المقدمة
الحَمدُ لله الَّذِي شَرَحَ صُدُورَ أَهلِ الإِسلَامِ لِلسُّنَّةِ فَانقَادَت لِاتِّبَاعِهَا وَارتَاحَت لِسَمَاعِهَا، وَأَمَاتَ نُفُوسَ أَهلِ الطُّغيَانِ بِالبِدعَةِ بَعدَ أَن تَمَادَت فِي نِزَاعِهَا وَتَغالَت فِي ابتِدَاعِهَا، وَأَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا الله وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، العَالِمُ بِانقِيَادِ الأَفئِدَةِ وَامتِنَاعِهَا، المُطَّلِعُ عَلَى ضَمَائِرِ القُلُوبِ فِي حَالَتَيِ افتِرَاقِهَا واجتِمَاعِهَا، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ الَّذِي انخَفَضَت بِحَقِّهِ كَلِمَةُ البَاطِلِ بَعدَ ارتِفَاعِهَا، وَاتَّصَلَت بِإِرسَالِهِ أَنوَارُ الهُدَى وَظَهَرَت حُجَّتُهَا بَعدَ انقِطَاعِهَا، صَلَّى الله وَسَلَّمَ عَلَيهِ مَا دَامَتِ السَّمَاءُ وَالأَرضُ، هَذِهِ فِي سُمُوِّهَا وَارتِفَاعِهَا، وَهَذِهِ فِي اتِّسَاعِهَا، وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ الَّذِينَ كَسَرُوا جُيُوشَ المَرَدَةِ وَفَتَحُوا حُصُونَ قِلَاعِهَا، وَهَجَرُوا فِي مَحَبَّةِ رَسُولِ الله الأَوطَارَ وَالأَوطَانَ وَلَم يُعَاوِدُوهَا بَعدَ وَدَاعِهَا، وَحَفِظُوا عَلَى أَتبَاعِهِم أَقوَالَهُ وَأَفعَالَهُ وَأَحوَالَهُ حَتَّى أَمِنَت بِهِمُ السُّنَنُ الشَّرِيفَةُ مِن ضَيَاعِهَا، أَمَّا بَعدُ:
ففي سياقِ شرحِنَا لألفيةِ السيرَةِ النبويةِ للحافِظِ العراقِيِّ رحمَهُ الله تعالَى وصَلنَا إِلَى:
ذكر أحداث السنة الخامسة
وَفي العامِ الخامِسِ مِنَ الهِجرَةِ حصَلَ خسُوفُ القَمَرِ فنزلَت مشروعِيَّةُ الصّلَاةِ للخُسُوفِ فصلَّاهَا رسولُ اللهِ ﷺ بأصحَابِهِ حتَّى انجَلَى القَمَرُ، وصارَتِ اليهودُ تَضرِبُ بالطِّساسِ (وهو إناء من نحاس) ويقولونَ: سُحِرَ القَمَرُ.
وَفِـيـهِ غَـزوُ الخَـنـدَقِ *** مَـعَ قُرَيظَـةٍ مَـعَ المُصـطَـلِـقِ
عَلَى الصَّـحِـيـحِ وَبِهَا جُـوَيـرِيَـه *** بَـنَـى بِهَا وَالإِفـكُ أَو فِي الآتِـيَـه
تَكَالَبَ المُشرِكُونَ وَالعَرَبُ وَاليَهُودُ فِي السَّنَةِ الخَامِسَةِ للهجرَةِ فِي غَزوَةِ الأَحزَابِ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ وَأَصحَابِهِ رَضِيَ الله عَنهُم، وَكَانَ غَرَضُ المُشرِكِينَ وَاليَهُودِ هَدْمَ دِينِ الإِسلَامِ وَدَحضَ دَعوَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ وَأَصحَابِهِ رَضِيَ اللهُ عَنهُم لَكِنَّ اللهَ نَصَرَ المُسلِمِينَ وَأَعلَى كَلِمَتَهُم وَخَذَلَ عَدُوَّهُم وَرَدَّهُم عَلَى أَعقَابِهِم خَاسِرِينَ.
ويَعُودُ سَبَبُ تَسمِيَتِهَا بِالخَندَقِ إِلَى أَنَّ المُسلِمِينَ حَفَرُوا خَندَقًا لِيَحتَمُوا بِهِ مِن خَيلِ المُشرِكِينَ، وَأَمَّا تَسمِيَتُهَا بِالأَحزَابِ فَلِأَنَّ أَحزَابَ المُشرِكِينَ مِنَ اليَهُودِ وَالعَرَبِ اجتَمَعَت فِيهَا لِمُقَاتَلَةِ المُسلِمِينَ وَمَحوِ دِينِ الإِسلَامِ.
وَسَبَبُ هَذِهِ الغَزوَةِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمَّا أَجلَى بَنِي النَّضِيرِ، خَرَجَ حُيَيُّ بنُ أَخطَبَ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ اليَهُودِ إِلَى مَكَّةَ فَدَعَوا قُرَيشًا وَأَتبَاعَهَا إِلَى حَربِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَهُمُ الَّذِينَ حَزَّبُوا الأَحزَابَ، فَقَالُوا لِقُرَيشٍ: نَحنُ مَعَكُم حَتَّى نَستَأصِلَ مُحَمَّدًا، جِئنَا لِنُحَالِفَكُم عَلَى عَدَاوَتِهِ وَقِتَالِهِ، فَنَشِطَت قُرَيشٌ لِذَلِكَ، وَتَذَكَّرُوا أَحقَادَهُم بِبَدرٍ، فَقَالَ أَبُو سُفيَانَ: مَرحَبًا وَأَهلًا، أَحَبُّ النَّاسِ إِلَينَا مَن أَعَانَنَا عَلَى عَدَاوَةِ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ أَخرَجَ خَمسِينَ رَجُلًا مِن بُطُونِ قُرَيشٍ كُلِّهَا وَتَحَالَفُوا وَتَعَاقَدُوا عِندَ الكَعبَةِ أَن لَا يَخذُلَ بَعضُهُم بَعضًا وَأَنَّ كَلِمَتَهُم وَاحِدَةٌ عَلَى مُحَمَّدٍ مَا بَقِيَ مِنهُم رَجُلٌ.
وَخَرَجَتِ اليَهُودُ إِلَى بَنِي سُلَيمٍ فَوَعَدُوهُم المَسِيرَ مَعَهُم إِذَا خَرَجَت قُرَيشٌ، وَتَجَهَّزَت قُرَيشٌ وَسَيَّرَت تَدعُو العَرَبَ إِلَى نَصرِهَا، وذَكَرَ بَعضُ أَهلِ السِّيَرِ أَنَّ الَّذِينَ وَافَوُا الخَندَقَ مِن قُرَيشٍ وَسُلَيمٍ وَأَسَدٍ وَغَطَفَانَ عَشَرَةُ ءَالَافٍ، وَكَانَ أَمرُهُم يَومَئِذٍ مَوكُولًا إِلَى أَبِي سُفيَانَ بنِ حَرَبٍ.
ولَمَّا بَلَغَ رَسُولَ الله ﷺ خَبَرُ قُرَيشٍ دَعَا النَّاسَ وَأَخبَرَهُم بِذَلِكَ وَشَاوَرَهُم فِي أَمرِهِم، أَيَخرُجُ مِنَ المَدِينَةِ أَم يَكُونُ فِيهَا وَيُحَارِبُ الأَحزَابَ بِهَا وَفِي طُرُقِهَا، فَقَالَ سَلمَانُ الفَارِسِيُّ رَضِيَ الله عَنهُ: يَا رَسُولَ الله إِنَّا كُنَّا بِأَرضِ فَارِسَ إِذَا تَخَوَّفنَا الخَيلَ خَندَقنَا عَلَينَا، فَأَعجَبَهُم ذَلِكَ وَأَحَبُّوا الثَّبَاتَ فِي المَدِينَةِ، وَلَم تَكُنِ العَرَبُ تُخَندِقُ قَبلَ ذَلِكَ، فقَسَمَ رَسُولُ اللهِ ﷺ العَمَلَ فِي حَفرِ الخَندَقِ بَينَ الصَّحَابَةِ، فَجَعَلَ لِكُلِّ عَشَرَةِ رِجَالٍ أَربَعِينَ ذِرَاعًا فِي الحَفرِ وَهُم يَومَئِذٍ ثَلَاثَةُ ءَالَافِ رَجُلٍ، وَعَلَيهِ فَيَكُونُ طُولُ الخَندَقِ اثنَي عَشَرَ أَلفِ ذِرَاعٍ، وَحَصَلَ لِلصَّحَابَةِ رَضِيَ الله عَنهُم يَومَئِذٍ تَعَبٌ وَجُوعٌ وَكَانَ ذَلِكَ فِي زَمَنِ عُسرَةٍ وَعَامِ مَجَاعَةٍ، وَقَد مَكَثُوا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا يَجِدُونَ طَعَامًا حَتَّى رَبَطَ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى بَطنِهِ حَجَرًا مِنَ الجُوعَ، وَجَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ يَنقُلُ التُّرَابَ وَقَد وَارَى الغُبَارُ جِلدَ بَطنِهِ الشَّرِيفِ ﷺ.
يقول جابرلَمَّا حُفِرَ الخَنْدَقُ رَأَيْتُ بالنَّبيِّ ﷺ خَمَصًا شَدِيدًا (أي جوعًا شديدا)، فَانْكَفَأْتُ إلى امْرَأَتِي، فَقُلتُ: هلْ عِنْدَكِ شَيءٌ؟ فإنِّي رَأَيْتُ برَسولِ اللَّهِ ﷺ خَمَصًا شَدِيدًا، فأخْرَجَتْ إلَيَّ جِرَابًا فيه صَاعٌ مِن شَعِيرٍ، ولَنَا بُهَيْمَةٌ فَذَبَحْتُهَا، وطَحَنَتِ الشَّعِيرَ، ثُمَّ ولَّيْتُ إلى رَسولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَتْ: لا تَفْضَحْنِي برَسولِ اللَّهِ ﷺ وبِمَن معهُ، فَجِئْتُهُ فَسَارَرْتُهُ، فَقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، ذَبَحْنَا بُهَيْمَةً لَنَا وطَحَنَّا صَاعًا مِن شَعِيرٍ كانَ عِنْدَنَا، فَتَعَالَ أنْتَ ونَفَرٌ معكَ، فَصَاحَ النَّبيُّ ﷺ فَقَالَ: يا أهْلَ الخَنْدَقِ، إنَّ جَابِرًا قدْ صَنَعَ طعاما، فَحَيَّ هَلًا بِكُمْ، فَقَالَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ: لا تُنْزِلُنَّ بُرْمَتَكُمْ، ولَا تَخْبِزُنَّ عَجِينَكُمْ حتَّى أجِيءَ.
فَجِئْتُ وجَاءَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ يَقْدُمُ النَّاسَ حتَّى جِئْتُ امْرَأَتِي، فَقَالَتْ: بكَ وبِكَ، فَقُلتُ: قدْ فَعَلْتُ الذي قُلْتِ، فأخْرَجَتْ له عَجِينًا فَبَصَقَ فيه وبَارَكَ، ثُمَّ عَمَدَ إلى بُرْمَتِنَا فَبَصَقَ وبَارَكَ، ثُمَّ قَالَ: ادْعُ خَابِزَةً فَلْتَخْبِزْ، واقْدَحِي مِن بُرْمَتِكُمْ ولَا تُنْزِلُوهَا، وهُمْ ألْفٌ، فَأُقْسِمُ باللَّهِ لقَدْ أكَلُوا حتَّى تَرَكُوهُ وانْحَرَفُوا، وإنَّ بُرْمَتَنَا (قِدْرٌ عَميقٌ مِنَ الحِجارَةِ أَوِ النُّحاسِ) لَتَغِطُّ كما هي، وإنَّ عَجِينَنَا لَيُخْبَزُ كما هُوَ.
وكان رسول اللَّه ﷺ يقول لهم: كلوا ولا تكسروا عظما.
ثم إن رسول اللَّه ﷺ جمع العظام في وسط الجفنة، ووضع يده عليها، ثم تكلم بكلام لم أسمعه إلا أنى أرى شفتيه تتحركان، فإذا الشاة قد قامت تنفض أذنيها، فقال لي: خذ شاتك يا جابر، بارك اللَّه لك فيها.
فأخذتها ومضيت، وإنها لتنازعنى أذنها حتى أتيت بها البيت، فقالت لي المرآة:
ما هذا يا جابر؟ قلت: واللَّه هذه شاتنا التي ذبحناها لرسول اللَّه ﷺ، دعا اللَّه فأحياها لنا، قالت: أنا أشهد أنه رسول اللَّه، أنا أشهد أنه رسول اللَّه، أنا أشهد أنه رسول اللَّه ﷺ.
ولَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَأَصحَابُهُ مِن حَفرِ الخَندَقِ أَقبَلَت قُرَيشٌ وَمَن مَعَهَا فَنَظَرُوا إِلَى الخَندَقِ فَقَالُوا: وَالله إِنَّ هَذِهِ لَمَكِيدَةٌ مَا كَانَتِ العَرَبُ تَكِيدُهَا، وَصَارُوا يَتَنَاوَبُونَ، فَيَغدُو أَبُو سُفيَانَ فِي أَصحَابِهِ يَومًا وَخَالِدُ بنُ الوَلِيدِ يَومًا، وَعَمرُو بنُ العَاصِ يَومًا، وَعِكرِمَةُ بنُ أَبِي جَهلٍ يَومًا، وَضِرَارُ بنُ الخَطَّابِ يَومًا، فَلَا يَزَالُونَ يُجِيلُونَ خَيلَهُم وَيَفتَرِقُونَ مَرَّةً وَيَجتَمِعُونَ أُخرَى وَيُنَاوِشُونَ أَصحَابَ رَسُولِ الله ﷺ، أَي يَقرُبُونَ مِنهُم وَيُقَدِّمُونَ رِجَالَهَم فَيُرمَونَ بِالنَّبلِ وَالحَصَى، وَمَكَثُوا عَلَى ذَلِكَ مُدَّةً لَيسَ فِيهَا حَربٌ إِلَّا ذَلِكَ الرَّميُ.
وكَانَت بَنُو قُرَيظَةَ قَد عَاهَدَت رَسُولُ اللهِ عَلَى أَن لَا تُوَاطِئَ عَلَيهِ عَدُوًّا ثُمَّ إِنَّ عَدُوَّ اللهِ حُيَيَّ بنَ أَخطَبَ سَيِّدَ بَنِي النَّضِيرِ (وَهُم مِنَ اليَهُودِ الَّذِينَ أَجلَاهُم رَسُولُ الله عَنِ المَدِينَةِ) كَانَ يَقُولُ لِقُرَيشٍ فِي مَسِيرِهِ مَعَهُم: إِنَّ قَومِي (يَعنِي بَنِي قُرَيظَةَ) مَعَكُم وَهُم أَهلُ حَلقَةٍ وَافِرَةٍ، فَقَالَ لَهُ أَبُو سُفيَانَ: ائتِ قَومَكَ حَتَّى يَنقُضُوا العَهدَ الَّذِي بَينَهُم وَبَينَ مُحَمَّدٍ، فَخَرَجَ حُيَيٌّ حَتَّى أَتَى كَعبَ بنَ أَسَدٍ القُرَظِيَّ سَيِّدَ بَنِي قُرَيظَةَ وَوَلِيَّ عَهدِهِمُ الَّذِي عَاهَدَهُم عَلَيهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ فَلَم يَزَل بِهِ حَتَّى نَقَضَ عَهدَهُ مَعَ رَسُولِ الله ﷺ.
وَبَعَثَ الله تَعَالَى رِيحًا عَاصِفًا وَهِيَ الصَّبَا فِي لَيَالٍ شَدِيدَةِ البَردِ، فَقَلَعَتِ الأَوتَادَ وَأَلقَت عَلَى المُشرِكِينَ الأَبنِيَةَ، وَأَطفَأَت نِيرَانَهُم، وَصَارَتِ الرِّيحُ تُلقِي الرِّجَالَ عَلَى أَمتِعَتِهِم، وَسَفَّت عَلَيهِمُ التُّرَابَ وَرَمَتهُم بِالحَصَى، وَلَم تُجَاوِزِ الرِّيحُ مُعَسكَرَهُم، وَصَارُوا يَسمَعُونَ فِي نَوَاحِي مُعَسكَرِهِمُ التَّكبِيرَ وَقَعقَعَةَ السِّلَاحِ – وَكَانَ ذَلِكَ مِنَ المَلَائِكَةِ – فَأَلقَى اللهُ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعبَ وَجَعَلَ سَيِّدُ كُلِّ حَيٍّ مِنهُم يَقُولُ لِقَومِهِ: يَا بَنِي فُلَانٍ هَلُمَّ إِلَيَّ، أَي لِلرَّحِيلِ، وَقَد صَحَّ عَن رَسُولِ الله ﷺ أَنَّهُ قَالَ: “إِنِّي نُصِرتُ بِالصَّبَا (وهي الريح الشرقية) وَإِنَّ عَادًا أُهلِكَت بِالدَّبُورِ(وهي الريح الغربية)“، رواهُ أحمدُ في مسنَدِهِ.
اختَلَفَت كَلِمَةُ المُشرِكِينَ وَدَبَّ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعبُ وَالقَلَقُ مَعَ شِدَّةِ الظُّلمَةِ الَّتِي حَلَّت بِهِم مِنِ انطِفَاءِ نيرَانِهِم بِحَيثُ كَانَ الوَاحِدُ مِنهُم لَا يَرَى إِصبَعَهُ إِذَا مَدَّهَا، فَقَالَ أَبُو سُفيَانَ: يَا مَعشَرَ قُرَيشٍ، وَالله إِنَّكُم لَستُم بِدَارِ مُقَامٍ، وَلَقَد هَلَكَ الكُرَاعُ وَالخُفُّ وَلَقِينَا مِن هَذِهِ الرِّيحِ مَا تَرَونَ، فَارتَحِلُوا فَإِنّي مُرتَحِلٌ، فَذَهَبُوا جَمِيعًا، فَلَمَّا انجَلَى الأَحزَابُ قَالَ رَسُولُ الله ﷺ: “الآنَ نَغزُوهُم وَلاَ يَغزُونَنَا، نَحنُ نَسِيرُ إِلَيهِم“، رَوَاهُ البُخَارِيُّ، وَكَانَ كَمَا قَالَ الصَّادِقُ المَصدُوقُ ﷺ، فَلَم تَرجِع قُرَيشٌ بَعدَهَا إِلَى غَزوِ المُسلِمِينَ، وَكَانَ ﷺ يَغزُو المُشرِكِينَ بَعدَ ذَلِكَ وَيَبعَثُ السَّرَايَا وَالبُعُوثَ حَتَّى فَتَحَ الله عَلَيهِ مَكَّةَ المُكَرَّمَةَ.
وفي نَفسِ الشَّهرِ الذي حصلَت فيهِ غزوَةُ الأحزَابِ وقعَت غزوَةُ بنِي قريظَةَ، وذلِكَ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمَّا دَخلَ المدينةَ في اليومِ الذِي انصَرَفَ فيهِ مِن الخندَقِ وضعَ السّلاحَ هو وَالمُؤمِنُونَ، فلَمَّا كانَ الظُّهرُ أتَى جبريلُ النَّبِيَّ ﷺ مُعتَجِرًا بعِمامَةٍ مِن إستَبرَقٍ على بغلةٍ عليهَا قَطِيفةُ دِيباجٍ، فقالَ: أَوَ قَد وضَعتَ السِّلاحَ يا رسولَ الله؟ قال: “نَعَم“، فقال جبريلُ: ما وَضَعَتِ الملائكةُ السِّلاحَ بَعدُ، إنَّ اللهَ يأمُرُكَ يا محمَّدُ بالمَسِيرِ إلى بنِي قريظَةَ، وإِنّي مُتقدِّمٌ إلَيهِم فمُزَلزِلٌ بهِم، فأمَرَ النّبِيُّ ﷺ منادِيًا يُنادِي في النّاسِ: “لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ العَصرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيظَةَ“، فخرَجَ المُسلِمُونَ مُبادِرِينَ إلى بنِي قُرَيظَةَ، فأدرَكَ بعضُهم العَصرَ في الطّرِيقِ فقالُوا: لا نُصَلِّي حتّى نأتِيَهَا، وقال بعضُهم: بل نُصَلِّي، لَم يُرِد مِنَّا ﷺ ذلكَ، وفهِمُوا أنّه ﷺ قالَ ذلكَ على سَبِيلِ الحَثِّ لَهُم في السَّيرِ، فذُكِرَ للنّبِيِّ ﷺ ذلكَ فلَم يُعَنِّف واحِدًا مِنهُم.
وسارَ إليهِم ﷺ في ثَلاثةِ ءالافٍ مِن أصحابِه، وقَدِمَ عليٌّ بالرايَةِ فابتدَرَها النّاسُ وسارُوا حتّى دَنَوا مِن حُصونِ بَنِي قُريظةَ، فنهَضَ عليٌّ وطائِفةٌ معَهُ حتّى أتَوا بَنِي قُرَيظَةَ ونَزلُوا بجِوارِ حُصونِهِم فسَمِعُوا مَسَبّة قُريظةَ لرسولِ اللهِ ﷺ، فانصرَفَ علِيٌّ إلى النّبِيِّ ﷺ فقالَ له ﷺ: “لَعَلَّكَ سَمِعتَ مِنهُم لِي أَذًى“، قال: نعَم يا رَسولَ اللهِ، فقال: “لَو رَأَونِي لَم يَقُولُوا مِن ذَلِكَ شَيئًا“.
وحاصرَ المسلِمُونَ بنِي قُريظَةَ خَمسًا وعِشرينَ ليلةً، فأجهَدَ بنِي قُريظةَ ذلكَ، وبَقِي بنُو قُريظةَ يأبَون النُّزولَ على حُكمِ رسولِ اللهِ ﷺ وهُم فِي حِصارٍ، فتابعَ رسولُ اللهِ ﷺ حصارَهُم حتَّى رضَخُوا وقبِلُوا بالنُّزولِ على حُكمِ رسولِ اللهِ ﷺ، فتواثَبَ الأَوسُ إلى رَسولِ اللهِ ﷺ فقالوا: يا رسولَ اللهِ، إنّهُم مَوالِينَا أي حلفاؤنا ، فقالَ النَّبِيُّ ﷺ: “أَلَا تَرضَونَ أَن يَحكُمَ فِيهِم رَجُلٌ مِنكُم؟“، قالوا: بلَى، قال: “فَذَلِكَ إِلَى سَعدِ بنِ مُعَاذٍ“، فلَمّا حكَّمهُ ﷺ في بَنِي قُريظةَ أتاهُ قَومُهُ وحمَلُوهُ علَى حِمارٍ – ثُمّ أقبَلُوا بهِ إلى النّبِيِّ ﷺ وأحاطُوا بِه في طَرِيقِهم يقولُونَ: يا أبَا عَمرٍو، أحسِن في مَوالِيكَ، فإنَّما وَلَّاكَ رَسولُ اللهِ ذلِكَ لِتُحسِنَ إلَيهِم، فقال لهم: قَد ءَانَ لِسَعدٍ أَن لَا تَأخُذَه في اللهِ لَومةُ لائِمٍ، فَلَمَّا أطَلَّ سعدٌ على النَّبِيِّ ﷺ قالَ ﷺ للأنصَارِ: “قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُم“، فقامَ المسلِمُونَ، وقالُوا: يا أبا عَمرٍو، إنّ رسولَ اللهِ ﷺ قد وَلّاكَ أمرَ مَوالِيكَ لِتَحكُم فيهِم، فقال سعدٌ: علَيكُم بذلِكَ عَهدُ اللهِ ومِيثَاقُه أنَّ الحُكمَ فيهِم ما حَكَمتُ؟ قالوا: نعَم، ثُمّ قالَ للنّاحِيةِ الّتي فيها أُناسٌ مِن ناحيةِ رسولِ الله ﷺ: وعلى مَن هَهُنا مِثلُ ذلكَ؟ فأجابَهُ ﷺ ومَن معَه: “نَعَم“، فقال سَعدٌ: فإِنّي أَحكُم فيهِم أن يُقتَلَ الرِّجالُ وتُسبَى الذَّرارِيُّ والنِّساءُ وتُقسَمَ الأموالُ، فقال له رسولُ اللهِ ﷺ: “لَقَد حَكَمتَ فِيهِم بِحُكمِ اللهِ“، فأمَر رسولُ الله ﷺ ببَنِي قُريظةَ فأُخرِجوا إلى سوقِ المدِينةِ ثُمّ خُندِقَ بها خَنادِقُ، وأمَرَ ﷺ بِمَن أمرَ مِنهُم فضُرِبَت أعناقُهُم في تِلكَ الخنادِقِ وهُم بينَ السِتِّمائةِ إلى السَّبعِمِائةِ، وقُتِل يومَئذٍ حُيَيُّ بنُ أخطَبَ وكعبُ بنُ أسَدٍ، ولَمَّا انقَضَى شأنُ بَنِي قُريظةَ انفَجَر جُرحُ سَعدِ بنِ مُعاذٍ رضي الله عنه فماتَ، فقال ﷺ: “اهتَزَّ العَرشُ لِمَوتِ سَعدِ بنِ مُعَاذٍ“، أي فرحًا بهِ.
ووقعَت غزوةُ الخندقِ وبَنِي قُريظةَ وذِي قردٍ مَعَ غَزوةِ بَنِي المُصطَلِقِ في نَفسِ العامِ عَلَى الصَّحِيحِ، وتُسمَّى غَزوةَ المُرَيسِيعِ أيضًا، وبنو المُصطَلِقِ حَيٌّ مِن خُزاعَةَ، واختُلِف في بَدءِ الأمرِ في هذه الغَزوةِ، فذهَبَ البُخاريُّ في الصّحيحِ إِلى أنَّ النَّبِيَّ ﷺ أغارَ عَلَى بَنِي المُصطَلِقِ وَهُم غارُّونَ، وَأنعامُهُم تُسقَى عَلَى الماءِ، فَقَتَلَ مُقاتِلَتَهُم، وَسَبَى ذَرارِيَّهُم، وهذَا فيهِ رَدٌّ على مَن يَقُولُ بحرِّيَةِ الِاعتِقَادِ والتَّدَيُّنِ.
فليسَ الأمرُ كما يقولُ بعضُ الجُهّالِ أنَّ قِتالَ الكفارِ يكونُ في حالَةِ الدِّفاعِ فقَط (أي إذَا جاؤُوا لِقِتالِ المسلِمِينَ) فالنَّبِيُّ قاتلَ لأجلِ الإسلَامِ، في كثِيرٍ مِنَ المعَارِكِ كانَ هُوَ يَغزُو الكفارَ، لِيُعلَمَ أنَّ دينَ الإسلامِ لم يأتِ بِحُريَّةِ الرأيِ والفكرِ والمُعتقدِ، وهذا القولُ، أي قولُ من جعلَ الإسلامَ قد أعطى حريةً للناسِ في اعتقادِهِم، قولٌ يخالِفُ القرآنَ ويخالفُ شرعَ اللهِ، فقد قالَ ربُّنَا عزَّ وجلَّ: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ﴾، معناه فُرِضَ عليكُم أيُّهَا المسلمُونَ أن تقاتِلُوا الكفارَ لِضمانِ سلامَةِ دينِكُم ولإدخالِ الناسِ في دينِ الإسلامِ دينِ اللهِ،
وقالَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ فيمَا رواهُ مسلِمٌ في صحِيحِهِ: “أُمِرتُ أَن أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشهَدُوا أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤتُوا الزَّكَاةَ فَإِنْ هُم قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَائَهُم وَأَموَالَهُم إِلَّا بِحَقِّ الإِسلَامِ وَحِسَابُهُم عَلَى اللهِ“، فَبِقَولِ الرسولِ هذا تبيَّنَ أنَّ الإسلامَ لم يأتِ بحريةِ الاعتقادِ، واللهُ تعالى يقولُ: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾، أي إِلَّا لآمُرَهُم بعِبادَتِي، فاللهُ لم يُخَيِّرِ الجِنَّ والإنسَ بينَ الكُفرِ وَالإِيمَانِ، ومِن أكبرِ الأدلَّةِ على ذلكَ الجهادُ الذي جعلَهُ اللهُ مِن أسمَى العبَادَاتِ، فهَل يقُولُ عاقلٌ إنَّ الجهادَ مَا فيهِ إِكرَاهٌ، والجِهادُ حصلَ مِنَ الأَنبِيَاءِ الذِينَ قبلَ محمَّدٍ عليهِمُ الصلاةُ والسلامُ، فَهُم قاتَلُوا لإِدخَالِ النَّاسِ فِي الإِسلَامِ، فَرَسُولُ اللهِ مُوسَى أَمَرَ أتبَاعَهُ بِقِتالِ الجبّارِينَ الذينَ كانوا مُسَيطِرينَ على القُدسِ فلَم يُطيعُوهُ فماتَ قبلَ أن يَصِلَ إلَى القُدسِ وَدُفِنَ في أرضٍ قَرِيبَةٍ مِنَ الأَرضِ المقَدَّسَةِ.
وليُعلَم أنهُ ليسَ في الجِهادِ عُدوَانٌ على النَّاسِ بغَيرِ حقٍّ، وليسَ المقصُودُ مِنَ الجهَادِ المالَ، إنَّمَا المقصُودُ منهُ إخرَاجُ الكفارِ من كُفرِهِم إلى دينِ اللهِ رأفةً ورحمةً بهم.
ويُحتَجُّ على مَن يُنكِرُ محاربةَ الكفارِ بدعوَى ما يُسَمُّونَهُ بِحريَّةِ الاعتِقَادِ واختِيَارِ الدِّينِ بمَا فعَلَهُ سيدُنَا أبُو بكرٍ الصدِّيقُ رضِيَ اللهُ عنهُ في النَّاسِ الذِين كفَرُوا لمَّا مَاتَ الرَّسُولُ ﷺ، لأَنَّهُ لمَّا مَاتَ الرسولُ ﷺ كَفَرَ كثِيرٌ مِنَ العَرَبِ، بعضُ القبائلِ أرسلَ إليهِم أبو بكرٍ جيشًا أبادَهُم إلا مَن رجعَ إلى الإسلامِ، وقُتِلَ منَ الصحابَةِ سبعُونَ شخصًا في تلكَ المعركَةِ، فلو كان يجوزُ تَركُ هؤلاءِ على كُفرِهِم لَما أرسلَ إليهِم أبُو بكرٍ جيشًا.
ففِي هذِهِ المعرَكَةِ غزوَةِ بنِي المصطلِقِ صَفَّ رسولُ اللهِ ﷺ أصحابَه، وقد تجهَّزَ الحارِثُ وجَيشُه في مُقابلِهم، ونادَى عمرُ بنُ الخطّابِ رضي الله عنه في بنِي المُصطَلِق: قولُوا لا إله إلا اللهُ تَمنَعوا بها أنفُسَكم وأموالَكُم، فأبَوا ورَمَوا بالنَّبلِ، فرَمَى المُسلِمُون ساعةً بالنَّبلِ ثُمّ حَمَلُوا على المُشرِكينَ حَملةَ رَجُلٍ واحِدٍ فما أفلَتَ مِنهُم إنسانٌ، فقُتِل مِنهُم عشَرةٌ وأُسِرَ سائِرُهم، وسُبِيَتِ النِّساءُ والذُّرِّيّةُ، وغُنِمَتِ الإبِلُ والشّاءُ، ولَم يُقتَل مِن المُسلمِينَ إلا رَجلٌ واحِدٌ هو هِشامُ بنُ صَبابةَ أصابَهُ رَجُلٌ مِن الأنصارِ مِن جَماعةِ عُبادةَ بنِ الصّامتِ وهو يَظُنُّ أنّه مِن العَدُوّ فقُتِلَ هِشامٌ خَطأً.
وتزوجَ رسولُ اللهِ ﷺ جويريةَ بنتَ الحارِثِ وقتَهَا.
فقَد كانَت جُوَيرِيَةُ بِنتُ الحارِث بنِ أبِي ضِرَارٍ في سَهمِ ثابِتِ بنِ قَيسٍ رضي الله عنه أوِ ابنٍ لَهُ، فكاتَبَها على تِسعِ أَوَاقٍ مِن ذَهَبٍ، فبَينَا النَّبِيُّ ﷺ علَى الماءِ إذ دَخَلَت علَيهِ تَسأَلُه في كِتابَتِها وقالَت: يا رسُولَ اللهِ، إنّي امرَأةٌ مُسلِمةٌ وتَشَهَّدتُ وأخبَرَتهُ بِما جَرَى لَها واستَعانَتهُ في كِتابَتِها، فقال ﷺ: “فَهَل لَكِ إِلَى مَا هُوَ خَيرٌ مِنهُ؟”، قالت: وما هوَ يا رسولَ اللهِ؟، قالَ: “أُؤَدِّي عَنكِ كِتَابَتَكِ وَأَتَزَوَّجُكِ“، قالت: فلَمّا سَمِعَ النّاسُ أنّ رَسولَ اللهِ ﷺ قَد تَزوَّجَ جُوَيرِيةَ أَرسَلُوا ما فِي أَيدِيهِم مِنَ السَّبيِ فأَعتَقُوهُم وقالوا: أصهَارُ رَسولِ اللهِ ﷺ.
قَالَتْ عائشة: فَلَقَدْ أُعْتِقَ بِتَزْوِيجِهِ إِيَّاهَا مِائَةُ أَهْلِ بَيْتٍ مِنْ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، فَمَا أَعْلَمُ امْرَأَةً كَانَتْ أَعْظَمَ بَرَكَةً عَلَى قَوْمِهَا مِنْهَا “.
وكانَ اسمُهَا بَرَّةَ فسَمَّاهَا رسُولُ اللهِ ﷺ جُوَيرِيَةَ وبَنَى بِهَا ﷺ وجَعلَ عِتقَها صَداقَهَا وهِيَ ابنَةُ عِشرِينَ سَنةً وقتَئِذٍ، توُفِّيَت رضيَ الله عنها وهي ابنةُ خَمسٍ وسِتّينَ سنةً في شهرِ ربيعٍ الأَوَّلِ مِن سَنَةِ سَبعٍ وخمسِينَ في خلَافَةِ معاوِيَةَ، وقيلَ: سنةَ سِتِّين.
وَحَصَلَ فِي السَّنَةِ الخَامِسَةِ حَادِثَةُ الكَذِبِ والافتِراءِ على السيّدَةِ عائشةَ رضي الله عنها المُسَمَّاةُ بحادِثَةِ الإِفكِ، والإِفكُ الكَذِبُ، فاتَّهَم فيهَا بعضُ النّاسِ عائشةَ رضيَ الله عنهَا بالفاحِشةِ وهي مِن ذلِكَ بَراءٌ، فأنزَلَ الله تَعالَى بَراءتَها في القُرءانِ الكِريمِ، وقد وَرَد في قِصّة الإفكِ حَدِيثٌ طَوِيلٌ رواه البُخارِيُّ ومُسلِمٌ وابنُ حِبّانَ في الصِّحاحِ والنَّسائِيُّ في سُنَنه وأحمدُ في المسنَد وغيرُهم، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ:
لا بد أن نعْتَقِدَ وُجُوْبًا البَرَاءَةَ (لِعَائِشَة) رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَفْقَهِ نِسَاءِ العَالَمِيْنَ مِمَّارُمِيَتْ بِه إِفْكًا وَقُذِفَتْ.
متن الحديث الصحيح بين الأقواس والشرح خارج الأقواس:
(قَالَتْ) أُمُّ الْمُؤْمِنِيْنَ (عَائِشَةُ) رَضِيَ اللهُ عَنْهَا (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ) بِاللَّفْظِ (بَيْنَ أَزْوَاجِهِ) فَهُوَ لَم يَكُنْ يَكْتُبُ (فَأَيُّهُنَّ) أَيْ مِنْ نِسَائِهِ، (خَرَجَ سَهْمُهَا) لِلْخُرُوْجِ (خَرَجَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَعَهُ) وَلَم يَكُنْ يَقْضِي لِلْمُقِيْمَاتِ إِذَا عَادَ، وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ يَقْضِي الزَّوْجُ لِلْمُقِيْمَاتِ دُوْنَ الْمُسَافِرَاتِ لَتَوَفَّرَ حَظُّ الْمُقِيْمَاتِ لِأَنَّ الْمُسَافِرَةَ تَحَمَّلَتْ مَشَاقَّ بِإِزَاءِ مُقَامِ الزَّوْجِ مَعهَا (قَالَتْ عَائِشَةُ) رَضِيَ اللهُ عَنْهَا (فَأَقْرَعَ بَيْنَنَا) لِلْخُرُوْجِ (فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا) بِنَفْسِهِ وَهِيَ غَزْوَةُ بَنِي الْمُصْطَلِقِ وتُسَمَّى غَزْوَةَ الْمُرَيْسِيْعِ وَكَانَتْ سَنَةَ سِتٍّ مِنْ الْهِجْرَةِ (فَخَرَجَ فِيهَا) أَيْ فِي الخُرُوْجِ مَعَهُ فِي هَذِهِ الغَزْوَةِ (سَهْمِيْ) عَلَيْهِنَّ (فَخَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بَعْدَ مَا أُنْزِلَ الحِجَابُ) أَيِ الأَمْرُ بِالحِجَابِ أَيْ حِجَابُ نِسَاءِ النَّبِيِّ عَنْ رُؤْيَةِ الرِّجَالِ لَهُنَّ، وَذَلِكَ فِي السَّنَةِ السَّادِسَةِ أَوِ الخَامِسَةِ مِنَ الهِجْرَةِ، فَأَزْوَاجُ الرَّسُوْلِ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ يَجُوْزُ لَهُنَّ أَنْ يَكْشِفْنَ وُجُوهَهُنَّ، فَنَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ الوَحْيُ بِإِيْجَابِ فَرْضِيَّةِ سَتْرِ وُجُوْهِهِنَّ وَهَذَا لِأَزْوَاجِهِ فَقَطْ، وَأَمَّا غَيْرُهُنَّ فَلَمْ يَفْرِضِ اللهُ عَلَيْهِنَّ هَذَا، فَتَغْطِيَةُ الوَجْهِ لَيْسَ فَرْضًا إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِ الرَّسُوْلِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، (فَكُنْتُ أُحْمَلُ فِي هَوْدَجِي وَأُنْزَلُ فِيهِ) وَالهَوْدَجُ مَحْمِلٌ لَهُ قُبَّةٌ تُسْتَرُ بالقُمَاشِ يُوْضَعُ عَلَى ظَهْرِ الْبَعِيرِ ويَرْكَبُ عَلَيْهِ النِّسَاءُ لِيَكُونَ أَسْتَرَ لَهُنَّ مِنْ كُلِّ الجَوَانِبِ (فَسِرْنَا حَتَّى إِذَا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنْ غَزْوَتِهِ تِلْكَ) أي بَنِي الْمُصْطَلِقِ (وَقَفَلَ) أَيْ رَجَعَ مِنْ غَزْوَتِهِ (دَنَوْنَا) أَيْ قَرَبْنَا (مِنَ الْمَدِينَةِ) الْمُنَوَّرَةِ نَزَلَ مَنْزِلًا فَبَاتَ بِهِ بَعْضَ اللَّيْلِ ثُمَّ (ءَاذَنَ) أَيْ أَعْلَمَ (بِالرَّحِيلِ) قُدُمًا إِلَى الْمَدِيْنَةِ (فَقُمْتُ حِينَ ءَاذَنُوا) أَيْ أَعْلَمَ السَّامِعُوْنَ مِن مُنَادِي رَسُوْلِ اللهِ غَيْرَهُم (بِالرَّحِيلِ فَمَشَيْتُ) مُنْفَرِدَةً لِقَضَاءِ حَاجَةٍ لِي (حَتَّى جَاوَزْتُ الجَيْشَ، فَلَمَّا قَضَيْتُ شَأْنِي) الَّذِي تَوَجَّهَتُ بِسَبَبِهِ (أَقْبَلْتُ) رَاجِعَةً (إِلَى رَحْلِي) حَيْثُ أُنْزِلْتُ (فَلَمَسْتُ صَدْرِي، فَإِذَا عِقْدٌ لِي) أَيْ قِلَادَةٌ كَانَتْ فِي عُنُقِي (وَكَانَتْ أُمُّهَا أُمُّ رُوْمَانَ قَدْ أَدْخَلَتْهَا بِهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ)تَقُوْلُ عَائِشَةَ: فَإِذَا بِهَذَا العِقْدِ (قَدِ) انْسَلَّ مِنْ عُنُقِي وَ(انْقَطَعَ) وَأَنَا لَا أَدْرِي (فَرَجَعْتُ) عَوْدِي عَلَى بَدْئِي إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي ذَهَبْتُ إِلَيْهِ (فَالْتَمَسْتُ) أَيْ فَطَلَبْتُ (عِقْدِي) أَبْحَثُ عَنْهُ (فَحَبَسَنِي ابْتِغَاؤُهُ) أَيْ مَكَثْتُ فِي طَلبِه.
(قَالَتْ) عَائِشَةُ (وَأَقْبَلَ الرَّهْطُ) وهُو عَدَدٌ مِنْ ثَلَاثَةٍ إِلَى عَشَرَةٍ مِنَ القَوْمِ وَفِيْهِم رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو مُوَيْهِبَةُ، وَهُمُ (الَّذِينَ كَانُوا يُرَحِّلُونِي) أَيْ يَرْحَلُوْنَ بِي (فَاحْتَمَلُوا هَوْدَجِي) أَيْ حَمَلُوْهُ (فَرَحَلُوهُ) أَيْ وَضَعُوْهُ (عَلَى) ظَهْرِ (بَعِيرِي الَّذِي كُنْتُ أَرْكَبُ عَلَيْهِ) فِي هَوْدَجِي (وَهُمْ يَحْسِبُونَ) أَيْ يَظُنُّوْنَ (أَنِّي فِيهِ) أَيْ فِي الهَوْدَجِ (وَكَانَ النِّسَاءُ) إِجْمَالًا (إِذْ ذَاكَ) أَيْ فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ (خِفَافًا) لَسْنَ ثَقِيْلَاتِ الوَزْنِ لأَنَّهُنَّ لم يَثْقُلْنَ مِن سِمَنٍ (وَلَمْ يَغْشَهُنَّ) أَيْ ولَمْ يَكْثُرْ عَلَيْهِنَّ (اللَّحْمُ) فَيَرْكَبَ بَعْضُهُ بَعْضًا و(إِنَّمَا) كُنَّ (يَأْكُلْنَ العُلْقَةَ) أَيِ القَلِيْلَ (مِنَ الطَّعَامِ) الَّذِي يُسَكِّنُ الرَّمَقَ (فَلَمْ يَسْتَنْكِرِ القَوْمُ) الَّذِيْنَ يَحْمِلُوْنَ الهَوْدَجَ (خِفَّةَ الهَوْدَجِ حِينَ رَفَعُوهُ) عَنِ الأَرْضِ (وَحَمَلُوهُ) لِيَضَعُوْهُ عَلَى ظَهْرِ البَعِيْرِ مَعَ أَنَّ عَائِشَةَ لَيْسَتْ فِيْهِ، وَذَلِكَ أَنَّهَا لِخِفَّةِ جِسْمِهَا فَإِنَّ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ هَوْدَجَهَا لَا يُفَرِّقُون بَيْنَ وُجُودِهَا فِيهِ وَعَدَمِهَا (وَ)هِيَ مَعَ نَحَافَتِهَا قَالَتْ: (كُنْتُ جَارِيَةً) أَيْ بِنْتًا (حَدِيثَةَ السِّنِّ) أَيْ صَغِيْرَةً، فَكانَ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي خِفَّتِهَا وأَبْعَدُ عَنْ أَنْ يَسْتَنْكِرُوا الثِّقَلَ الَّذِي اعْتَادُوهُ (فَبَعَثُوا الجَمَلَ) أَيْ أَثَارُوْهُ لِلرَّحِيْلِ (فَسَارُوا) بِهِ مَعَ الجَيْشِ (وَوَجَدْتُ) حِيْنَهَا (عِقْدِي) لَكِنْ كَانَ ذَلِكَ (بَعْدَمَا اسْتَمَرَّ الجَيْشُ) أَيْ ذَهَبَ مَاضِيًا وَأَنَا لَا أَعْلَمُ بِذَهَابِهِم (فَجِئْتُ مَنَازِلَهُمْ) أَيْ حَيْثُ كَانُوا يَنْزِلُوْنَ (وَلَيْسَ بِهَا) أَيْ وَلَم يَكُنْ بَقِيَ (مِنْهُمْ) فِي مَكَانِ نُزُوْلِهِم أَحَدٌ، لَا (دَاعٍ ولَا مُجِيبٌ)
قَالَتْ عَائِشَةُ: (فَتَيَمَّمْتُ) أَيْ قَصَدْتُ (مَنْزِلِي) أَيْ مَكَانَ نُزُوْلِي (الَّذِي كُنْتُ بِهِ) فِي هَوْدَجِي (وَظَنَنْتُ) أَيْ عَلِمْتُ (أَنَّهُمْ سَيَفْقِدُونِي) (فَيَرْجِعُونَ إِلَيَّ) لِيَأْخُذُوْنِي (فَبَيْنَا) بِغَيْرِ مِيْمٍ (أَنَا جَالِسَةٌ فِي مَنْزِلِي) أَيْ مَكَانِ نُزُوْلِي فِي اللَّيْلِ مُنْفَرِدَةً (غَلَبَتْنِي عَيْنِي) (فَنِمْتُ) وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ نَوْمِهَا شِدَّةُ الْغَمِّ الَّذِي حَصَلَ لَهَا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ بِخِلَافِ الْهَمِّ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي السَّهَرَ، أَوْ أَنَّهَا نَامَتْ بِسَبَبِ ما وَقَعَ لَهَا مِنْ بَرْدِ السَّحَرِ مَعَ رُطُوبَة بَدَنِهَا وَصِغَرِ سِنِّهَا، وَقِيْلَ أَيْضًا: إِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَطَفَ بِهَا فَأَلْقَى عَلَيْهَا النَّوْمَ لِتَسْتَرِيحَ مِنْ وَحْشَةِ الِانْفِرَادِ فِي الْبَرِّيَّةِ بِاللَّيْلِ.
قَالَتْ عَائِشَةُ: (وَكَانَ) الصَّحَابِيُّ أَبُو عَمْرٍو (صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطِّلِ السُّلَمِيُّ) مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ (ثُمَّ الذَّكْوَانِيُّ) مَنْسُوبٌ إِلَى ذَكْوَانَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ بُهْثَةَ، يَتَخَلَّفُ (مِنْ وَرَاءِ الجَيْشِ) أَيْ يَتَأَخَّرُ عَنْهُم وَيَأْتِي ءَاخِرَهُم، فَإِذَا رَحَلُوا تَأَخَّرَ عَنْهُم ثُمَّ لَحِقَ بِهِم لِأَجْلِ أنَّ وَظِيْفَتَهُ كَانَتْ أَنْ يَلْتَقِطَ مَا يَسْقُطُ مِنْ مَتَاعِ الْجَيْشِ لِيَرُدَّهُ إِلَيْهِم. قَالَتْ عَائِشَةُ: (فَـ)مَشَى صَفْوَانُ (فأَصْبَح عِنْدَ مَنْزِلِي) أَيْ حَيْثُ أَنَا قَاعِدَةٌ وَقَدْ غَلَبَنِي النَّوْمُ (فَرَأَى سَوَادَ إِنْسَانٍ نَائِمٍ) أَيْ شَخْصَ ءادَمِيٍّ نَائِمٍ لَا يَظْهَرُ مَنْ هُوَ، لَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّ وَجْهَهَا انْكَشَفَ لَمَّا نَامَتْ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهَا: (فَعَرَفَنِي حِينَ رَءَانِي) لأنه (كَانَ رَءانِي قَبْلَ) نُزُوْلِ الأَمْرِ بـ(الحِجَابِ) فَلِذَلِكَ عَرَفَنِي لَمَّا رَءَانِي الآنَ عِنْدَ مَنْزِلِي نَائِمَةً، (فَاسْتَيْقَظْتُ) مِنْ نَوْمِي (بِاسْتِرْجَاعِهِ) أَيْ عِنْدَ سَمَاعِي لِقَوْلِهِ: إِنَّا للِه وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُوْنَ (حِينَ عَرَفَنِي) مَنْ أَكُوْنُ، وَهُوَ بَعْدُ عَلَى رَاحِلَتِهِ، (فَخَمَّرْتُ) أَيْ غَطَّيْتُ (وَجْهِي) عَلَى الفَوْرِ (بِجِلْبَابِي) أَيِ الثَّوْبُ الَّذِي كَانَ عَلَيَّ (وَوَاللَّهِ مَا تَكَلَّمْنَا بِكَلِمَةٍ، ولَا سَمِعْتُ مِنْهُ كَلِمَةً غَيْرَ اسْتِرْجَاعِهِ) أَوَّلَ مَا اسْتَيْقَظْتُ، وَكَانَ ذَلِكَ مُبَالَغَةٌ مِنْهُ فِي الْأَدَبِ وَإِعْظَامٌ لها وَإِجْلَالٌ. فَقَالَتْ: (وَهَوَى) أَيْ نَزَلَ عَنْ بَعِيْرِهِ وَأَسْرَعَ (حَتَّى أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ) أَيْ برَكَهَا (فَقُمْتُ إِلَيْهَا) أَيْ إِلَى الرَّاحِلَةِ (فَرَكِبْتُهَا، فَانْطَلَقَ) صَفْوَانُ حَالَ كَوْنِهِ (يَقُودُ بِي الرَّاحِلَةَ حَتَّى أَتَيْنَا الجَيْشَ) حَالَ كَوْنِنَا (مُوغِرِينَ) أَيْ دَاخِلِيْنَ فِي الوَغْرَةِ، وَهِيَ شِدَّةُ الحَرِّ أَوَّلَ الظَّهِيْرَةِ، فَوَصَلْنَا أَوَّلَ الظَّهِيْرَةِ (وَهُمْ) أَيِ الجَيْشُ وَقْتَئِذٍ (نُزُولٌ) أَيْ نَازِلُوْنَ فِي مَكَانٍ يَسْتَرِيْحُوْنَ فِيْهِ.
(قَالَتْ) عَائِشَةُ (فَهَلَكَ) فِي شَأْنِي (مَنْ هَلَكَ) بِقَوْلِ الْبُهْتَانِ وَالْقَذْفِ (وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَ) أَيْ بَاشَرَ مُعْظَمَ (الإِفْكِ) أَيِ الإِثْمِ (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ ابْنُ سَلُولَ) فِي رِجَالٍ مِنَ الْخَزْرَجِ، و”ابْنُ سَلُولَ” بِرَفْعِ “ابنُ” لأنَّهُ لَيْسَ صِفَةً لـ”ِأُبَيٍّ” وَإِنَّمَا هُوَ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِعَبْدِ اللَّهِ فَـ”أُبَيٌّ” أَبُوهُ وَ”سَلُولُ” أُمُّهُ وَلِهَذَا يُكْتَبُ “ابن” بِالْأَلِفِ.
(قَالَ عُرْوَةُ) بنُ الزُّبَيْرِ بنِ العَوَّامِ أَحَدُ رُوَاةِ هَذَا الحَدِيْثِ: (أُخْبِرْتُ) بِضَمِّ الهَمْزَةِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُوْلِ (أَنَّهُ) أَيْ حَدِيْثُ الإِفْكِ (كَانَ يُشَاعُ وَيُتَحَدَّثُ بِهِ عِنْدَهُ) أَيْ فِي بَيْتِ عَبْدِ اللهِ بنِ أُبَيٍّ (فَيُقِرُّهُ) هُوَ أَيِ يُقِرُّ الكَلَامَ الَّذِي يُشَاعُ وَيُتَحَدَّثُ بِهِ عِنْدَهُ (وَيَسْتَمِعُهُ) وَلَا يُنْكِرُهُ وَلَا يَنْهَى عَنْهُ بَلْ (وَيَسْتَوْشِيهِ) أَيْ وَيَطْلُبُ الزِّيَادَةَ مِنَ الْمُتَحَدِّثِ فِيْهِ لِيَفْشِيْهِ.
(وَقَالَ عُرْوَةُ) بنُ الزُّبَيْرِ (أَيْضًا) قَالَتْ عَائِشَةُ (لَمْ يُسَمَّ مِنْ أَهْلِ الإِفْكِ) عِنْدِي (أَيْضًا إِلَّا) ثَلَاثَةٌ هُم (حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ) الشَّاعِرُ (وَمِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ) القُرَشِيُّ وَقَدْ شَهِدَ بَدْرًا ثمَّ خَاضَ فِي الْإِفْكِ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ عَائِشَةَ قَرَابَةٌ، فَأُمُّهُ بِنْتُ خَالَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيْقِ (وَ)ثَالِثَةٌ هِيَ (حَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ) أُخْتُ أُمِّ الْمُؤْمِنِيْنَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، وَكَانَت عِنْد مُصْعَبِ بنِ عُمَيْرٍ فَقُتِلَ عَنْهَا يَوْمَ أُحُدٍ فَتَزَوَّجَهَا طَلْحَة بنُ عُبَيْدِ اللهِ، وَكَانَ هَؤُلَاءِ الَّذِين سُمُّوا لِعَائِشَةَ ثَلَاثَةً (فِي نَاسٍءَاخَرِينَ) غَيْرِهِم، قَالَتْ عَائِشَةُ (لَا عِلْمَ لِي بِهِمْ) أَيْ بِأَسْمَاءِ غَيْرِ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ (غَيْرَ) أَنِّي أَعْلَمُ (أَنَّهُمْ) أَيْ أَهْلَ الإِفْكِ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّهُم (عُصْبَةٌ) أَيْ جَمَاعَةٌ، وَالعُصْبَةُ عَشَرَةٍ إِلَى أَرْبَعِيْنَ (كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى) فِي شَأْنِ أَهْلِ الإِفْكِ: ((إِنَّ الَّذِيْنَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ)) (وَإِنَّ) مُتَوَلِّي وَمُبَاشِرَ مُعْظَمِ الإِفْكِ أَيْ (كِبْرَ ذَلِكَ يُقَالُ لَهُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ).
(قَالَ عُرْوَةُ) بِسَنَدِهِ ( كَانَتْ عَائِشَةُ) رَضِيَ اللهُ عَنْهَا (تَكْرَهُ أَنْ يُسَبَّ عِنْدَهَا حَسَّانُ) بنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ (وَتَقُولُ: إِنَّهُ) أَيْ حَسَّانُ هُوَ (الَّذِي قَالَ) وَهُوَ يُخَاطِبُ بِذَلِكَ مَنْ كَانَ يَهْجُو النَّبِيَّ ﷺ مِنَ الكُفَّارِ [الوافِر]:
فَإِنَّ أَبِي وَوَالِدَهُ وَعِرْضِيْ
لِعِرْضِ مُحَمَّدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ
وَمَعْنَاهُ (فَإِنَّ أَبِي) أَيْ حَسَّانَ (وَوَالِدَهُ) وَاسْمُهُ الْمُنْذِرُ بنُ حَرَامِ بنِ عَمْرِو وَقِيْلَ: عَاشَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ حَسَّانَ وَأَبِيهِ وَجَدِّهِ وَجَدِّ أَبِيْهِ مائَةً وَعِشْرِيْنَ سَنَةً (وَعِرْضِي) وَالعِرْضُ هُوَ مَوضِعُ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ مِنَ الْإِنْسَانِ، سَوَاءٌ كَانَ فِي نَفْسِهِ أَوْ فِي سَلَفِهِ أَو مَنْ يُنْسَبُ إِلَيْهِ (لِعِرْضِ مُحَمَّدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ) أَيْ أَقِي عِرْضَ مُحَمَّدٍ وَأَحْفَظُهُ حِفْظًا بِأَبِي وَجَدِّي وعِرْضِي، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ لِحَسَّانَ: “إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ لَا يَزَالُ يُؤَيِّدُكَ، مَا نَافَحْتَ عَنِ اللهِ وَرَسُولِهِ” أَيْ دَافَعْتَ وَخَاصَمْتَ، وَالْمُرَادُ بِمُنَافَحَتِهِ هِجَاءُ الْمُشْرِكِينَ وَمُحَارَبَتُهُم عَلَى أَشْعَارِهِم، وَقَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: “هَجَاهُمْ حَسَّانُ فَشَفَى وَاشْتَفَى” أَيْ شَفَى الْمُؤْمِنِينَ وَاشْتَفَى هُوَ بِمَا نَالَهُ مِنْ أَعْرَاضِ الْكُفَّارِ وَمَزَّقَهَا وَنَافَحَ عَنِ الإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِيْنَ.
(قَالَتْ عَائِشَةُ) رَضِيَ اللهُ عَنْهَا (فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، فَاشْتَكَيْتُ) أَيْ مَرِضْتُ (حِينَ قَدِمْتُ) الْمَدِيْنَةَ (شَهْرًا، وَالنَّاسُ يُفِيْضُونَ) أَيْ يَخُوْضُوْنَ (فِي قَوْلِ أَصْحَابِ الإِفْكِ) وَيُكْثِرُوْنَ مِنَ القَوْلِ فِيْهِ وَأَنَا (لاَ أَشْعُرُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ) أَيْ وَالأَمْرُ الَّذِي كَانَ (يَرِيبُنِي) أَيْ يُوْهِمُنِي وَيُشَكِّكُنِي (فِي) حَالِ (وَجَعِي) أَيْ مَرَضِي بِوُجُوْدٍ شَىْءٍ مَا (أَنِّي لَا أَعْرِفُ) أَيْ لَا أَرَى (مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ اللُّطْفَ) أَيِ الرِّفْقَ (الَّذِي كُنْتُ أَرَى مِنْهُ حِينَ أَشْتَكِي) الوَجَعَ عَادَةً أَيْ كُنْتُ أَرَى مِنْهُ حِيْنَ أَمْرَضُ لُطْفًا غَيْرَ الَّذِي رَأَيْتُهُ فِي وَجَعِي هَذَا (إِنَّمَا) كَانَ فِي مَرَضِي هَذَا (يَدْخُلُ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ) وَأُمِّي تُمَرِّضُنِي (فَيُسَلِّمُ، ثُمَّ يَقُولُ) لِأُمِّي (كَيْفَ تِيكُمْ) إِشَارَةً إِلَى الْمُؤْنَّثِ، مِثْلُ “ذَاكُمْ” لِلْمُذَكَّرِ. قَالَتْ عَائِشَةُ: (ثُمَّ يَنْصَرِفُ) ﷺ مِنْ عِنْدِي وَلَا يُكَلِّمُنِي وَلَا يَقْعُدُ عِنْدِي (فَذَلِكَ) كَانَ (يَرِيبُنِي) أَيْ يُقْلِقُنِي. هُوَ الرَّسُوْلُ لَم يَشُكَّ فِي عَائِشَةَ مِنْ أَوَّلِ الأَمْرِ أَنَّهَا زَنَتْ، بَلْ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّهَا بَرِيْئَةٌ، وَأَرَادَ أَنْ يَقُوْلَ إِنَّهَا بَرِيْئَةٌ، وَإِنَّمَا حَتَّى لَا يَقُوْلَ بَعْضُ ضُعَفَاءِ العُقُوْلِ إِنَّهُ مِنْ شِدَّةِ حُبِّهِ بِهَا كَانَ يَقُوْلُ إِنَّهَا بَرِيْئَةٌ.
قَالَتْ عَائِشَةُ: (وَلَا أَشْعُرُ بِالشَّرِّ) الَّذِي حَاكَهُ أَهْلُ الإِفْكِ وَأَشَاعُوْهُ بَيْنَ النَّاسِ (حَتَّى خَرَجْتُ حِينَ نَقَهْتُ) أَيْ أَفَقْتُ مِنَ الْمَرَضِ (فَخَرَجْتُ مَعَ أُمِّ مِسْطَحٍ قِبَلَ الْمَنَاصِعِ) وَهِيَ مَوَاضِعُ خَارِجَ الْمَدِينَةِ يُتَخَلَّى فِيهَا لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ، وَأُمُّ مِسْطَحٍ اسْمُهَا سَلْمَى بِنْتُ أَبِي رُهْمٍ (وَكَانَ) هُنَاكَ (مُتَبَرَّزَنَا) أَيْ مَوْضِعَ قَضَاءِ حَاجَتِنَا (وَكُنَّا لَا نَخْرُجُ) إِلَى الْمَنَاصِعِ (إِلَّا لَيْلًا إِلَى لَيْلٍ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ نَتَّخِذَ الكُنُفَ) جَمْعُ كَنِيْفٍ أَيِ الْمَكَانَ الْمُتَّخَذَ لِقَضَاءِ الحَاجَةِ (قَرِيبًا مِنْ بُيُوتِنَا، قَالَتْ) عَائِشَةُ (وَأَمْرُنَا) فِي قَضَاءِ الحَاجَةِ قَبْلَ اتِّخَاذِ الكُنُفِ هُوَ (أَمْرُ العَرَبِ الأُوَلِ) فِي قَضَاءِ (فِي البَرِّيَّةِ) خَارِجَ الْمَدِيْنَةِ (قِبَلَ) أَيْ نَاحِيَةَ (الغَائِطِ) وَهُوَ الْمَكَانُ الْمُنْخَفِضُ مِنَ الأَرْضِ الَّذِي يَحْجُبُ مَنْ يَقْضِي حَاجَتَهُ عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ، وَجَمْعُهُ الغِيْطَان، فَقَدْ كَانَتِ الْعَرَبُ تَذْهَبُ عِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ إِلَى مَكَانٍ مُنْخَفِضٍ مِنْ جِهَةِ الْحَيِّ بَعِيدٍ عَنْ بُيُوتِ سُكْنَاهُمْ وَذَلِكَ هُوَ الغَائِطُ، ثُمَّ سُمِّيَ الخَارِجُ غَائِطًا بَاسْمِ الْمَكَانِ الَّذِي يُجَاوِرُهُ.
(قَالَتْ فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ) وَاسْمُهَا سَلْمَى (وَهِيَ ابْنَةُ أَبِي رُهْمِ بْنِ المُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ) وَاسْمُ أَبِي رُهْم أَنِيْسٌ (وَأُمُّهَا بِنْتُ صَخْرِ بْنِ عَامِرٍ خَالَةُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَابْنُهَا مِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ بْنِ عَبَّادِ بْنِ الْمُطَّلِبِ، فَأَقْبَلْتُ أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ قِبَلَ بَيْتِي) أَيْ جِهَتَهُ (حِينَ فَرَغْنَا مِنْ شَأْنِنَا) أَيْ مِنْ شَأْنِ الْمَسِيْرِ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ (فَعَثَرَتْ) أَيْ تَعَثَّرَتْ (أُمُّ مِسْطَحٍ فِي مِرْطِهَا) أَيْ كِسَائِهَا (فَقَالَتْ) أُمُّ مِسْطَحٍ (تَعِسَ مِسْطَحٌ) أَيْ انْكَبَّ وَعَثَرَ، وَكَأَنَّهَا انْشَغَلَ فِكْرُها بِمَا فَعَلَهُ مِسْطَحٌ مَعَ أَهْلِ الإِفْكِ فِي شَأْنِ عَائِشَةَ، فَلَمَّا حَصَلَ لَهَا مَا حَصَلَ فِي تَعَثُّرِهَا مِنْ جِهَةِ مِسْطَحٍ دَعَتْ عَلَيْهِ بِأَنْ يَنْكَبَّ بِوَجْهِهِ. قَالَتْ عَائِشَةُ (فَقُلْتُ لَهَا: بِئْسَ مَا قُلْتِ) يَا أُمَّ مِسْطَحٍ (أَتَسُبِّينَ) مِسْطَحًا (رَجُلًا شَهِدَ بَدْرًا) أَيْ كَيْفَ تَسُبِّيْنَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ وَهُمُ الَّذِيْنَ أَثْنَى عَلَيْهِم رَسُوْلُ اللهِ ﷺ وَبَشَّرَهُم بِالجَنَّةِ فَقَالَ: “لَا يَدْخُل أَحَدٌ مِمَّن شَهِدَ بَدْرًا والحُدَيْبِيَةَ النَّارَ“، وَمِسْطَحٌ أَيْضًا مِنَ الْمُهَاجِرِيْنَ الأَوَّلِيْنَ (فَقَالَتْ) أُمُّ مِسْطَحٍ (أَيْ هَنْتَاهْ) كَأَنَّهَا قَالَتْ: يَا هَذِهِ إِنَّكِ لَغَافِلَةٌ عَمَّا يَقُولُ النَّاسُ وَعَنْ مَعْرِفَةِ مَا يَحْصُلُ مِنْ مَكَايِدَ وَشُرُوْرٍ (وَلَمْ تَسْمَعِي مَا قَالَ) مِسْطَحٌ (قَالَتْ) عَائِشَةُ (وَقُلْتُ: مَا قَالَ؟ فَأَخْبَرَتْنِي) أُمُّ مِسْطَحٍ (بِقَوْلِ أَهْلِ الإِفْكِ) وَهُوَ أَنَّ مِسْطَحًا وَفُلَانًا وَفُلَانًا يَجْتَمِعُونَ فِي بَيْتِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ يَتَحَدَّثُونَ عَنِّي وَعَنْ صَفْوَانَ بنِ الْمُعَطِّلِ وَيَرْمُونَنِي بِهِ.
(قَالَتْ) عَائِشَةُ (فَازْدَدْتُ مَرَضًا عَلَى مَرَضِي، فَلَمَّا رَجَعْتُ إِلَى بَيْتِي دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: “كَيْفَ تِيكُمْ”، فَقُلْتُ لَهُ: أَتَأْذَنُ لِي أَنْ ءاتِيَ) إِلَى (أَبَوَيَّ؟ قَالَتْ) عَائِشَةُ (وَ)أَنَا حِيْنَئِذٍ (أُرِيدُ أَنْ أَسْتَيْقِنَ الخَبَرَ) الَّذِي سَمِعْتُهُ (مِنْ قِبَلِهِمَا) أَيْ مِنْ جِهَتِهِمَا (قَالَتْ: فَأَذِنَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ) فِي ذَلِكَ فَأَتَيْتُهُمَا (فَقُلْتُ لِأُمِّي: يَا أُمَّتَاهُ، مَاذَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ) بِهِ أَيْ فِي شَأْنِي (قَالَتْ) أُمُّ رُوْمَان (يَا بُنَيَّةُ هَوِّنِي عَلَيْكِ) الأَمْرَ (فَوَاللَّهِ لَقَلَّمَا كَانَتِ امْرَأَةٌ قَطُّ وَضِيئَةً) أْي حَسَنَةً جَمِيْلَةً (عِنْدَ رَجُلٍ يُحِبُّهَا لَهَا ضَرَائِرُ) أَيْ زَوْجَاتٌ لِزَوْجِهَا (إِلَّا كَثَّرْنَ) بَعْضُ نِسَاءِ ذَلِكَ الزَّمَنِ القَوْلَ (عَلَيْهَا) فِي عَيْبِهَا وَنَقْصِهَا، فَلَيْسَ قَصْدُ أُمِّ رُوْمَانَ أَنَّ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِيْنَ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ هُنَّ اللَّوَاتِي كُنَّ يَعِبْنَهَا وَيُكَثِّرْنَ عَلَيْهَا القَوْلَ السَّيِّءَ فَذَلِكَ لَم يَحْصُلْ مِنْهُنَّ، وَإِنَّمَا قَصَدَتْ أن ذلك يحصل من بعض نساء ذلك الزمن لمن كان لها ضرائر.
(قَالَتْ) عَائِشَةُ (فَقُلْتُ) مُتَعَجِّبَةً مِنْ حُصُوْلِ هَذَا (سُبْحَانَ اللَّهِ، أَوَلَقَدْ تَحَدَّثَ النَّاسُ بِهَذَا).
ثُمَّ رَجَعَتْ عَائِشَةُ إِلَى بَيْتِ رَسُوْلِ اللهِ وَ(قَالَتْ: فَبَكَيْتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ حَتَّى أَصْبَحْتُ لَا يَرْقَأُ) أَيْ لَا يَنْقَطِعُ (لِي دَمْعٌ ولَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ) أَيْ لَا أَنَامُ (ثُمَّ أَصْبَحْتُ أَبْكِي، قَالَتْ: وَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ) رَضِيَ اللهُ عَنْهُ (وَأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ حِينَ اسْتَلْبَثَ الوَحْيُ) أَيْ طَالَ لُبْثُ نُزُوْلِهِ (يَسْأَلُهُمَا) عَنْ ذَلِكَ أَيْ زَوْجَتِهِ.
(قَالَتْ) عَائِشَةُ (فَأَمَّا أُسَامَةُ فَأَشَارَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِالَّذِي يَعْلَمُ مِنْ بَرَاءَةِ أَهْلِهِ وَبِالَّذِي يَعْلَمُ لَهُمْ فِي نَفْسِهِ) مِنَ الوُدِّ (فَقَالَ أُسَامَةُ) أَمْسِكْ (أَهْلَكَ، ولَا نَعْلَمُ) عَلَيْهِم (إِلَّا خَيْرًا) (وَأَمَّا عَلِيٌّ) فَلَمْ يَشُكَّ فِي عَائِشَةَ وَلَا اتَّهَمَهَا، قَالَ الحَافِظُ الزَّيْنُ العِرَاقِيُّ: رَأَى انْزِعَاجَ النَّبِيِّ ﷺ بِهَذَا الْأَمْرِ وَقَلَقَهُ فَأَرَادَ إرَاحَةَ خَاطِرَهُ (فَقَالَ) له كلاما ليريح خاطره ثم قال لَهُ (يَا رَسُولَ اللَّهِ، سَلِ الجَارِيَةَ) بَرِيْرَةَ، مَوْلَاةَ عَائِشَةَ، عَنْ أَمْرِ عَائِشَةَ (تَصْدُقْكَ) الخَبَرَ، وَلَم يَقُلْ عَلِيٌّ هَذَا الَّذِي قَالَهُ بُغْضًا وَلَا عَدَاوَةً لِعَائِشَةَ.
(قَالَتْ) عَائِشَةُ (فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَرِيرَةَ، فَقَالَ: أَيْ بَرِيرَةُ) يَعْنِي يَا بَرِيْرَةُ، أَتَشْهَدِينَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، قَالَتْ: نَعَم، قَالَ: فَإِنِّي سَائِلُكِ عَنْ شَىْءٍ فَلَا تَكْتُمِينَهُ، قَالَتْ: نَعَمْ. وَهُوَ ﷺ يَعْتَقِدُ أَنَّ عَائِشَةَ بَرِيْئَةٌ، قَالَ (هَلْ رَأَيْتِ) مِنْ عَائِشَةَ (مِنْ شَىْءٍ يَرِيبُكِ) أَيْ مِنْ جِنْسِ مَا يَتَحَدَّثُ بِهِ أَهْلُ الإِفْكِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ السُّؤَالُ شَكًّا مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي عَائِشَةَ بَلْ هُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّهَا بَرِيْئَةٌ (قَالَتْ لَهُ بَرِيرَةُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ، مَا رَأَيْتُ عَلَيْهَا أَمْرًا قَطُّ أَغْمِصُهُ) أَيْ أَعِيْبُهَا وَأَنْتَقِصُهَا بِهِ وَأَطْعَنُ عَلَيْهَا (غَيْرَ أَنَّهَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ) أَيْ أَنَّهَا شَابَّةٌ، وَمَا كُنْتُ أَعِيبُ عَلَيْهَا إِلَّا أَنِّي كُنْتُ أَعْجِنُ عَجِيْنِي وَءَامُرُهَا أَنْ تَحْفَظَهُ لِأَقْتَبِسَ نَارًا فَأَخْبِزَهُ فَكَانَتْ (تَنَامُ) عَنْهُ أَيْ (عَنْ عَجِينِ أَهْلِهَا، فَتَأْتِي الدَّاجِنُ فَتَأْكُلُهُ) وَالدَّاجِنُ الشَّاةُ الَّتِي تَأْلَفُ الْبَيْت وَلَا تَخْرُجُ إِلَى الْمَرْعَى.
(قَالَتْ) عَائِشَةُ (فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنْ يَوْمِهِ فَاسْتَعْذَرَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ) الَّذِي ءَاذَاهُ فِي أَهْلِهِ مَعْنَاهُ: مَنْ يَنْصُرُنِي فِيْمَنْ ءَاذَانِي فِي أَهْلِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أُؤَدِّبَهُ (وَهُوَ) ﷺ فِي ذَلِكَ (عَلَى الْمِنْبَرِ) وَقِيْلَ مَعْنَاهُ مَنْ يَنْتَقِمُ لِي مِمَّنْ ءَاذَانِي فِي أَهْلِي (فَقَالَ) فِي اسْتِعْذَارِهِ ﷺ (يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، مَنْ يَعْذِرُنِي مِنْ رَجُلٍ) هُوَ عَبْدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ (قَدْ بَلَغَنِي عَنْهُ أَذَاهُ فِي أَهْلِي) أَيْ زَوْجَتِي فِي تُهَمَتِهِ وَسَبِّهِ إِيَّاهَا (وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا خَيْرًا، وَلَقَدْ ذَكَرُوا) فِي تُهَمَتِهِم (رَجُلًا) هُوَ صَفْوَانُ بنُ الْمُعَطِّلِ (مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إِلَّا خَيْرًا، وَمَا يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا مَعِي) فَلَا يَدْخُلُ فِي بَيْتِي قَطُّ إِلَّا وَأَنَا حَاضِرٌ، وَلَا غِبْتُ فِي سَفَرٍ إِلَّا غَابَ مَعِي (قَالَتْ) عَائِشَةُ (فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ) وَهُوَ سَيِّدُ الأَوْسِ وَ(أَخُو بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ، فَقَالَ أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْذِرُكَ) مِنْهُ أَيْ أَنْصُرُكَ وَلَا أَلُوْمُكَ عَلَى مَا تَفْعَلُ بِمَنْ ءَاذَاكَ فِي أَهْلِكَ (فَإِنْ كَانَ) هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي ءَاذَاكَ فِي أَهْلِكَ (مِنَ) قَوْمِي أَيْ قَبِيْلَةِ (الأَوْسِ ضَرَبْتُ عُنُقَهُ) أَيْ قَتَلْتُهُ (وَإِنْ كَانَ) ذَاكَ (مِنْ إِخْوَانِنَا مِنَ) قَبِيْلَةِ (الخَزْرَجِ أَمَرْتَنَا فَفَعَلْنَا أَمْرَكَ) فِيْهِ، (قَالَتْ) عَائِشَةُ (فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الخَزْرَجِ) لَمَّا سَمِعَ كَلَامَ سَعْدٍ سَيِّدَ الأَوْسِ و(هُوَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَهُوَ) سَيِّدُ الأَنْصَارِ وَ(سَيِّدُ الخَزْرَجِ) فَصَارَ الأَمْرُ بَيْن سَيِّدِ الأَوْسِ سَعْدِ بنِ مُعَاذٍ وَسَيِّدِ الخَزْرَجِ سَعْدِ بنِ عُبَادَةَ. (قَالَتْ) عَائِشَةُ (وَكَانَ) سَعْدُ بنُ عُبَادَةَ سَيِّدُ الخَزْرَجِ (قَبْلَ ذَلِكَ) الَّذِي حَصَلَ (رَجُلًا صَالِحًا) أَيْ كَامِلًا لَم يَظْهَرْ مِنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ تَعَصُّبٌ بِالحَمِيَّةِ لِقَوْمِهِ (وَلَكِنِ احْتَمَلَتْهُ الحَمِيَّةُ) أَيْ أَغْضَبَهُ التَّعَصُّبُ لِقَوْمِهِ (فَقَالَ لِسَعْدٍ) سَيِّدِ الأَوْسِ (كَذَبْتَ) فَإِنَّهُ لَو كَانَ مِنْ قَوْمِك لَم تُرِدْ قَتْلَهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمِنَا أَرَدْتَ قَتْلَهُ، (لَعَمْرُ اللَّهِ) أَيْ أَحْلِفُ بِبَقَاءِ اللهِ أَنَّكَ يَا سَيِّدَ الأَوْسِ إِنْ كَانَ مِنْ قَوْمِنا (لاَ تَقْتُلُهُ) أَيْ لَا تَقْتُلُ مِنَّا أَحَدًا (وَلاَ تَقْدِرُ عَلَى قَتْلِهِ) لِأَنَّنَا نَمْنَعُكَ مِنْ قَتْلِهِ (وَ)أَنْتَ كَاذِبٌ فِيْمَا تَدَّعِيْهِ لِأَنَّهُ (لَوْ كَانَ) الرَّجُلُ الَّذِي ءَاذَى النَّبِيَّ (مِنْ رَهْطِكَ) أَيْ مِنْ قَوْمِكَ (مَا أَحْبَبْتَ) أَيْ مَا أَرَدْتَ (أَنْ يُقْتَلَ) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ قَوْمِكَ فَأَنْتَ تُحِبُّ أَنْ يُقْتَلَ. ثُمَّ سَعْدُ بنُ عُبَادَةَ قَالَ هَذَا بِحَسَبِ مَا ظَهَرَ لَهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ وَلِأَنَّهُ كَانَ أَخَذَهُ التَّعَصُّبُ لِقَوْمِهِ الخَزْرَجِ، وَكَانَ فِي الجَاهِلِيَّةِ بَيْنَ الأَوْسِ وَالخَزْرَجِ تَشَاحُنٌ (فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ) مِنَ الأَوْسِ (وَهُوَ ابْنُ عَمِّ سَعْدٍ) بنِ مُعَاذٍ مُنْتَصِرًا لِكَلَامِ سَيِّدِهِم (فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ) سَيِّدِ الخَزْرَجِ رَدًّا عَلَيْهِ (كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ لَنَقْتُلَنَّهُ) وَلَوْ كَانَ مِنَ الْخَزْرَجِ إِذَا أَمَرَنَا النَّبِيُّ ﷺ بِذَلِكَ وَلَيْسَتْ لَكُمْ قُدْرَةٌ عَلَى مَنْعِنَا مِنْ ذَلِكَ (فَإِنَّكَ مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنِ الْمُنَافِقِينَ) أي تَفْعَلُ فِعْلَ الْمُنَافِقِينَ وَلَمْ يُرِدْ النِّفَاقَ الْحَقِيقِيَّ.
(قَالَتْ) عَائِشَةُ (فَثَارَ الحَيَّانِ الأَوْسُ وَالخَزْرَجُ) أَيِ اشْتَعَلُوا غَضَبًا وتَنَاهَضُوا للْعَصَبِيَّةِ (حَتَّى هَمُّوا) أَيْ قَصَدُوا الْمُحَارَبَةَ وَكَادُوا (أَنْ يَقْتَتِلُوا) أَيْ تَنَاهَضُوا لِلنِّزَاعِ وَالاقْتِتَالِ حَقِيْقَةً (وَ)كُلُّ ذَلِكَ حَاصِلٌ مِنْهُم وَ(رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ) أَمَامَهُم (قَالَتْ) عَائِشَةُ (فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُخَفِّضُهُمْ) أَيْ يُسَكِّتُهُم، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ صَارَ يُوْمِئُ ِبِيَدِهِ إِلَى النَّاسِ هَهُنَا وَهَهُنَا (حَتَّى) هَدَأَ الصَّوْتُ، فَلَمَّا سَكَّتَهُم (سَكَتُوا) جَمِيْعًا (وَسَكَتَ) النَّبِيُّ ﷺ.
(قَالَتْ) عَائِشَةُ (فَبَكَيْتُ يَوْمِي ذَلِكَ كُلَّهُ لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ، قَالَتْ: وَأَصْبَحَ أَبَوَايَ) أَبُو بَكْرٍ وَأُمُّ رُوْمَانَ (عِنْدِي، وَقَدْ بَكَيْتُ لَيْلَتَيْنِ وَيَوْمًا، لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ ولَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ حَتَّى إِنِّي لَأَظُنُّ أَنَّ البُكَاءَ فَالِقٌ كَبِدِي) أَيْ سَيَشُقُّهُ.
قَالَتْ عَائِشَةُ: (فَبَيْنَا أَبَوَايَ جَالِسَانِ عِنْدِي (دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَيْنَا) وَقَدْ صَلَّى الْعَصْرَ فِي الْمَسْجِدِ وَقَدِ اكْتَنَفَنِي أَيْ أَحَاطَ بِي أَبَوَايَ عَن يَمِيْنِي وَعَن شِمَالي (فَسَلَّمَ) ﷺ (ثُمَّ جَلَسَ) عِنْدِي (قَالَتْ: وَلَمْ يَجْلِسْ عِنْدِي مُنْذُ قِيلَ) فِيَّ (مَا قِيلَ قَبْلَهَا، وَقَدْ لَبِثَ) ﷺ (شَهْرًا لَا يُوحَى إِلَيْهِ فِي شَأْنِي بِشَىْءٍ) قُرْءَانٍ أَوْ غَيْرُهُ (قَالَتْ: فَتَشَهَّدَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حِينَ جَلَسَ) بَعْدَ حَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ (ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ يَا عَائِشَةُ، إِنَّهُ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا) أَيْ مِمَّا رَمَاكَ بِهِ أَهْلُ الإِفْكِ (فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً، فَسَيُبَرِّئُكِ اللَّهُ) أَيْ بِوَحْيٍ يُنَزِّلُهُ بِذَلِكَ قُرْءانًا أَوْ غَيْرِهِ (وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ) أَيْ إِنْ كَانَ وَقَعَ مِنْكِ ذَنْبٌ عَلَى خِلَافِ الْعَادَةِ (فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ) وَلَيْسَ الاسْتِغْفَارُ شَرْطٌ لِصِحَّةِ التَّوْبَةِ، ثُمَّ قَالَ (فَإِنَّ العَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ) بِذَنْبِهِ (ثُمَّ تَابَ) إِلَى اللهِ تَعَالَى التَّوْبَةَ الْمَقْبُوْلَةَ شَرْعًا (تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ) أَيْ قَبِلَ تَوْبَتَهُ.
(قَالَتْ) عَائِشَةُ (فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَقَالَتَهُ) أَيْ فَرَغَ مِنْ حَدِيْثِهِ (قَلَصَ) أَيْ انْقَطَعَ (دَمْعِي) وَاسْتَمْسَكَ نُزُوْلُهُ مَا بَغَتَنِي مِنَ الكَلَامِ (حَتَّى مَا أُحِسُّ مِنْهُ) أَيْ مَا أَجِدُ مِنْ دَمْعِي (قَطْرَةً) لِفَرْطِ حَرَارَةِ الْمُصِيْبَةِ (فَقُلْتُ لِأَبِي: أَجِبْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنِّي فِيمَا قَالَ) وَذَلِكَ مِنْ بَابِ تَفْوِيضِ الْكَلَامِ إِلَى الْكِبَارِ لِأَنَّهُمْ أَعْرَفُ بِمَقَاصِدِهِ وَبِاللَّائِقِ بِالْمَوَاطِنِ مِنْهُ، وَأَبَوَاهَا يَعْرِفَانِ حَالَهَا. قَالَتْ (فَقَالَ أَبِي: وَاللهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ) أَيْ لِأَنَّ الأَمْرَ الَّذِي سَأَلَكِ عَنْهُ لَيْسَ لَنَا فِيْهِ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى مَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَبْلَ نُزُولِ الْوَحْيِ مِنْ حُسْنِ الظَّنِّ بِكِ (فَقُلْتُ لِأُمِّي: أَجِيبِي رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فِيمَا قَالَ: قَالَتْ أُمِّي: وَاللهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقُلْتُ: وَأَنَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ: لَا أَقْرَأُ مِنَ القُرْءانِ كَثِيرًا) أَرَادَتْ بِذَلِكَ التَّمْهِيْدَ لِمَا سَيَأْتِي مِنْ أَنَّهَا لَم تَسْتَحْضِرِ اسْمَ يَعْقُوْبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَّا أَنَّهَا تَذَكَّرَتْ أَنَّهُ أَبُو يُوْسُفَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، فَقَالَتْ: (فَوَاللَّهِ لَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مَثَلًا إِلَّا أَبَا يُوسُفَ) أَيْ يَعْقُوْبَ وَقَدْ نَسِيَتْ اسْمَهُ وَقْتَئِذٍ (حِينَ قَالَ) يَعْقُوْبُ فِي مِحْنَتِهِ (ﱡﭐﱺ ﱻﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁﱠ ثُمَّ تَحَوَّلْتُ) عَنْ مَكَانِي (وَاضْطَجَعْتُ عَلَى فِرَاشِي، وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي حِينَئِذٍ بَرِيئَةٌ) مِمَّا يَقُوْلُ فِيَّ أَهْلُ الإِفْكِ (وَ)أَنَا أُقَدِّرُ فِي نَفْسِي (أَنَّ اللَّهَ مُبَرِّئِي) أَيْ سَيُظْهِرُ لِلنَّاسِ أَنِّي بَرِيْئَةٌ (بِـ)سَبَبِ (بَرَاءَتِي) فِي الحَقِيْقَةِ (وَلَكِنْ وَاللهِ مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ مُنْزِلٌ فِي شَأْنِي وَحْيًا يُتْلَى) أَيْ قُرْءَانًا (لَشَأْنِي فِي نَفْسِي كَانَ أَحْقَرَ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ فِيَّ بِأَمْرٍ) أَيْ أَنْ يَنْزِلَ قُرْءَانٌ فِي شَأْنِي (وَلَكِنْ كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي النَّوْمِ رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللَّهُ بِهَا) وَرُؤْيَا الأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ أَيْ لَيْسَتْ مِنْ تَلَاعُبِ الشَّيْطَانِ
قَالَتْ عَائِشَةُ (فَوَاللهِ مَا رَامَ) أَيْ مَا فَارَقَ (رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَجْلِسَهُ ولَا خَرَجَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ البَيْتِ) الَّذِينَ كَانُوا فِيْهِ حِينَئِذٍ حُضُورًا (حَتَّى أُنْزِلَ عَلَيْهِ) الوَحْيُ (فَأَخَذَهُ) عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنَ البُرَحَاءِ) مِنْ شِدَّةِ الحَالِ عِنْدَ نُزُوْلِ الوَحْيِ عَلَيْهِ (حَتَّى إِنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ) أَيْ يَنْزِلُ وَيَقْطُرُ (مِنْهُ مِنَ العَرَقِ مِثْلُ الجُمَانِ) أَيِ اللُّؤْلُؤِ الأَبْيَضِ (وَهُوَ فِي يَوْمٍ شَاتٍ مِنْ ثِقَلِ القَوْلِ) أَيِ الوَحْيِ (الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ).
(قَالَتْ) عَائِشَةُ (فَسُرِّيَ) أَيْ كُشِفَ وَأُزِيْلَ (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ) مَا هُوَ فِيْهِ (وَهُوَ يَضْحَكُ) سُرُوْرًا (فَكَانَتْ أَوَّلَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا أَنْ قَالَ) لِي (يَا عَائِشَةُ) “احْمَدِي اللهَ”، كَمَا جَاءَ ذَلِكَ فِي رِوَايَةٍ (أَمَّا اللَّهُ فَقَدْ بَرَّأَكِ) أَيْ مِمَّا نَسَبَهُ أَهْلُ الإِفْكِ إِلَيْكِ بِمَا أَنْزَلَ مِنَ القُرْءَانِ. (قَالَتْ: فَقَالَتْ لِي أُمِّي: قُومِي إِلَيْهِ) أَيْ إِلَى رَسُوْلِ اللهِ وَقَدْ بَشَّرَكِ بِمَا بَشَّرَكِ بِهِ، (فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَا أَقُومُ إِلَيْهِ) وَهَذَا مِنْهَا مِنْ بَابِ حُبِّهَا لَهُ وَالدَّلَالِ، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: إِنَّمَا قَالَتْ ذَلِكَ إِدْلَالًا كَمَا يَدُلُّ الْحَبِيبُ عَلَى حَبِيبِهِ، فَقَالَتْ (فَإِنِّي لَا أَحْمَدُ إِلَّا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ) الَّذِي أَنْعَمَ عَلَيَّ وَأَنْزَلَ بَرَاءَتِي (قَالَتْ: وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ((إِنَّ الَّذِيْنَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ)) العَشْرَ الآيَاتِ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ هَذَا فِي بَرَاءَتِي) فَطَابَتْ نُفُوْسُ الْمُؤْمِنِيْنَ وَتَابَ إِلَى اللهِ تَعَالَى مَنْ كَانَ تَكَلَّمَ مِنَ الْمُسْلِمِيْنَ فِي ذَلِكَ وَأُقِيْمَ الحَدُّ عَلَى مَنْ أُقِيْمَ عَلَيْهِ.
وَ(قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ) بَعْدَ ذَلِكَ (وَكَانَ) مِنْ قَبْلُ (يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ) أَيْ لِأَجْلِ قَرَابَتِهِ (وَفَقْرِهِ) وَمِنَ الصِّلَةِ لِلْقُرْبَى أَنْ يُبْذَلَ الْمَالُ لِفُقَرَائِهِم، قَوْلَهُ: (وَاللَّهِ لَا أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا، بَعْدَ الَّذِي قَالَ لِعَائِشَةَ) أَيْ عَنْهَا (مَا قَالَ) مِنَ الإِفْكِ (فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ((وَلَا يَأْتَلِ)) أَيْ وَلَا يَحْلِف ((أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ)) فِي الدِّيْن ((وَالسَّعَةِ)) فِي الدُّنْيَا ((أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَىٰ وَالْمَسَاكِينَ)) أَيْ لَا يَحْلِفْ أَنْ لَا يُحْسِنَ إِلَيْهِم، فَنَزَلَ ذَلِكَ (إِلَى قَوْلِه ((وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)) وَفِي نَفْسِ الآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ((أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ)) فَـ(قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ) رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عِنْدَ ذَلِكَ (بَلَى وَاللهِ إِنِّي لَأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي، فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ الَّتِي كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ) قَبْلَ ذَلِكَ (وَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَنْزِعُهَا مِنْهُ أَبَدًا).
(قَالَتْ عَائِشَةُ) رَضِيَ اللهُ عَنْهَا (وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ سَأَلَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ) أُمِّ الْمُؤْمِنِيْنَ (عَنْ أَمْرِي، فَقَالَ لِزَيْنَبَ: مَاذَا عَلِمْتِ) عَلَى عَائِشَةَ (أَوْ رَأَيْتِ) مِنْهَا (فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحْمِي سَمْعِي وَبَصَرِي) أَيْ أَصُوْنُهَا فَلَا أَقُوْلُ سَمِعْتُ مَا لَمْ أَسْمَعْهُ وَرَأَيْتُ مَا لَمْ أَرَهُ (وَاللهِ مَا عَلِمْتُ) عَلَى عَائِشَةَ (إِلَّا خَيْرًا). قَالَتْ عَائِشَةُ: وَهِيَ) زَيْنَبُ (الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي مِنْ) بَيْنِ (أَزْوَاجِ النَّبِيِّ ﷺ) الأُخْرَيَاتِ أَيْ تُضَاهِيْنِي بِجَمَالِهَا وَمَكَانِهَا عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ (فَعَصَمَهَا) أَيْ حَفِظَهَا (اللَّهُ بِالوَرَعِ) أَيْ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى دِيْنِهَا أَنْ تَقُوْلَ بِقَوْلِ أَهْلِ الإِفْكِ، (قَالَتْ) عَائِشَةُ (وَطَفِقَتْ) أَيْ جَعَلَتْ (أُخْتُهَا حَمْنَةُ تُحَارِبُ لَهَا) أَيْ تَتَعَصَّبُ فَتَحْكِي مَا يَقُوْلُهُ أَهْلُ الْإِفْكِ (فَهَلَكَتْ) حَمْنَةُ بِالإِثْمِ أَيْ أَثِمَتْ (فِيمَنْ هَلَكَ) مِنْ أَهْلِ الإِفْكِ. فرضي الله عن أمنا الطاهر العفيفة عائشة ولعنة الله على من يطعن به اليوم وهي كمال قال فيها حسان بن ثابت
حَصَانٌ رَزَانٌ ما تُزَنّ بِرِيبَةٍ (أي: عَفيفةٌ صاحِبةُ وَقارٍ لا تُتَّهمُ بالشَّكِّ والظَّنِّ لعِفَّتِها) *** وتُصْبِحُ غَرْثَى من لحومِ الغوَافِلِ (أي: تُصبِحُ جائعةً مِن لُحومِ المؤمِناتِ الغافِلاتِ، والمَقْصودُ أنَّها لا تَغْتابُ أحَدًا، فلا تَأكُلُ مِن لَحمِه، كما أخبَرَ تعالَى عنِ المُغْتابِ: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا})
حَلِيْلَةُ خَيْرِ النَّاسِ دِيْنًا وَمَنْصِبًا *** نَبِيِّ الهُدَى وَالمَكرُماتِ الفوَاضِلِ
عَقِيْلةُ حَيٍّ مِنْ لُؤَيِّ بنِ غَالِبٍ *** كِرَامِ الْمَسَاعِي مَجْدُهَا غَيرُ زَائِلِ
مُهَذَّبَةٌ قَدْ طَيَّبَ اللهُ خِيمَهَا *** وَطَهَّرَهَا مِنْ كُلِّ سُوْءٍ وَبَاطِلِ
فبَراءةُ عائشةَ رضي الله عنها مِن الإفكِ وهِيَ براءةٌ قَطعيّةٌ بِنَصّ القرءانِ العَزِيزِ، فلَو تَشكَّكَ فيها إنسانٌ والعياذُ بالله صارَ كافِرًا مُرتدًّا بإجماعِ المُسلمِينَ، قال ابنُ عبّاسٍ وغَيرُه: لَم تَزنِ امرأةُ نَبِيٍّ مِن الأنبياءِ صلَواتُ اللهِ وسَلامُه علَيهِم أجمَعِينَ.
فائدة
ماذا أفعل حتى يستغفر لي الحجر والشجر وأعافى من الأمراض؟
وروى أحمد عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ الْمُخَارِقِ قَالَ: «أَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ فَقَالَ لِي: ” يَا قَبِيصَةُ، مَا جَاءَ بِكَ؟ ” قُلْتُ: كَبِرَتْ سِنِّي، وَرَقَّ عَظْمِي، فَأَتَيْتُكَ لِتُعَلِّمَنِي مَا يَنْفَعُنِي اللَّهُ بِهِ. قَالَ: ” يَا قَبِيصَةُ، مَا مَرَرْتَ بِحَجَرٍ وَلَا شَجَرٍ وَلَا مَدَرٍ إِلَّا اسْتَغْفَرَ لَكَ. يَا قَبِيصَةُ، إِذَا صَلَّيْتَ الصُّبْحَ فَقُلْتَ ثَلَاثًا: سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ، تُعَافَى مِنَ الْعَمَى وَالْجُذَامِ وَالْفَالِجِ. يَا قَبِيصَةُ قُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِمَّا عِنْدَكَ، وَأَفِضْ عَلَيَّ مِنْ فَضْلِكَ، وَانْشُرْ عَلَيَّ مَنْ رَحِمَتْكَ، وَأَنْزِلْ عَلَيَّ مِنْ بَرَكَاتِكَ».
دعاء
والله تعالى أعلم وأحكم، والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى ءاله وصحبه الطيبين الطاهرين، يا أرحم الراحمين اللهم اقسم لنا من خشيَتك ما تحول بهِ بيننَا وبين معاصِيك ومن طاعَتِك ما تبلِّغُنَا به جنَّتَك ومِنَ اليقينِ ما تُهوِّنُ به علينا مصائِبَ الدنيا اللهم متِّعنا بأسماعِنا وأبصارِنا وقوَّتِنَا ما أحيَيتَنَا واجعَلهُ الوارِثَ منا واجعل ثأرَنا على من ظلمَنا وانصُرنا على من عادَانا ولا تجعَل مصيبَتَنا في دينِنا ولا تجعلِ الدنيَا أكبرَ همِّنَا ولا مبلَغَ علمِنا ولا تُسَلِّط علينَا من لَا يرحَمُنَا اللهم استر عوراتِنا وآمن روعاتِنا اللهم أصلح لنا شأنَنَا كله ولا تكِلنَا إلى أنفُسِنَا طرفَةَ عينٍ اللهم إنا نسأَلُكَ أن تبلِّغَنَا مِنَ الخَيرِ آمالَنَا اللهم إنا نسألُك العفوَ والعافيةَ وحسنَ الختامِ اللهم عافِنَا في أبدانِنَا ربَّنَا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار اللهم إنك عفوٌ تحب العفوَ فاعف عنا اللهم أجرنا من النار اللهم أدخلنا الجنةَ بلا عذابٍ اللهم اجعلنا هداةً مهتَدِين ولا تجعَلنا ضالِّين ولا مُضلِّين اللهم أصلِح أحوالَنَا، وأحوالَ ذرِّيَتِنَا، وأحوالَ أهالِينَا، وأحوالَ أحبابِنَا واجمع على الحقِّ كلمتَنا اللهم فقِّهنَا في دينِنَا اللهم اجعَلنَا من أهلِ العِلمِ اللهم اجعلنا من أهلِ التقوى اللهم اجعَلنا منَ الذينَ لا خوف عليهِم ولَا هُم يحزَنُونَ، اللهم أمِدَّنَا بمَدَدِ الحبيبِ محمدٍ عليه الصلاة والسلام وأَفِض علَينَا مِن بركَاتِهِ ﷺ وارزُقنَا شفاعتَهُ وعطِّف قلبَه الشريفَ علينا اللهم ارزُقنا قلبًا خاشعًا ولسانًا ذاكرًا وجسدًا على البلاءِ صابرًا اللهم إنا نعوذُ بك مِن عمَلٍ لا يُتَقَبَّلُ، ومِن دعاءٍ لا يُسمَعُ اللهم ارزقنا الحلالَ الطيبَ يا أرحم الراحمين اللهم اكفِنَا بحلالِك عن حرامِك وأغنِنَا بفَضلِكَ عمَّن سواك اللهم أغنِنَا بفضلِك عمن سواك اللهم أكرِمنا برؤيةِ ولقاءِ سيدنا محمدٍ عليه الصلاة والسلام يا أرحمَ الراحمينَ اللَّهُمَّ فكَّ أرض غزة وفلسطين منَ اليهودِ الغاصبينَ. اللَّهُمَّ عليكَ باليهودِ المعتدينَ، اللَّهُمَّ زلزلِ الأرضَ تحتَ أقدامِهم وأرِنَا ذُلَّهُم يا ربَّ العالمينَ، اللَّهُمَّ شَتِّتْ شَملَ المعتدينَ وبدِّدْ قوَّتَهم وفَرِّقْ جمعَهم، اللَّهُمَّ الطُفْ بالمسلمينَ وانصرْهُم يا أرحمَ الرَّاحمينَ يا رَبَّ العالمينَ، اللَّهُمَّ عليكَ بأعداءِ الدِّينِ، اللهُم الطُفْ بالمسلمينَ في شتى بقاعِ الأرضِ وَوَحِّدْ كلمتَهم وانصرْهم على أعداءِ الدّينِ، اللهم مَكِّنِ المسلمينَ مِنْ تحريرِ القدسِ الشّريفِ وأرضِ فلسطينَ وأرض غزة.
اللهم أعِنَّا علَى الصيامِ والقِيامِ وتقبَّل منَّا يا رَبَّ العالَمِينَ، اللهم اجعَلنَا مِن عتقَاءِ هذَا الشهرِ الكريمِ ومِنَ المقبُولِينَ يا أكرَمَ الأكرَمِينَ، اللهم أعتِقنَا فِيهِ مِنَ النيرَانِ يا اللهُ يا اللهُ يا اللهُ، اللهم أرِنَا ليلَةَ القدرِ المبارَكَةِ يا رَبَّ العالمينَ وارزُقنَا فيهَا دعوَةً مجَابَةً بجَاهِ سَيِّدِ الأولِينَ وَالآخِرِينَ يا اللهُ، اللهم ارفَعِ البَلَاءَ وَالوَبَاءَ والأَمرَاضَ عَنِ المسلِمِينَ في مشَارِقِ الأرضِ ومغَارِبِهَا إكرامًا لوِجهِ محمَّدٍ ﷺ يا ربَّ العالمِينَ، اللهم توفَّنَا عَلَى كامِلِ الإيمَانِ وارزُقنَا شهَادَةً في سبيلِكَ ومَوْتًا في بلَدِ نبيِّكَ ﷺ، واحشرنا على نُوقٍ رحَائِلُهَا مِن ذهَبٍ آمنِينَ مطمَئِنِّينَ يا رَبَّ العَالَمِينَ، اللهم ارزقنَا حُسنَ الخِتَامِ والمَوتَ على دِينِكَ دينِ الإسلامِ ورؤيَةَ سيدِ الأنَامِ سيدنَا مُحَمَّدٍ عليهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، احشُرنَا فِي زُمرَتِهِ وأَورِدنَا حوضَهُ الشريفَ يا ربَّ العالمين.
وصلَّى اللهُ وسلَّمَ على سيدِ الأنبياءِ والمرسلِينَ وسلَامٌ علَى المُرسَلِينَ والحَمدُ للهِ ربِّ العالَمِينَ.