وفُكيهةُ بنتُ يَسارٍ وغيرُهُنّ.

قال بعضُ مَن هاجَرَ إلى الحبَشَةِ مِنَ الصَّحَابَةِ رِضوَانُ اللهِ عَلَيهِم: لمَّا نَزَلنَا أرضَ الحبَشَةِ جاوَرنَا بِهَا النجاشيَّ، أَمِنَّا علَى دينِنَا، وعَبَدنَا اللَّهَ تعالَى، لا نُؤذَى ولَا نَسمَعُ شَيئًا نَكرَهُهُ، فلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ قُرَيشًا ائتَمَرُوا بَينَهُم أَن يَبعَثُوا فِينَا رَجُلَينِ جَلدَينِ، وَأَن يُهدُوا للنَّجَاشِيِّ هدَايَا مِمَّا يُستَظرَفُ مِن مَتَاعِ مَكَّةَ، وكانَ أعجَبَ ما يَأتِيهِ منهَا الْأُدُمُ، فَجَمَعُوا لَهُ أُدُمًا كَثِيرًا، ولَم يَترُكُوا قائِدًا مِن قادَاتِهِ إلَّا وأَهدَوا لهُ هدِيَّةً، ثمَّ بعَثُوا عُمَارَةَ بنَ الولِيدِ وَعَمرَو بنَ العَاصِ، وقالُوا لهُمَا: ادفَعَا إِلَى كُلِّ بطرِيقٍ هدِيَّتَهُ قبلَ أن تُكَلِّمَا النجاشيَّ فيهِم، ثم قَدِّمَا إلى النجاشِيِّ هدَايَاهُ، ثُمَّ اسأَلَاهُ أن يُسَلِّمَهُم إِلَيكُمَا قبلَ أن يُكَلِّمَهُم، وَقُولُوا إِنَّهُم جاءُوا بِدِينٍ مُبتَدَعٍ، لا نعرِفُهُ نحنُ وَلَا أنتُم، وقَد بَعَثَنَا إلى المَلِكِ فيهِم أشرَافُ قَومِهِم لَيَرُدَّهُم إلَيهِم، فقَالُوا: نعَم، ثم إنَّهَمَا لمَّا دخلَا على النجاشِيِّ سجَدَا لَهُ، وقدَّمَا له هدايَاهُمَا، فقَبِلَهَا، ثمَّ قَالَا له: أيُّهَا المَلِكُ، أنَّ نَفَرًا مِن بَنِي عَمِّنَا سُفَهَاءَ، فارَقُوا دِينَ قومِهِم، ولم يدخُلُوا في دِينِكُم، جاءُوا بدِينٍ ابتَدَعُوهُ، لَا نَعرِفُهُ نحنُ وَلَا أنتَ، وقد بعَثَنَا إليكَ فيهِم أشرَافُ قومِهِم، من آبائِهِم وأعمَامِهِم وعشائِرِهِم، لتَرُدَّهُم عليهِم، فهُم أعلَى وأعلَمُ بِهِم عينًا وبِمَا عابُوا علَيهِم وبمَا عيَّبُوهُم فيهِ، ولم يَكُن شيءٌ أبغَضَ إلى عَمرِو بنِ العاصِ وعُمَارَةَ بنِ الوَلِيدِ مِن أَنْ يسمَعَ النجاشيُّ كلامَ جعفَرٍ وأصحابِهِ، فقال بطارِقَتُهُ: صدقا أيها المَلِكُ، قومُهُم أعلَى بهِم عينًا وأعلَمُ بمَا عابُوا علَيهِم، فأَسلِمهُم إليهِمَا فليَرُدَّاهُم إلى بلَادِهِم وقومِهِم، قَالَ: فَأَينَ هُم؟ قَالَا: فِي أرضِكَ، فغَضِبَ النجَاشِيُّ ثمَّ قالَ: لَا وَاللهِ، لا أُسلِمُهُم إليهِمَا، وَلَا يُكادُ قَومٌ جاوَرُونِي وَنَزَلُوا بِلَادِي واختَارُونِي عَلَى مَن سِوَايَ، حتَّى أَدعُوَهُم فأَسأَلَهُم عمَّا يقُولُ هذَانِ مِن أمرِهِم، فإِنْ كانُوا كَمَا يقُولَانِ أسلَمتُهُم إليهِمَا ورَدَدتُهُم إلَى قومِهِم، وإِن كَانُوا غَيرَ ذَلِكَ منَعتُهُم منهُم وأَحسَنتُ جِوَارَهُم مَا جَاوَرُونِي، ثُمَّ أَرسَلَ إِلَى أصحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فدَعَاهُم، فلَمَّا جاءَهُم رسُولُهُ اجتمَعُوا ثُمَّ قالَ بَعضُهُم لبَعضٍ: مَا تَقُولُونَ للرجُلِ إذا جئتُمُوهُ؟ قالُوا: نَقُولُ ما أَمَرَنَا بِهِ نبِيُّنَا ﷺ، كَانَ في ذلِكَ مَا هُوَ كَائِنٌ، فقَالَ جَعفَرُ بنُ أَبِي طالِبٍ: أنَا خطِيبُكُم اليومَ، وقَد دَعَا النَّجَاشِيُّ أساقِفَتَهُ، فنَشَرُوا كُتُبَهُم حولَهُ، فدَخَلَ جعفَرٌ وتَبِعَهُ المُسلِمُونَ، فسَلَّمَ، فقالُوا: مَالَكَ لَا تَسجُدُ للمَلِكِ؟، قالَ جعفَرٌ: إِنَّا لَا نَسجُدُ إلا للَّهِ عزَّ وجل، فقالَ النجاشِيُّ: ما هَذَا الدينُ الذِي فَارَقتُم فيهِ قومَكُم، ولَم تَدخُلُوا فِي دِينِي ولَا فِي دينِ أحَدٍ من أهلِ هَذِهِ المِلَلِ، فقالَ جعفَرٌ: أيُّهَا الملكُ، كُنَّا قومًا أهلَ جاهِلِيَّةٍ، نعبُدُ الأصنامَ ونَأكُلُ الميتَةَ ونَأتِي الفَوَاحِشَ ونَقطَعُ الأرحَامَ ونُسِيءُ الجِوَارَ ويَأكُلُ القَوِيُّ الضَّعِيفَ، فكُنَّا علَى ذلِكَ حَتَّى بعَثَ اللَّهُ إِلَينَا رَسُولًا مِنَّا، نَعرِفُ نسَبَهُ وصِدقَهُ وأمَانَتَهُ وعفَافَهُ، فدعَانَا إلى اللَّهِ لِنُوَحِّدَهُ ونَعبُدَهُ ونخلَعَ ما كُنَّا نَعبُدُ نَحنُ وآبَاؤُنَا مِن دونِهِ مِنَ الحِجَارَةِ وَالأَوثَانِ، وَأَمَرَنَا أَن نَعبُدَ اللَّهَ وَحدَهُ لَا نُشرِكَ بِهِ شَيئًا، وعدَّدَ عليهِ أمُورَ الإسلَامِ، ثمَّ قالَ: وأمَرَنَا بصدقِ الحَدِيثِ وأدَاءِ الأمانَةِ وصلَةِ الرّحمِ وحُسنِ الجِوارِ والكفِّ عَنِ المحارِمِ والدِّماءِ، ونهانَا عَنِ الفواحِشِ وقولِ الزُّورِ وأكلِ مَالِ اليتِيمِ وقَذفِ المُحصَنَاتِ، فصَدّقنَاهُ وآمَنَّا بِهِ واتَّبَعنَاهُ عَلَى مَا جاءَ بِهِ مِنَ اللَّهِ تعالى، فعَبَدنَا اللَّهَ تعالى وَحدَهُ ولَم نُشرِك بهِ شيئًا، وحرَّمنَا ما حَرَّمَ اللَّهُ علَينَا، وأَحلَلنَا مَا أَحَلَّ لنَا، فعَدَا علينَا قَومُنَا فعَذَّبُونَا وفتَنُونَا عن دِينِنَا، لِيَرُدُّونَا إلى عِبَادَةِ الأوثَانِ من عبَادَةِ اللَّهِ وأَن نَستَحِلَّ ما كُنَّا نستَحِلُّ مِنَ الخبَائِثِ، فلمَّا قهَرُونَا وظلمُونَا وضَيَّقُوا علينَا وحَالُوا بَينَنَا وبَينَ دِينِنَا، خَرَجنَا إلى بِلَادِكَ، وَاختَرنَاكَ عَلَى مَن سِوَاكَ، ورَغِبنَا فِي جِوَارِكَ، ورَجَونَا ألَّا نُظلَمَ عِندَكَ أَيُّهَا المَلِكُ، فقالَ لَهُ النجاشي: هل مَعَكَ ممَّا جاءَ بهِ نَبِيُّكُم من شَيءٍ، فقالَ لهُ جَعفَرٌ: نَعَم، قالَ فاقرَأهُ عَلَيَّ، فقَرَأَ عليهِ صدرًا من سورة مريم «كهيعص»، فبَكَى النَّجَاشِيُّ حتَّى أَخضَلَ لِحيَتَهُ، وبَكَت أسَاقِفَتُهُ حتَّى أخضَلُوا كُتُبَهُم حِينَ سَمِعُوا مَا يُتلَى عَلَيهِم، ثُمَّ قالَ لَهُ النَّجَاشِيُّ: إنَّ هَذَا وَالَّذِي جاءَ به عيسى ليَخرُجُ عن مِشكَاةٍ واحِدَةٍ، ثُمَّ قالَ النَّجَاشِيُّ لِعَمرٍو: أَعَبِيدٌ هُم لَكُم؟ قَالَ: لَا، قَالَ: أَفَلَكُم عَلَيهِم دَينٌ؟ قالَ: لَا، قالَ: انطَلِقَا، فواللَّهِ لا أُسلِمُهُم إِلَيكُمَا أبَدًا، وَلَا يُكَادُونَ، فلَمَّا خرجَا مِن عِندِهِ قالَ عَمرُو بنُ العاصِ: واللَّهِ لَآتِيَنَّهُ عَنهُم غَدًا بِمَا أَستَأصِلُ بِهِ (أستأصل: أي لا أَدَعُ لهُم أصلًا) خَضرَاءَهُم (خضراءهم: سَوَادَهُم ومُعظَمَهُم)، فقَالَ لَهُ عُمَارَةُ لَا تَفعَل، فَإِنَّ لَهُم أرحَامًا وَإِن كَانُوا قَد خَالَفُونَا، قَالَ: وَاللَّهِ لَأُخبِرَنَّهُ أَنَّهُم يَزعُمُونَ أَنَّ عِيسَى ابنَ مَريَمَ عَبدٌ.

ثُمَّ غَدَا إِلَى النَّجَاشِيِّ فَقَالَ: أَيُّهَا المَلِكُ، إِنَّهُم يَقُولُونَ فِي عِيسَى قَولًا عَظِيمًا، فَاسأَلهُم عمَّا يقُولُونَ فيهِ، فأَرسَلَ إِلَيهِم لِيَسأَلَهُم عنهُ، فاجتمَعَ المسلِمُونَ وَلَم يَنزِل بِهِم مثلُهَا، فَقَالَ بعضُهُم لِبَعضٍ: مَاذَا تقُولُونَ فِي عِيسَى ابنِ مَريَمَ إِذَا سَأَلَكُم عَنهُ؟، فَقَالُوا: نَقُولُ وَاللَّهِ مَا قَالَ اللَّهُ تعَالَى وَمَا جَاءَ بِهِ نَبِيُّنَا، كَائِنًا فِي ذَلِكَ مَا هُوَ كَائِنٌ، فقَالَ جعفرٌ: لَا يَتكَلَّمْ أَحَدٌ، أَنَا خَطِيبُكُم، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيهِ، فَإِذَا هُوَ جالِسٌ في مَجلِسِهِ، وعَمرُو بنُ العاصِ عنَ يمِينِهِ، وعُمَارَةُ عَن شِمَالِهِ، والقِسِّيسُونَ جُلُوسٌ، فَقَالَ النَّجَاشِيُّ لِجَعفَرٍ وأَصحَابِهِ: مَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى ابنِ مَريَمَ؟، فَقَالَ جَعفَرُ بنُ أَبِي طَالِبٍ: نَقُولُ فِيهِ الَّذِي جَاءَ بِهِ نَبِيُّنَا، نَقُولُ هُوَ عبدُ اللَّهِ ورَسُولُهُ، وَكَلِمَتُهُ ألقَاهَا إِلَى مريَمَ العَذرَاءِ البَتُولِ، فضَرَبَ النَّجَاشِيُّ بِيَدِهِ الأرضَ، فأَخَذَ مِنهَا عودًا ثُمَّ قالَ: مَا عَدَا عِيسَى بنَ مَريَمَ مَا قُلتَ هَذَا العُودَ (أَي مَا اعتَدَى علَى عِيسَى بِكَلَامِهِ، إِنَّمَا قَالَ الحَقَّ).

ثُمَّ قَالَ: مَرحَبًا بِكُم وَبِمَن جِئتُم مِن عِندِهِ، أَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وأنَّه الرسولُ الَّذي بَشَّر بِهِ عيسَى ابنُ مريَمَ، انزِلُوا حيثُ شِئتُم، وَاللَّهِ لَولَا مَا أَنَا فيهِ مِنَ المُلكِ، لَأَتَيتُهُ حتَّى أَكُونَ أَنَا الَّذِي أَحمِلُ نَعلَيهِ، وأمَرَ لَنَا بطعَامٍ وكِسوَةٍ، ثمَّ قال: اذهَبُوا فَأَنتُم آمِنُونَ، مَن سَبَّكُم غَرِمَ، مَن سَبَّكُم غَرِمَ، مَن سَبَّكُم غَرِمَ، قالَهَا ثلَاثًا.

فَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي جَبَلًا مِن ذَهَبٍ وَأَنِّي آذَيتُ رَجُلًا مِنكُم.

ثُمَّ قالَ: رُدُّوا عَلَيهِمَا هَدَايَاهُمَا، فَلَا حَاجَةً لِي بِهَا، فَخَرَجَا مِن عِندِهِ مَقبُوحِينَ.

وَأَقَامَ المهاجِرُونَ بأَرضِ الحبَشَةِ عندَ النجاشِيِّ فِي أحسَنِ جوَارٍ، وتَعَجَّلَ عبدُ اللَّهِ بنُ مسعُودٍ فرَجَعَ إِلَى مَكَّةَ، فَلَمَّا سَمِعَ المُسلِمُونَ بمُهَاجَرَةِ النبيِّ ﷺ إلَى المَدِينَةِ، رجَعَ منهُم ثَلَاثَةٌ وثَلَاثُونَ رَجُلًا، وَمِنَ النِّسَاءِ ثَمَانِي نِسوَةٍ، فَمَاتَ مِنهُم رَجُلَانِ بِمَكَّةَ، وَشَهِدَ بَدرًا مِنهُم أَربَعَةٌ وعِشرُونَ رَجُلًا.

روَى البيهَقِيُّ وغيرُهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ إِلَى النَّجَاشِيِّ فِي شَأْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَصْحَابِهِ، وَكَتَبَ مَعَهُ كِتَابًا: “بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ، إِلَى النَّجَاشِيِّ الْأَصْحَمِ مَلِكِ الْحَبَشَةِ، سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى، فَإِنِّي أَحْمَدُ اللَّهَ الْمَلِكَ الْقُدُّوسَ الْمُؤْمِنَ الْمُهَيْمِنَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ عِيسَى رُوحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ، أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ الْبَتُولِ الطَّيِّبَةِ الْحَصِينَةِ، فَحَمَلَتْ بِعِيسَى فَخَلَقَهُ مِنْ رُوحِهِ وَنَفَخَهُ، كَمَا خَلَقَ آدَمَ بِيَدِهِ (بعنايَتِه) وَنَفَخَهُ، وَإِنِّي أَدْعُوكَ إِلَى اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَالْمُوَالَاةِ عَلَى طَاعَتِهِ وَأَنْ تَتَّبِعَنِي فَتُؤْمِنَ بِي وَبِالَّذِي جَاءَنِي، فَإِنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَقَدْ بَعَثْتُ إِلَيْكُمُ ابْنَ عَمِّي جَعْفَرًا وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا جَاؤُوكَ فَاقْرِهِمْ، وَدَعِ التَّجَبُّرَ، فَإِنِّي أَدْعُوكَ وَجُنُودَكَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَدْ بَلَّغْتُ وَنَصَحْتُ، فَاقْبَلُوا نَصِيحَتِي، وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى“.

فَكَتَبَ النَّجَاشِيُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، إِلَى مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ مِنَ النَّجَاشِيِّ الْأَصْحَمِ بْنِ أَبْجَرَ: سَلَامٌ عَلَيْكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الَّذِي هَدَانِي إِلَى الْإِسْلَامِ، فَقَدْ بَلَغَنِي كِتَابُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فِيمَا ذَكَرْتَ مِنْ أَمْرِ عِيسَى، فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ عِيسَى مَا يَزِيدُ عَلَى مَا ذَكَرْتَ، وَقَدْ عَرَفْنَا مَا بَعَثْتَ بِهِ إِلَيْنَا، وَقَدْ قَرَيْنَا ابْنَ عَمِّكَ وَأَصْحَابَهُ، فَأَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ صَادِقًا مُصَدَّقًا، وَقَدْ بَايَعْتُكَ وَبَايَعْتُ ابْنَ عَمِّكَ، وَأَسْلَمْتُ عَلَى يَدَيْهِ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ آتِيَكَ فَعَلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنِّي أَشْهَدُ أَنَّ مَا تَقُولُ حَقٌّ.

انظُرُوا كَيفَ أَنَّ أصحَمَةَ النَّجَاشِيِّ لَم يَلتَقِ بِالنَّبِيِّ ﷺ بحسب العادة، بَل قرَأَ كِتَابَهُ فَقَط، فَآمنَ بِهِ وَصَارَ وَلِيًّا صَالِحًا رضِيَ اللهُ عنهُ وأرضَاهُ، بَل وَشَهِدَ لَهُ النبيُّ ﷺ بالصَّلَاحِ حينَ قالَ: “مَاتَ اليَومَ رَجُلٌ صَالِحٌ“.

أَمَّا أَبُو طَالِبٍ فقَد مَكَثَ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ خَمسِينَ سَنَةً مِن عُمُرِهِ، وَكَانَ يُدَافِعُ عَنهُ ويَنصُرُهُ، وكَانَ يَعلَمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَسَمِعَ تَبشِيرَ الأَحبَارِ وَالرُّهبَانِ بِالنَّبِيِّ ﷺ ورأَى المُعجِزَاتِ، وأَسلَمَ أولَادُهُ كَجَعفَرٍ وَعَلِيٍّ وَعَقِيلٍ، وأُمُّهُم فَاطِمَةُ بِنتُ أسَدٍ، ولَم يُسلِم هُوَ، فَالمَهدِيُّ مَن هَدَاهُ اللهُ.

فَـنَـزَلُـوا عِنْدَ النَّجَـاشِـيِّ عَلَى *** أَتَـمِّ حَـالٍ………………………..
………………………………………. *** …………….. وَتَـغَـيـَّـظَ الْمَـلَ
عَـلَـى النَّـبِـيِّ وَعَلَى أَصْـحَـابِهِ *** وَكَتَبَ البَـغِـيـضُ فِـي كِـتَابِـهِ
عَلَـى بَـنِـيْ هَاشِـمٍ الصَّـحِيفَهْ *** وَعُـلِّـقَـتْ بِالكَـعْبَةِ الشَّـرِيفَهْ
أَنْ لَا يُـنَاكِـحُـوهُـمُ وَلَا وَلَا *** وَحُصِـرُوا فِي الشِّعْبِ حَتَّى أَقْبَلَا
أَوَّلُ عَـامِ سَـبْـعَـةٍ لِلْبَـعْـثِ *** قَاسَـوا بِـهِ جَـهْـدًا بِشَـرِّ مُكْثِ
(وَتَغَيَّظَ الْمَلَا عَلَى النَّبِيِّ وَعَلَى أَصْحَابِهِ): عَقِبَ ما حصَلَ مِن هِجرَةِ الصَّحَابَةِ مرةً ثانِيَةً وحمَايَةِ أصحَمَةَ لهُم وعدَمِ قدرَةِ قرَيشٍ على رَدِّهِم، ولَمَّا رأَوا إِسلَامَ عُمَرَ وَحَمزَةَ وَحِمَايَتِهِمَا لِلمُسلِمِينَ.

ولَمَّا رَأَوا أنَّ الإسلامَ فشَا فِي بعضِ قبائِلِ العرَبِ، اغتَاظَ كفَّارُ قريشٍ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ وَعَلَى أَصْحَابِهِ في أولِ مُحَرَّمِ سَنةِ سَبْعٍ مِن البِعثةِ، فأجمَعُوا رأيهُم واتفقُوا على قَتلِ رسُولِ اللَّهِ ﷺ، وقالُوا: قد أفسَدَ علينَا أبناءَنَا ونساءَنَا، فقالوا لقومِهِ: خذُوا منّا دِيَةً مضاعَفَةً، ولْيَقتُلهُ رجُلٌ من غَيرِ قريشٍ ويرِيحَنَا وتُرِيحُونَ أنفُسَكُم، فأَبَى قومُهُ بنُو هاشِمٍ من ذلكَ، وظَاهَرَهُم بنُو المطلِبِ بنِ عبدِ منَافٍ، فلمَّا عرَفَت قريشٌ أنَّ رسولَ اللَّهِ ﷺ قد حمَاهُ قومُهُ، أجمَعَ المشركونَ مِن قريشٍ على منابَذَتِهِم وإخراجِهِم مِن مكةَ إلى الشِّعبِ، وأجمَعُوا وائتَمَرُوا أن يكتُبُوا كتَابًا يتعاقَدُونَ فيهِ على بَنِي هاشِمٍ وبنِي المطلِبِ، على أَلَّا ينكِحُوهُم ولا ينكِحُوا إليهِم ولَا يبِيعُوهُم شيئًا ولا يبتَاعُوا منهُم، ولا يَقبَلُوا منهُم صُلحًا ولَا تَأخُذَهُم بِهِم رأفَةٌ، حتَّى يُسلِّمُوا رسُولَ اللَّهِ ﷺ للقتلِ، فلمَّا اجتَمَعُوا لذلكَ كتَبُوا صحيفةً ثم تعاهَدُوا وتعَاقَدُوا على ذلك، وَكَتَبَ البَغِيضُ بنُ عامِرِ بنِ هاشِمِ بنِ عَبدِ مَنافِ بنِ عَبدِ الدَّارِ بنِ قُصَيٍّ كِتابًا بأمْرِ قُريشٍ على بَني هاشِمٍ، وَعُلِّقَتِ الصَّحِيفةُ داخلَ الكَعْبَةِ الشَّرِيفَةِ، ثُمَّ حُصِرَ بَنُو هاشِمٍ وبَنُو الْمُطَّلِب فِي الشِّعْبِ، مُؤمِنُهم وكافِرُهم، وكان دُخُولُ بَنِي هاشِمٍ والمطَّلِبِ في الشّعْبِ عامَ سَبْعٍ مِن البِعثَةِ، وخَرَج أبو لَهَبٍ إلى قريشٍ فظاهَرَهُم على أَهْلِهِ، وقَطَعُوا عنهُمُ الطّعامَ والمارَّةَ، ومَنَعُوا عنهُمُ الأسوَاقَ، وأصَرُّوا على أَن لَا يَقْبَلُوا مِنهُم صُلْحًا أبدًا ما لَم يُسْلِمُوا مُحَمَّدًا لِيُقْتَل، فقَاسَوا بالحِصَارِ جَهْدًا ومَشَقَّةً وَبَلَاءً، ومَكَثُوا فيهِ ثلاثَ سِنِينَ عانوا مِن ضِيقِ العَيْشِ والجُوعِ والأَذَى.

وَسُـمِـعَـتْ أَصْـوَاتُ صِـبْيَانِـهِمُ ** فَسَـاءَ ذَاكَ بَـعْـضَ أَقْـوَامِـهِمُ
(وَسُمِعَتْ أَصْوَاتُ صِبْيَانِهِم): أي سَمِعَ كُفّارُ قُرَيشٍ أصواتَ صِبْيانِ الْمُحْصَرِين يَصِيحُونَ مِن وَراءِ الشِّعْبِ مِن شِدّةِ الجُوعِ. (فَسَاءَ ذَاكَ بَعْضَ أَقْوَامِهِم): أي أزْعَجَ بعضَ قُريشٍ، فتَلاوَمَ قَومٌ مِن قُصَيٍّ مِمَّن وَلَدَتْهُ بَنُو هاشِمٍ وَمَن سِوَاهُم بِشَأنِ ذلكَ.

وكان أبو طالبٍ في طُولِ مدَّتِهِم في الشِّعبِ يأمُرُ رسولَ اللَّه ﷺ فيَأتِي فرَاشَهُ كلَّ ليلَةٍ، فإذَا نامَ أمَرَ أحدَ بنِيهِ أو إخوَتَهُ أو بَنِي عمِّه فاضطَجَعَ علَى فِرَاشِ رسولِ اللَّهِ ﷺ، وأمَرَ رسولَ اللَّهِ ﷺ أَن يأتِيَ بعضَ فُرُشِهِم فَيَرقُدَ عَلَيهِ.

وَأُطْـلِـعَ الرَّسُـولُ أَنَّ الأَرَضَـةْ *** أَكَـلَـتِ الصَّـحِيفَةَ الْمُبَغَّـضَـةْ
مَـا كَانَ مِـنْ جَـوْرٍ وَظُـلْمٍ ذَهَبَا *** وَبَقِيَ الـذِّكْـرُ كَمَا قَـدْ كُـتِـبَا
فَـوَجَـدُوا ذَاكَ كَمَا قَـالَ وَقَـدْ *** شَـلَّتْ يَدُ البَغِيضِ وَاللهِ الصَّمَدْ
(وَأُطْلِعَ الرَّسُولُ أَنَّ الأَرَضَةْ، أَكَلَتِ الصَّحِيفَةَ الْمُبَغَّضَةْ): لَمّا اشتَدَّ على المحصُورِينَ البلاءُ، كَشَفَ اللهُ للرسولِ ﷺ أَنَّ الأَرَضَةَ (وهي دُوَيبَّةٌ تأكُلُ الخَشَبَ) أَكَلَتْ جَمِيعَ ما في الصَّحِيفَةِ الْمُبَغَّضَةِ ما عدا ذِكرَ اللهِ تعالى. (مَا كَانَ مِنْ جَوْرٍ وَظُلْمٍ ذَهَبَا وَبَقِيَ الذِّكْرُ كَمَا قَدْ كُتِبَا): أي أَكَلَتْ جَمِيعَ ما في الصَّحِيفَةِ الْمُبَغَّضَةِ مِمَّا كَانَ مِنْ جَوْرٍ وَظُلْمٍ وشِرْكٍ وقَطِيعةِ رَحِمٍ وَبُهْتانٍ، فلَم يَبْقَ منه شىءٌ، بل كُلُّ ما فِيها مِن ذلك قَد ذَهَبَ، وَبَقِيَ ما فِيها مِن ذِكْرِ اللهِ ورَسُولِهِ ﷺ كَمَا قَدْ كُتِبَ.

فأَخْبَرَ النّبيُّ ﷺ عَمَّه أبا طالِبٍ بذَلِك، فقال أبو طالِبٍ: لا والثَّواقِبِ مَا كَذَبْتَنِي، فانْطَلَقَ عِصابَةٌ مِن بَنِي عبدِ المطَّلِبِ حتى أتَوُا المسجِدَ، فظَنَّتْ قُريشٌ أنَّهم خَرَجُوا مِن شِدَّةِ البلَاءِ لِيُسْلِمُوا رسولَ الله إليهُم لِيُقْتَلَ، فقال أبو طالِبٍ: يا مَعشَر قُريشٍ، إنَّما أَتَيتُكُم في أمرٍ هو نَصَفٌ بينَنا وبَيْنَكُم، أَخْبَرنِي ابنُ أَخِي وَلَمْ يَكَذِبْنِي، أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنْ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ الَّتِي فِي أَيْدِيكُمْ، وَمَحَا كُلَّ اسْمٍ هُوَ لَهُ فِيهَا، وَتَرَكَ فِيهَا غَدْرَكُمْ وَقَطِيعَتَكُمْ إِيَّانَا، وَتَظَاهُرَكُمْ عَلَيْنَا بِالظُّلْمِ، (وقيلَ العكسُ، وهو أنَّهُ مُحِيَ كلُّ شيءٍ مِن كلامِهِم وبَقِيَت كلمَةُ: باسمِكَ اللهم)، فَإِنْ كَانَ الْحَدِيثُ الَّذِي قَالَ ابْنُ أَخِي كَمَا قَالَ، فَأَفِيقُوا، فَوَاللَّهِ لَا نُسْلِّمُهُ أَبَدًا حَتَّى نَمُوتَ مِنْ عِنْدِ آخِرِنَا، وَإِنْ كَانَ الَّذِي قَالَ بَاطِلًا، دَفَعْنَاهُ إِلَيْكُمْ، قَالُوا: قَدْ رَضِينَا بِالَّذِي تَقُولُ.

(فَوَجَدُوا ذَاكَ كَمَا قَالَ): أي ففَتَحُوها فَوَجَدُوها كَمَا قَالَ النَّبِيُّ الصَّادِقُ المصدُوقُ قبلَ فَتْحِها، فقالوا: هذَا سِحْرُ ابنِ أَخِيكَ، وزادَهُم ذَلِكَ بَغْيًا وَعُدْوانًا.

فَفَتَحُوا الصَّحِيفَةَ، فَوَجَدُوا الصَّادِقَ الْمَصْدُوقَ ﷺ قَدْ أَخْبَرَ خَبَرَهَا، فَلَمَّا رَأَتْهَا قُرَيْشٌ كَالَّذِي قَالَ أَبُو طَالِبٍ قَالُوا: وَاللَّهِ إِنْ كَانَ هَذَا قَطُّ إِلَّا سِحْرٌ مِنْ صَاحَبِكُمْ، فَارْتَكَسُوا (نُكِسُوا عَلَى أعقَابِهِم)، وَعَادُوا بِشَرِّ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ كُفْرِهِمْ وَالشِّدَّةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَعَلَى رَهْطِهِ وَالْقِيَامِ بِمَا تَعَاهَدُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ النَّفَرُ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ وَبَنِي قُصَيٍّ وَرِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ: نَحْنُ بُرَآءُ مِمَّا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ: هَذَا أَمْرٌ قُضِيَ بِلَيْلٍ، وَأَنْشَأَ أَبُو طَالِبٍ يَقُولُ الشِّعْرَ فِي شَأْنِ صَحِيفَتِهِمْ:

وَلَمَّا رَأَيْتُ الْقَوْمَ لَا وُدَّ فِيهِمُ *** وَقَدْ قَطَّعُوا كُلَّ الْعُرَى (العهودِ) وَالْوَسَائِلِ

وَقَدْ صَارَحُونَا بِالْعَدَاوَةِ وَالْأَذَى *** وَقَدْ طَاوَعُوا أَمْرَ الْعَدُوِّ الْمُزَايِلِ (المحاولِ)

وَأَحْضَرْتُ عِنْدَ الْبَيْتِ رَهْطِي (قومِي) وَإِخْوَتِي *** وَأَمْسَكْتُ مِنْ أَثْوَابِهِ بِالْوَصَائِلِ

أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مِنْ كُلِّ طَاعِنٍ *** عَلَيْنَا بِسُوءٍ أَوْ مُلِحٍّ بِبَاطِلِ

كَذَبْتُمْ وَبَيْتِ اللَّهِ نُبْزَى (نسلِمُ) مُحَمَّدًا *** وَلَمَّا نُطَاعِنْ دُونَهُ وَنُنَاضِلِ

وَنُسْلِمُهُ حَتَّى نُصَرَّعَ حَوْلَهُ *** وَنَذْهَلَ عَنْ أَبْنَائِنَا وَالْحَلَائِلِ

وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ *** ثِمَالَ الْيَتَامَى عِصْمَةً لِلْأَرَامِلِ

يَلُوْذُ بِهِ الْهُلَّاكُ مِنْ آلِ هَاشِمٍ *** فَهُمْ عِنْدَهُ فِي رَحْمَةٍ وَفَوَاضِلِ

فَمَنْ مِثْلُهُ فِي النَّاسِ أَيُّ مُؤَمَّلٍ (المرجوِّ خيرُهُ) *** إِذَا قَاسَهُ الْحُكَّامُ عِنْدَ التَّفَاضُلِ

حَلِيمٌ رَشِيدٌ عَادِلٌ غَيْرُ طَائِشٍ *** يُوَالِي (يَعبُد) إِلَهًا لَيْسَ عَنْهُ بِغَافِلِ

وَأَيَّدَهُ رَبُّ الْعِبَادِ بِنَصْرِهِ *** وَأَظْهَرَ دِينًا حَقُّهُ غَيْرُ زَائِلِ

فَوَاللَّهِ لَوْلَا أَنْ أَجِيءَ بِسُبَّةٍ (بشتيمَةٍ) *** تُجَرُّ عَلَى أَشْيَاخِنَا فِي الْمَحَافِلِ (المجالسِ)

لَكُنَّا اتَّبَعْنَاهُ عَلَى كُلِّ حَالَةٍ *** مِنَ الدَّهْرِ جِدًّا غَيْرَ قَوْلِ التَّهَازُلِ

لَقَد عَلِموا أَنَّ ابنَنا لا مُكَذَّبٌ … لَدَيهم وَلا يُعنى بِقَولِ الأَباطِلِ

وَلَكِنَّنا نَسلٌ كِرامٌ لِسادَةٍ … بِهِم نَعتلي الأقوامَ عِندَ التطاوُلِ

سَيَعلَمُ أَهلُ الضّعنِ أَيّي وَأَيُّهُم … يَفوزُ وَيَعلو في لَيالٍ قَلائِلِ

وَلا شَكَّ أَنَّ اللَّهَ رافِعُ أَمرِهِ … وَمُعليهِ في الدُّنيا وَيَومَ التَّجَادُلِ

فانظروا كيفَ أنَّ أبَا طالِبٍ كانَ يعظِّمُ الرسولَ ﷺ تعظِيمًا شدِيدًا، ويَعرِفُ فضلَهُ، ويعرِفُ أنَّ ما جاءَ به الحقُّ، ويعظِّمُ دينَهُ ويَمدَحُهُ ويَنصُرُهُ وكانَ مُستَعِدًّا للموتِ دونَ النبيِّ ﷺ ودينِهِ، معَ ذلكَ منعَهُ خوفُهُ مِن أنْ تعَيِّرَهُ قريشٌ بأنَّهُ أسلَمَ، اللهُ أكبرَ، خافَ من قريشٍ وما خافَ مِنَ اللهِ، وهُنَا ينطَبِقُ على أَبِي طالِبٍ قولُ رسولِ اللهِ ﷺ: “إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ ‌بِالرَّجُلِ ‌الْفَاجِرِ“.

(وَقَدْ شُلَّتْ يَدُ البَغِيضِ): أي وَقَدْ شُلَّتْ يَدُ البَغِيضِ بنِ عامِرٍ كاتِبِ صَحِيفةِ العُدْوانِ، كما ذَكَرَ ذلكَ أهلُ السِّيرِ، وقولُهُ (وَاللهِ الصَّمَد): أي ويُقسِمُ النّاظِمُ باللهِ الصَّمَدِ علَى حُصولِ ذَلِك.

ومعنَى أنَّ اللهَ تعالَى هو الصَّمَدُ أيِ الَّذِي لا يَفتقِرُ إلى أحَدٍ ويفْتَقِرُ إليه كُلُّ شىءٍ، فاللهُ تعالى مُسْتَغْنٍ عَنْ كُلِّ شىءٍ، وكُلُّ شىءٍ يَحتاجُ إليهِ، فهو الذِي يَقْصِدُه العِبادُ عِندَ الشِّدةِ بجميعِ أنواعِهَا، ولا يَجْتَلِب هو بِخَلْقِه نَفْعًا لِنَفسِه، ولا يَدفَعُ بِهِم عَن نَفْسِه ضُرًّا.

روى الرازي في التفسير في شرحه لمعنى اسم الله “الصمد” فقال: قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: الَّذِي لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ، ‌وَلَا ‌يَجُوزُ ‌عَلَيْهِ ‌الزَّوَالُ كَانَ وَلَا مَكَانَ، وَلَا أَيْنَ وَلَا أَوَانَ، وَلَا عَرْشَ وَلَا كُرْسِيَّ، وَلَا جِنِّيَّ وَلَا إِنْسِيَّ وَهُوَ الْآنَ كَمَا كَانَ.اهـ

وكذلك الصَّمَدُ في اللغةِ السيّدُ أي عَالِي القَدْرِ في النّاسِ المعتَبَرُ فِيهِم، فالصَّمَدُ ليسَ مِن أَسماءِ اللهِ الخاصّةِ، لكِن معنَاهُ في حَقِّ اللهِ لا يكُونُ كمعنَاهُ في حَقِّ غَيرِهِ.

ثُمَّ أُخْرِجَ الْمُحْصَرُونَ مِنْ شِعْبِهِم مُرْغِمِينَ لِمَن خَالَفَهُم في ذَلِك عَليهِ، وَكَانَ خروجُهُم مِنَ الشِّعبِ فِي العَامِ العاشِرِ مِنَ البِعثةِ.

فائدة
دعاء للولي الصالح الشيخ أحمد الحارون رضي الله عنه وأمدّنا بأمداده -معروف بدعاء الشفاء-

يقول رحمه الله:

“اللهم صلّ على سيّدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلِّم،

اللهم لا تُشَمِّت أعدائي بدائي واجعل القرآن العظيمَ شفائي ودوائي، بكَ ثقتي ورجائي واجعل حُسنَ ظنّي بكَ شفائي.

اللهم احفظ عليّ عقلي وديني، وبكَ يا ربِّ ثبِتْ لي يقيني، وارزقني رزقًا حلالًا يكفيني.

وأبعِدْ عني شرَّ مَن يُؤذيني.

ولا تُحوِجْني إلى طبيبٍ يُداويني.

اللهم استرني على وجهِ الأرض.

اللهم ارحمْني في بطنِ الأرض.

اللهم اغفرْ لي يومَ العرْض”.

واللهُ تعالى أعلمُ وأحكمُ والحمد لله رب العالمين.

دعاء
اللهم إنا نسألك أن ترزقَنا إجابةَ الدعاءِ وصلاحَ الأبناءِ، وحسنَ الأداءِ وبركةَ العمُرِ والعطاءِ. اللهم عرِّفنَا نعمَك بدوامِهَا لا بزوَالِهَا يا الله، اللَّهُمَّ إنّا نسألُك غفرانَ الذُّنُوب وسترَ العُيُوبِ ولينَ القلوبِ وتفريجَ الكُرُوبِ.

اللَّهُمَّ يسِّر أمورَنَا واغفِر لنَا ولوالِدِينَا وأهلِنَا ولكلِّ مؤمِنٍ له حقٌّ وفضلٌ علينَا، ونسألُك اللَّهُمَّ الثباتَ حتى المماتِ. اللَّهُمَّ اجْعَلْ لَنا مِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا، وَمِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا، وَمِنْ كُلِّ بَلاَءٍ عَافِيَةً. اللهم اجعلنا مِن أهلِ الفردوسِ الأعلى بجاهِ النبيِّ ﷺ. اللَّهُمَّ فِي هذا اليومِ الْمُبَارَك اجْعَلْنا مِنْ جُنْدِكَ فَإنَّ جُنْدَكَ هُمُ الْغالِبُونَ، وَاجْعَلْنا مِنْ حِزْبِكَ فَإنَّ حِزْبَكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَاجْعَلْنا مِنْ أوْلِيائِكَ فَإنَّ أولِياءَكَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لَنا دينَنَا فَإنَّهُ عِصْمَةُ أمْرِنَا، وَأصْلِحْ لَنا ءاخِرَتَنا فَاِنَّها دارُ مَقَرِّنَا، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيادَةً لنا في كُلِّ خَيْر، وَالْوَفاةَ راحَةً لَنا مِنْ كُلِّ شَرٍّ يا أرحَمَ الرَّاحِمِينَ يا ذَا الْجَلالِ والْإكرَام. اللّهُمَّ إنَّا عَبيدُكَ وابناءُ عَبيدِكَ مَاضٍ فينا حُكمُكَ نَاصِيَتنا بيَدِكَ عَدْلٌ فينا قَضَاؤكَ نسأَلُكَ بكُلِّ اسمٍ هوَ لكَ سَمّيتَ بهِ نَفسَكَ أو أَنزَلتَه في كِتَابِكَ أو عَلَّمتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلقِكَ أو اسْتَأثَرْتَ بهِ في عِلمِ الغَيبِ عِندَكَ أنْ تَجعَلَ القُرآنَ رَبِيعَ قَلوبِنَا ونُورَ صَدْورِنا وَجِلاَءَ حُزْنِنَا وذَهَابَ همِّنَا.

اللهم فرِّج عن إخوانِنَا المسلمينَ المستضعَفِينَ في الشامِ والعراقِ وفلسطِينَ وبيتِ المقدسِ وفي اليمَنِ وفِي كلِّ بلَدٍ للمسلِمِينَ يا ربَّ العالَمِينَ يا اللهُ .

اللهم بجاهِ نبيِّنَا محمدٍ ﷺ وبجاهِ أبِي بَكرٍ الصِّدِّيقِ وبجاهِ عُمَرَ الفاروقِ وبجاهِ عثمانَ ذي النورَينِ وبجاهِ عليِّ بنِ أبِي طالِبٍ وبجاهِ بقيَّةِ العَشَرَةِ المبشرِينَ بالجنةِ رضيَ الله عنهم أجمعينَ وبجاهِ أمهاتِ المؤمنينَ رضي الله عنهُنَّ أجمعينَ اللهم أَحسِن لَنَا الختامَ وأَمِتنَا عَلَى كَامِلِ الإِيمَانِ وارزُقنَا رُؤيَةَ النبيِّ عليهِ الصلَاةُ والسلامُ واحشُرنَا مَعَهُ في دارِ السلَامِ معَ الذين لا خوفٌ عليهِم ولَا هُم يحزَنُزنَ.

اللهم أعِنَّا علَى الصيامِ والقِيامِ وتقبَّل منَّا يا رَبَّ العالَمِينَ، اللهم اجعَلنَا مِن عتقَاءِ هذَا الشهرِ الكريمِ ومِنَ المقبُولِينَ يا أكرَمَ الأكرَمِينَ، اللهم أعتِقنَا فِيهِ مِنَ النيرَانِ يا اللهُ يا اللهُ يا اللهُ، اللهم أرِنَا ليلَةَ القدرِ المبارَكَةِ يا رَبَّ العالمينَ وارزُقنَا فيهَا دعوَةً مجَابَةً بجَاهِ سَيِّدِ الأولِينَ وَالآخِرِينَ يا اللهُ، اللهم ارفَعِ البَلَاءَ وَالوَبَاءَ والأَمرَاضَ عَنِ المسلِمِينَ في مشَارِقِ الأرضِ ومغَارِبِهَا إكرامًا لوِجهِ محمَّدٍ ﷺ يا ربَّ العالمِينَ، اللهم توفَّنَا عَلَى كامِلِ الإيمَانِ وارزُقنَا شهَادَةً في سبيلِكَ ومَوْتًا في بلَدِ نبيِّكَ ﷺ، واحشرنا على نُوقٍ رحَائِلُهَا مِن ذهَبٍ آمنِينَ مطمَئِنِّينَ يا رَبَّ العَالَمِينَ

وصلَّى اللهُ وسلَّمَ على سيدِ الأنبياءِ والمرسلِينَ وسلَامٌ علَى المُرسَلِينَ والحَمدُ للهِ ربِّ العالَمِينَ.

 

شاهد أيضاً

شرح دعاء “اللهم إني أسألك من الخير كله” ودلالاته في طلب الجنة والوقاية من النار

المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم الحمدُ لله الذي أنزلَ على عبده الكتاب ولم يجعل لهُ …