شرح ألفية السيرة النبوية للحافظ زين الدين العراقي (22)

المقدمة

الحَمدُ لله المُثِيبِ مَن ذَكَرَهُ، المُغدِقِ سَحَائِبَ النَّوَالِ عَلَى مَن شَكَرَهُ، المَانِعِ شَآبِيبَ رَحمَتِهِ عَمَّن كَفَرَهُ، المُخَصِّصِ بِتَقرِيبِهِ مَن أَقَرَّ بِوَحدَانِيَّتِهِ وَأَلقَى لِأَدِلَّتِهَا فِكرَهُ، أَشكُرُهُ عَلَى مَا مَنَّ بِهِ مِنَ النِّعَمِ، وَأَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا الله وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا وَذُخرَنَا وَمَلَاذَنَا مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، خَيرُ مَن نَبَّأَهُ، وَأَشرَفُ مَن أَرسَلَهُ، صَلَّى الله وَسَلَّمَ عَلَيهِ وزَادَهُ فَضلًا وَشَرَفًا لَدَيهِ، الَّذِي طَوَى الدَّوَاوِينَ كُلَّهَا وَأَبقَى دِيوَانَهُ، وَعَلَى أَبِي بَكرٍ الَّذِي آنَسَهُ فِي الغَارِ وَصَلَّى مَكَانَهُ، وَعَلَى عُمَرَ الَّذِي أَذَلَّ كِسرَى وَأَقطَعَ إِيوَانَهُ، وَعَلَى عُثمَانَ الَّذِي جَهَّزَ جَيشَ العُسرَةِ وَمَانَهُ، وَعَلَى عَلِيٍّ الَّذِي قُلُوبُ أَهلِ السُّنَّةِ إِلَيهِ حَنَّانَة، وَعَلَى عَمِّهِ العَبَّاسِ الكَبِيرِ القَدرِ العَظِيمِ المَكَانَة، وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ، وَتَابِعِيهِ وَحِزبِهِ، صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَينِ إِلَى يَومِ الطَّامَّة، أَمَّا بَعدُ:

فَقَد وَصَلنَا فِي شَرحِنَا لِأَلفِيَّةِ السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ لِلحَافِظِ العِرَاقِيِّ إِلَى قَولِهِ رَحِمَهُ الله تَعَالَى:

ذكر أحداث السنة السادسة من الهجرة النبوية
فِي السِّـتِّ كَانَت عُمرَةُ الحُدَيبِيَه *** وَبَيعَةُ الرِّضـوَانِ تِلكَ الـزَّاكِـيَـه
وَفِيهِ فَرضُ الحَـجِّ أَو مَـا خَـلَـتِ *** أَو فِي الثَّـمَـانِ أَو فَـفِـي التَّاسِعَةِ
خُـلـفٌ وَقِيلَ كَـانَ قَبلَ الهِجرَةِ *** وُجُـوبُـهُ حَـكَـاهُ فِي «الـنِّـهَايـةِ»
وَفِـيـهِ قَـد سَـابَـقَ بَينَ الخَـيـلِ *** وَءَايَـةُ الظِّـهَـارِ فِي ابـنِ خَـولِي
وفِي سَنةَ سِتٍّ مِنَ الهِجرةِ كَانَت عُمرَةُ الحُدَيبِيَةِ وتُذكَرُ بغَزوَةِ الحدَيبِيَةِ الَّتي اعتَمَرَ فيهَا رسولُ الله ﷺ، وقد صَدَّهُ المُشركُونَ عنِ البَيتِ الحَرامِ، فنَحَر البُدنَ في المَكَانِ الَّذِي صُدَّ فِيهِ في الحُدَيبِيَةِ وحَلَق هُوَ وَأَصحَابُهُ رُؤُوسَهُم.

والسَّبَبُ في هذِهِ الغَزوَةِ أنَّ رسُولَ الله ﷺ رَأى فِي المَنَامِ بِالمَدِينَةِ أَنَّهُ دخَلَ هُوَ وَأَصحَابُهُ المَسجِدَ الحَرَامَ وأَخَذَ مِفتَاحَ الكَعبَةِ بِيَدِهِ وطَافُوا وَاعتَمَرُوا وحَلَق بَعضُهم وقَصَّرَ غيرُهم، فأخبَرَ ﷺ أصحابَهُ بذلكَ ففَرِحُوا وحَسِبُوا أنّهم داخِلُو مكّةَ عامَهَم هذَا، وأخبَرَهُم ﷺ أنّه مُعتَمِرٌ وأن يَتَجَهَّزُوا للسَّفَر، ثُمّ استنَفَر ﷺ العرَبَ ومَن حولَهُ مِن أهلِ البَوادِي مِن الأَعرابِ ليَخرُجُوا معَهُ وهو لا يُرِيدُ الحربَ، إلّا أنَّهُ لَا يأمَنُ أن لا تتعرَّضَ له قُريشٌ بِحَربٍ أو يَصُدُّوهُ عَنِ البَيتِ الحَرامِ.

فسارَ المُسلِمونَ وأرسلَ النّبيُّ ﷺ عثمانَ بن عفّانَ رضِيَ الله عنه لقُريشٍ وقالَ له: “أَخبِرهُم أَنَّا لَم نَأتِ لِقِتَالٍ، وَإِنَّما جِئنَا عُمَّارًا، وَادعُهُم إِلَى الإِسلَامِ“، وأمَرَه ﷺ أن يأتيَ رِجالًا بمكّةَ مُؤمنِينَ ونِساءً مُؤمِناتٍ فيَدخُلَ علَيهِم ويُبشِّرَهم بالفَتحِ ويُخبِرَهم أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ مُظهِرٌ دِينَهُ بمكّةَ حتَّى لا يُستَخفَى فيهَا بالإِيمَانِ بعدَ ذلكَ.

فأرسَلَت قرَيشٌ عُروَةَ بنَ مسعُودٍ الثَّقَفِيَّ ليُحَاوِرَ رسولَ اللهِ ﷺ ولَا يدخُلَ مَكَّةَ، وجعَلَ عُروةُ يَرمُقُ أصحَابَ النَّبِيِّ ﷺ بِعَينَيهِ، ثُمّ رجَعَ إلى أصحَابِهِ فقالَ: أي قَومِ، والله لقَد وَفَدْتُ علَى المُلوكِ ووَفدتُ علَى قَيصَرَ وكِسرَى والنَّجاشِيِّ، واللهِ إنْ رأَيتُ (أي مَا رأيتُ) ملِكًا قَطُّ يُعظِّمُهُ أصحابُه ما يُعَظِّمُ أصحابُ محمَّدٍ مُحمَّدًا، والله إنْ تَنَخَّم نُخامةً إلّا وقَعَت في كَفِّ رَجُلٍ مِنهُم فدَلَكَ بها وَجهَه وجِلدَه، وإذَا أمَرَهُم ابتَدَرُوا أَمرَه، وإذا تَوَضّأَ كادُوا يَقتَتِلُون علَى وَضُوئِه، وإذَا تَكلَّم خَفَضُوا أصواتَهُم عِندَه، وما يُحِدُّون إليهِ النَّظَر تَعظِيمًا له، وإنّه قَد عرَضَ علَيكُم خُطّةَ رُشدٍ فاقبَلُوهَا.

ثُمَّ بعثَت قُريشٌ سُهيلَ بنَ عَمرٍو إلى رَسولِ اللهِ ﷺ وقالُوا: ائتِ مُحَمَّدًا وَصَالِحهُ، ولَا يَكُن في صُلحِهِ إلَّا أنْ يَرجِعَ عنَّا عامَهُ هذا، فواللهِ لَا تُحَدِّثُ العرَبُ أنّهُ دخَلَها علَينَا عُنوَةً أَبَدًا، فلَمّا رأَى رَسولُ اللهِ ﷺ سُهَيلًا مُقبِلًا قال: “قَد أَرَادَ القَومُ الصُّلحَ حِينَ بَعَثُوا هَذَا الرَّجُلَ“، وحصلَ وقتَهَا صُلحُ الحُدَيبِيَةِ.

ومِن جُملةِ ما اشترَطَ المشركُونَ على النَّبيِّ ﷺ أنَّ مَن جاءَ منكُم لَم نَرُدَّهُ عليكُم، ومَن جاءَكَم مِنَّا رَدَدتُمُوهُ علَينَا، قال العلماءُ: وافقَهُمُ النَّبيُّ ﷺ في كتابةِ: “مُحَمَّدُ بنُ عَبدِ اللهِ“، وتركِ كتابةِ: “رَسُولُ اللهِ“، وكَذَا وافَقَهُم في ردِّ مَن جاءَ منهُم إلَينَا دونَ مَن ذهَبَ مِنَّا إليهم للمَصلحةِ المُهِمَّةِ الحاصِلَةِ بالصُّلح، لكِنَّهُ ﷺ لَم يَأمُر أَحَدًا بِالِارتِدَادِ عَن دِينِ اللهِ وَالعِيَاذُ بِاللهِ تَعَالَى.

فالمَصلحَةُ المُتَرَتِّبةُ على إتمامِ هذا الصُّلحِ ما ظهرَ من ثَمَراتِهِ الباهرَةِ وفوائدِهِ المُتَظَاهِرَةِ التِي كانَت عاقِبَتُها فتحَ مكَّةَ وإسلامَ أهلِها ودخولَ النَّاسِ في دينِ اللهِ أفوَاجًا، وذلك أنَّهُم قبلَ الصُّلحِ لم يكونُوا يَختَلِطونَ بالمسلِمِينَ، فلمَّا حَصلَ الصُلحُ اختَلَطُوا بالمسلِمِينَ وجاؤُوا إِلَى المَدِينَةِ وذَهَبَ المُسلِمُونَ إِلَى مكَّةَ فسَمِعُوا منهُم أحوالَ النَّبيِّ ﷺ مُفَصّلةً بِجُزئِيَّاتِها ومُعجِزاتِهِ الظاهِرَةَ، وأعلَامَ نبُوَّتِهِ المتظاهِرَةَ، وحُسنَ سيرتِهِ، وجَميلَ طريقتِهِ، وعَايَنُوا بأنفسِهِم كثيرًا من ذلكَ، فبادَرَ قِسمٌ منهم إلى الإسلَامِ العظيمِ قبلَ فتحِ مكَّة، فأسلَموا بينَ صُلحِ الحُدَيبِيَةِ وفَتحِ مكَّةَ.

قال الحافظ البيهقيُّ: ولَم يُهادِنهُم علَى الأبَدِ وكانَتِ الهُدنةُ بَينَه وبَينَهُم عَشرَ سنِينَ.

وكانت مُدّةُ إقامةِ رسولِ اللهِ ﷺ بالحدَيبِيةِ بِضعةَ عشَرَ يومًا، وقيل: عِشرِينَ يومًا، ثُمّ رجَعَ ﷺ إلى المدينَةِ، وأنزَلَ اللهُ عزَّ وجلَّ سُورةَ الفَتحِ فكان في ذلكَ تَسليةٌ للمؤمِنِينَ وتذكِيرٌ لَهُم بنِعَمِ اللهِ علَيهِم.

وفِي فترَةِ صُلحِ الحُدَيبِيَةِ قَبلَ نَقضِ قُرَيشٍ العَهدَ أَرسَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ الكُتُبَ إِلَى الآفَاقِ يدعُوهُم إِلَى الإِسلَامِ، وَمِن جُملَةِ هَذِهِ الكُتُبِ كِتَابُهُ إِلَى هِرَقلَ.

روَى البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَن عُبَيدِ اللهِ بنِ عَبدِ اللهِ بنِ عُتبَةَ بنِ مَسعُودٍ، أَنَّ عَبدَ الله بنَ عَباسٍ، أَخبَرَهُ أَنَّ أَبَا سُفيَانَ بنَ حَربٍ أَخبَرَهُ: أَنَّ هِرَقلَ ملكَ الرُّومِ، ولقَبُهُ قَيصَرُ كمَا يُلَقَّبُ مَلِكُ الفُرسِ بِكِسرَى، أَي فِي قِصَّتِهِ لَمَّا كَتَبَ إِلَيهِ يَدعُوهُ لِلإِسلَامِ، فَأَرسَلَ إِلَى مَن بِالشَّامِ مِن قُرَيشٍ وَكَانَ أَقرَبُهُم مِنهُ أَبَا سُفيَانَ، وَكَانُوا تُجَّارًا بِالشَّامِ فِي تلك المُدَّةِ، فَأَتَوهُ وَهُم بِإِيلِيَاءَ (بيتِ المقدسِ)، فَدَعَاهُم فِي مَجلِسِهِ، وَحَولَهُ عُظَمَاءُ الرُّومِ، ثُمَّ دَعَاهُم وَدَعَا بِتَرجُمَانِهِ، فَقَالَ: أَيُّكُم أَقرَبُ نَسَبًا بِهَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ؟ فَقَالَ أَبُو سُفيَانَ: فَقُلتُ أَنَا أَقرَبُهُم نَسَبًا، فَقَالَ: أَدنُوهُ مِنِّي، وَقَرِّبُوا أَصحَابَهُ فَاجعَلُوهُم عِندَ ظَهرِهِ، ثُمَّ قَالَ لِتَرجُمَانِهِ: قُل لَهُم إِنِّي سَائِلٌ هَذَا عَن هَذَا الرَّجُلِ، فَإِن كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ، قال أبُو سفيَانَ وكَانَ مُشرِكًا في ذَلِكَ الوقتِ: فَوَاللهِ لَولَا الحَيَاءُ مِن أَن يَأثُرُوا (يروُوا عنِّي وينقُلُوا) عَلَيَّ كَذِبًا لَكَذَبتُ عَنهُ (هذَا أبُو سفيَانَ وقتَهَا كانَ كافِرًا ويَقُولُ هذا الكلام، يخافُ أن يُقَالَ عنهُ كَاذِبٌ، يَخَافُ أنٍ يُوصَفَ بِالكَذِبِ فِي قَومِهِ وهُم كُفَّارٌ، وهذَا يدُلُّ علَى فسَادِ قَولِ مَن قَالَ الكَذِبُ مِلحُ الرِّجَالِ، ويَدُلُّ عَلَى قُبحِ الكَذِبِ)، ثُمَّ كَانَ أَوَّلَ مَا سَأَلَنِي عَنهُ أَن قَالَ: كَيفَ نَسَبُهُ فِيكُم؟ قُلتُ: هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ، قَالَ: فَهَل قَالَ هَذَا القَولَ مِنكُم أَحَدٌ قَطُّ قَبلَهُ؟ قُلتُ: لاَ، قَالَ: فَهَل كَانَ مِن آبَائِهِ مِن مَلِكٍ؟ قُلتُ: لا، قَالَ: فَأَشرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أَم ضُعَفَاؤُهُم؟ فَقُلتُ: بَل ضُعَفَاؤُهُم، قَالَ: أَيَزِيدُونَ أَم يَنقُصُونَ؟ قُلتُ: بَل يَزِيدُونَ، قَالَ: فَهَل يَرتَدُّ أَحَدٌ مِنهُم سَخطَةً لِدِينِهِ (أي كراهِيَةً لهُ وعدَمَ رضًى بهِ) بَعدَ أَن يَدخُلَ فِيهِ؟ قُلتُ: لَا، قَالَ: فَهَل كُنتُم تَتَّهِمُونَهُ بِالكَذِبِ قَبلَ أَن يَقُولَ مَا قَالَ؟ قُلتُ: لَا، قَالَ: فَهَل يَغدِرُ؟ قُلتُ: لاَ، وَنَحنُ مِنهُ فِي مُدَّةٍ (أي عهدٍ) لاَ نَدرِي مَا هُوَ فَاعِلٌ فِيهَا، قَالَ: وَلَم تُمكِنِّي كَلِمَةٌ أُدخِلُ فِيهَا شَيئًا غَيرُ هَذِهِ الكَلِمَةِ (أي لَم أَستَطِع أَن أُدخِلَ شيئًا أُعَرِّضُ فيهِ بالنبيِّ ﷺ غيرَ هذهِ الكلمةِ)، قَالَ: فَهَل قَاتَلتُمُوهُ؟ قُلتُ: نَعَم، قَالَ: فَكَيفَ كَانَ قِتَالُكُم إِيَّاهُ؟ قُلتُ: الحَربُ بَينَنَا وَبَينَهُ سِجَالٌ (أي نُوَبٌ، مرَّةً لنَا ومرَّةً علينَا)، يَنَالُ مِنَّا وَنَنَالُ مِنهُ، قَالَ: مَاذَا يَأمُرُكُم؟ قُلتُ: يَقُولُ: اعبُدُوا اللهَ وَحدَهُ وَلاَ تُشرِكُوا بِهِ شَيئًا، وَاترُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُم (جوابُ أَبِي سفيَانَ عندَمَا سُئِلَ عن أَوَّلِ ما دَعَاهُم إِلَيهِ النَّبِيُّ ﷺ يُبَيِّنُ تمَامًا أَنَّ أَوَّلَ مَا دَعَا إِلَيهِ الرَّسُولُ ﷺ أُمَّتَهُ التَّوحِيدَ ونَهَاهُم عَنِ الكُفرِ باللهِ والعِيَاذُ بِاللهِ) ثمَّ قال: وَيَأمُرُنَا بِالصَّلَاةِ (أي بإقَامَتِهَا) وَالزَّكَاةِ وَالصِّدقِ وَالعَفَافِ (وهوَ الكفُّ عنِ المحرماتِ) وَالصِّلَةِ (وهيَ كلُّ مَا أمَرَ اللهُ تعالَى أن يوصَلَ، وذلكَ بالبرِّ والإكرامِ وحُسنِ المراعَاةِ، ويقالُ: المرادُ بهَا صلةُ الرَّحِمِ)، فَقَالَ لِلتَّرجُمَانِ: قُل لَهُ: سَأَلتُكَ عَن نَسَبِهِ فَذَكَرتَ أَنَّهُ فِيكُم ذُو نَسَبٍ، فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبعَثُ فِي نَسَبِ قَومِهَا، وَسَأَلتُكَ هَل قَالَ أَحَدٌ مِنكُم هَذَا القَولَ، فَذَكَرتَ أَن لَا، فَقُلتُ: لَو كَانَ أَحَدٌ قَالَ هَذَا القَولَ قَبلَهُ، لَقُلتُ رَجُلٌ يَأتَسِي (يقلِّدُ وَيَتَمَثَّلُ بمَا قيلَ قبلَهُ) بِقَولٍ قِيلَ قَبلَهُ، وَسَأَلتُكَ هَل كَانَ مِن آبَائِهِ مِن مَلِكٍ، فَذَكَرتَ أَن لَا، قُلتُ فَلَو كَانَ مِن آبَائِهِ مِن مَلِكٍ قُلتُ رَجُلٌ يَطلُبُ مُلكَ أَبِيهِ، وَسَأَلتُكَ هَل كُنتُم تَتَّهِمُونَهُ بِالكَذِبِ قَبلَ أَن يَقُولَ مَا قَالَ، فَذَكَرتَ أَن لَا، فَقَد أَعرِفُ أَنَّهُ لَم يَكُن لِيَذَرَ الكَذِبَ (يتركَ الكذِبَ) عَلَى النَّاسِ وَيَكذِبَ عَلَى الله، وَسَأَلتُكَ أَشرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَم ضُعَفَاؤُهُم، فَذَكَرتَ أَنَّ ضُعَفَاءَهُمُ اتَّبَعُوهُ، وَهُم أَتبَاعُ الرُّسُلِ، وَسَأَلتُكَ أَيَزِيدُونَ أَم يَنقُصُونَ، فَذَكَرتَ أَنَّهُم يَزِيدُونَ، وَكَذَلِكَ أَمرُ الإِيمَانِ حَتَّى يَتِمَّ، وَسَأَلتُكَ أَيَرتَدُّ أَحَدٌ سَخطَةً لِدِينِهِ بَعدَ أَن يَدخُلَ فِيهِ، فَذَكَرتَ أَن لَا، وَكَذَلِكَ الإِيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ القُلُوبَ (بشاشَتُهُ أي نورُهُ وحلاوتُهُ والفَرَحُ بهِ والانشرَاحُ)، وَسَأَلتُكَ هَل يَغدِرُ، فَذَكَرتَ أَن لَا، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لَا تَغدِرُ، وَسَأَلتُكَ بِمَا يَأمُرُكُم، فَذَكَرتَ أَنَّهُ يَأمُرُكُم أَن تَعبُدُوا الله وَلَا تُشرِكُوا بِهِ شَيئًا، وَيَنهَاكُم عَن عِبَادَةِ الأَوثَانِ، وَيَأمُرُكُم بِالصَّلَاةِ وَالصِّدقِ وَالعَفَافِ، فَإِن كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا فَسَيَملِكُ مَوضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَينِ، وَقَد كُنتُ أَعلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ، لَم أَكُنْ أَظُنُّ أَنَّهُ مِنكُم، فَلَو أَنِّي أَعلَمُ أَنِّي أَخلُصُ إِلَيهِ (أي أصلُ إليهِ) لَتَجَشَّمتُ لِقَاءَهُ (أي تكلَّفتُ على خَطَرٍ ومشقةٍ)، وَلَو كُنتُ عِندَهُ لَغَسَلتُ عَن قَدَمِهِ (وهذا فيه مبالغةٌ فِي خدمَتِهِ واتِّبَاعِهِ والخضوعِ لِمَا جاءَ بهِ)، مَعَ ذَلِكَ وَمَعَ مَا عَرَفَهُ هِرَقلُ عَصَى وَأَبَى الدُّخولَ فِي الإِسلَامِ وَاستَكبَرَ وأدبرَ عَنِ الحَقِّ وتعَظَّم في نَفسِه، إلّا أنّه أرسلَ معَ دِحيةَ دَنانِيرَ وكِتابًا لرَسولِ اللهِ ﷺ يقولُ فيه: إنِّي مَعك ولِكنّي مَغلوبٌ علَى أَمرِي، فلَمّا بلغَ رَسولَ الله ﷺ الكِتابُ قال: “كَذَبَ عَدُوُّ اللهِ، لَيسَ بِمُسلِمٍ وَهُوَ عَلَى النَّصرَانِيَّةِ“، وقَسَّم الدّنانِيرَ على المُسلمِينَ.

وَمِن جُملَةِ الكُتُبِ كِتَابُهُ إِلَى كِسرَى.

فحَمَلَ عَبدُ اللهِ بنُ حُذَافَةٍ السَّهمِيُّ كتابًا مِن رَسُولِ اللهِ ﷺ إلى مَلِك فارِسَ كِسرَى بنِ هُرمُزَ، فَلَمّا قُرِئَ كِتابُ رَسولِ الله ﷺ عِندَ كِسرَى اغتاظَ ومَزَّقَ الكِتَابَ الّذي جاءَه بَغيًا ونُكرًا مُعتدِيًا، وطَعَن الخبيثُ في النَّبيِّ ﷺ، فلَمّا بلغَ ذلكَ النّبِيَّ ﷺ قال: “اللهم مَزِّق مُلكَهُ“.

وقد وقع ما دعا به رسول الله ﷺ، فقد استولى على عرش كسرى ابنه قُباذ الملقب بـشيرويه، وقتل كسرى ذليلا مهانا، وتمزق ملكه بعد وفاته وأصبح لعبة في أيدي أبناء الأسرة الحاكمة، ولم يعش شيرويه إلا ستة أشهر، وتوالى على عرشه في مدة أربع سنوات عشرة ملوك، وهكذا تحقق دعاء النبي ﷺ عليه.

ثُمّ كَتَبَ كِسرَى إلَى باذانَ وهو مَلكُ اليَمَنِ من قِبَلِ كِسرَى: ابعَث إلَى هَذَا الرّجُلِ الّذِي بِالحِجازِ مِن عِندِكَ رَجُلَينِ جَلدَينِ فليَأتِيَانِي بِه، فبَعثَ باذانُ رَجُلَينِ وكَتبَ مَعَهُما إلَى رَسولِ اللهِ ﷺ يأمرُهُ أن ينصَرِفَ مَعهُ إلَى كِسرَى،

فخَرَج الرَّجلانِ حَتّى قَدِما الطّائِفَ، فوَجَدا رِجالًا مِن مُشركِي قُرَيشٍ بالطّائِفِ فسَألوهُم عَن النّبيِّ ﷺ، فقالوا: هو بِالمَدِينةِ، واستَبشَرَ مُشرِكُو قُرَيشٍ بِهِما وفَرِحوا وقالَ بَعضهُم لِبَعضٍ: أَبشِروا فقَد نَصَبَ لهُ كِسرَى مَلِكُ المُلوكِ وكُفِيتُم الرّجُلَ، فخَرَجا حَتّى قَدِما إلَى المَدِينَةِ علَى رَسولِ اللهِ ﷺ، فكَلَّمَاهُ وقالَ: إنَّ كِسرَى كَتبَ إلَى المَلِكِ باذَانَ يأمُرُهُ أن يبعَثَ إلَيكَ مَن يأتِيهِ بِكَ، وقَد بَعَثَنِي إلَيكَ لِتَنطَلِقَ مَعِي، فإن فعَلتَ كَتبَ فِيكَ إلَى مَلِكِ المُلوكِ بِكِتابٍ يَنفَعُكَ ويَكُفُّ بهِ عَنكَ، وإن أبَيتَ فهو مَن قَد عَلِمتَ وهو مُهلِكُكَ ومُهلِكُ قَومِكَ ومُخَرِّبُ بِلادِكَ، فأتَى رَسولَ الله ﷺ الخَبَرُ أنَّ الله عَزّ وجَلّ قَد سَلَّطَ عَلَى كِسرَى ابنَهُ شِيرَوَيهِ فقَتَلهُ، فلَمَّا أعلَمَهُما الرّسولُ ﷺ بِذَلِكَ قالا: هَل تَدرِي ما تَقولُ؟! نَكتُبُ بِهَذا عَنكَ ونُخبِرُ المَلِكِ؟ قالَ: “نَعَم، أَخبِرَاهُ ذَلِكَ عَنِّي وَقُولَا لَهُ: إِنَّ دِينِي وسُلطَانِي سَيَبلُغُ مَا بَلَغَ مُلكُ كِسرَى ويَنتَهِي إلَى مُنتَهَى الخُفِّ والحَافِرِ“، فخَرَجا مِن عِندِهِ حَتّى قَدِما عَلَى باذانَ وأخبَراهُ الخَبَرَ، فقالَ: وَاللهِ مَا هَذا بِكَلامِ مَلِكٍ، وإنِّي لَأرَى هَذا الرّجُلَ نَبِيًّا كَما يقُولُ، ولَنَنظُرَنَّ ما قَد قالَ، فلَئِن كانَ ما قالَ حَقًّا ما فِيهِ كَلامٌ أنّهُ لَنَبِيٌّ مُرسَلٌ، وإن لَم يكُن فسَنَرَى فِيهِ رَأيَنا، فلَم يَنشَب باذانُ إذ قَدِمَ عَلَيهِ كِتابُ شِيرَوَيهِ، وفيه: أمّا بَعدُ، فإنِّي قَد قَتَلتُ كِسرَى فَإِذَا جاءَكَ كِتابِي هَذا فخُذ لِي الطَّاعَةَ مِمَّن قِبَلَكَ وانظُرِ الرّجُلَ الّذِي كَتَبَ إلَيكَ كِسرَى فِيهِ فَلا تُهَيِّجهُ حَتّى يأتِيَكَ أَمرِي، فقالَ باذانُ: إنَّ هَذا الرّجُلَ لَرَسُولٌ، ثُمّ أسلَمَ وأسلَمَ مِن أَبنَاءِ فارِسَ في ذلكَ الوَقتِ مَن كانَ بِاليَمَنِ.

وقد ثبت في صحيح مسلم عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: (إِنَّ اللهَ زَوَى أَيْ جَمَعَ لِي الأرْضَ، فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِيْ مِنْهَا، وَأُعْطِيْتُ الْكَنْزَيْنِ: الْأَحْمَرَ وَالْأَبْيَضَ (أَيِ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ)). لقد عبر النبي ﷺ بالأحمر عن كنز قيصر، لأن الغالب عندهم كان الذهب، وبالأبيض عن كنز كسرى، لأن الغالب عندهم كان الفضة والجوهر. قال ﷺ: (وَلَتُنْفَقَنَّ كُنُوْزُهُمَا فِي سَبِيْلِ اللهِ)، وقد ظهر ذلك، ووجد كذلك في زمان الفتوح، في خلافة عمر رضي الله تعالى عنه، فإنه سيق إليه تاج كسرى وحليته، وما كان في بيوت أمواله، وجميع ما حوته مملكته، على سعتها وعظمتها، وكذلك فعل الله تعالى بقيصر، لما فتحت بلاده”.

وعن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: بيْنَا أنَا عِنْدَ النَّبيِّ ﷺ، إذْ أتَاهُ رَجُلٌ فَشَكَا إلَيْهِ الفَاقَةَ، ثُمَّ أتَاهُ آخَرُ فَشَكَا إلَيْهِ قَطْعَ السَّبِيلِ، فَقَالَ: يا عَدِيُّ، هلْ رَأَيْتَ الحِيرَةَ؟ قُلتُ: لَمْ أرَهَا، وقدْ أُنْبِئْتُ عَنْهَا، قَالَ: فإنْ طَالَتْ بكَ حَيَاةٌ، لَتَرَيَنَّ الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ مِنَ الحِيرَةِ حتَّى تَطُوفَ بالكَعْبَةِ، لا تَخَافُ أحَدًا إلَّا اللَّهَ -قُلتُ فِيما بَيْنِي وبيْنَ نَفْسِي: فأيْنَ دُعَّارُ طَيِّئٍ أي قطاع الطرق الَّذِينَ قدْ سَعَّرُوا البِلَادَ؟!- ولَئِنْ طَالَتْ بكَ حَيَاةٌ لَتُفْتَحَنَّ كُنُوزُ كِسْرَى، قُلتُ: كِسْرَى بن هُرْمُزَ؟ قَالَ: كِسْرَى بنِ هُرْمُزَ، ولَئِنْ طَالَتْ بكَ حَيَاةٌ، لَتَرَيَنَّ الرَّجُلَ يُخْرِجُ مِلْءَ كَفِّهِ مِن ذَهَبٍ أوْ فِضَّةٍ، يَطْلُبُ مَن يَقْبَلُهُ منه، فلا يَجِدُ أحَدًا يَقْبَلُهُ منه.

قَالَ عَدِيٌّ: فَرَأَيْتُ الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ مِنَ الحِيرَةِ حتَّى تَطُوفَ بالكَعْبَةِ، لا تَخَافُ إلَّا اللَّهَ، وكُنْتُ فِيمَنِ افْتَتَحَ كُنُوزَ كِسْرَى بنِ هُرْمُزَ، ولَئِنْ طَالَتْ بكُمْ حَيَاةٌ، لَتَرَوُنَّ ما قَالَ النَّبيُّ أبو القَاسِمِ ﷺ: يُخْرِجُ مِلْءَ كَفِّهِ. رواه البخاري.

وهذا الصحابي وهو عَبدُ اللهِ بنُ حُذَافَةٍ السَّهمِيُّ حصلت له قصة بعد وفاة رسول الله ﷺ وهي ما روَى البيهَقِيُّ عَن أَبِي رَافِعٍ، قَالَ: وَجَّهَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضِيَ الله عَنهُ جَيشًا إِلَى الرُّومِ، وَفِيهِم رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ عَبدُ اللهِ بنُ حُذَافَةَ مِن أَصحَابِ النَّبِيِّ ﷺ، فَأَسَرَهُ الرُّومُ فَذَهَبُوا بِهِ إِلَى مَلِكِهِم، فَقَالُوا: إِنَّ هَذَا مِن أَصحَابِ مُحَمَّدٍ، فَقَالَ لَهُ الطَّاغِيَةُ: هَل لَكَ أَن تَتَنَصَّرَ وَأُشِرِكُكَ فِي مُلكِي وَسُلطَانِي؟ فَقَالَ لَهُ عَبدُ الله: لَو أَعطَيتَنِي جَمِيعَ مَا تَملِكُ، وَجَمِيعَ مَا مَلَكَتهُ العَرَبُ، عَلَى أَن أرجِعَ عَن دِينِ مُحَمَّدٍ ﷺ طَرفَةَ عَينٍ مَا فَعَلتُ، قَالَ: إِذًا أَقَتُلُكَ، قَالَ: أَنتَ وَذَاكَ، قَالَ: فَأَمَرَ بِهِ فَصُلِبَ، وَقَالَ لِلرُّمَاةِ: ارمُوهُ قَرِيبًا مِن يَدَيهِ وقَرِيبًا مِن رِجلَيهِ وَهُوَ يَعرِضُ عَلَيهِ، وَهُوَ يَأبَى، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَأُنزِلَ، ثُمَّ دَعَا بِقِدرٍ وَصَبَّ فِيهَا مَاءً حَتَّى احتَرَقَت (وصلَت إِلَى الغَلَيَانِ)، ثُمَّ دَعَا بِأَسِيرَينِ مِنَ المُسلِمِينَ، فَأَمَرَ بِأَحَدِهِمَا فَأُلقِيَ فِيهَا وَهُوَ يَعرِضُ عَلَيهِ النَّصرَانِيَّةَ وَهُوَ يَأبَى، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ أَن يُلقَى فِيهَا، فَلَمَّا ذُهِبَ بِهِ بَكَى، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُ بَكَى، فَظَنَّ أَنَّهُ رَجَعَ، فَقَالَ: رُدُّوهُ فَعَرَضَ عَلَيهِ النَّصرَانِيَّةَ فَأَبَى، قَالَ: فَمَا أَبكَاكَ؟ قَالَ: أَبكَانِي أَنِّي قُلتُ هي نَفسٌ وَاحِدَةٌ تُلقَى هَذِهِ السَّاعَةَ فِي هَذَا القِدرِ فَتَذهَبُ، فَكُنتُ أشتَهِي أَن يَكُونَ بِعَدَدِ كُلِّ شَعَرَةٍ فِي جَسَدِي نَفسٌ تَلقَى في هَذَا القدر فِي سبيل اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ لَهُ الطَّاغِيَةُ: هَل لَكَ أَن تُقَبِّلَ رَأسِي وَأُخَلِّيَ عَنكَ؟ قَالَ عَبدُ الله: وَعَن جَمِيعِ أُسَارَى المُسلِمِينَ؟، قَالَ: وَعَن جَمِيعِ أُسَارَى المُسلِمِينَ، قَالَ عَبدُ الله: فَقُلتُ فِي نَفسِي: عَدُوٌّ مِن أَعدَاءِ الله أُقَبِّلُ رَأسَهُ ويُخَلِّي عَنِّي وَعَن أُسَارَى المُسلِمِينَ، لَا أُبَالِي، قال فَدَنَا مِنهُ وَقَبَّلَ رَأسَهُ، فَدَفَعَ إِلَيهِ الأُسَارَى، فَقَدِمَ بِهِم عَلَى عُمَرَ فَأُخبِرَ عُمَرُ بِخَبَرِهِ، فَقَالَ: حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسلِمٍ أَن يُقَبِّلَ رَأسَ عَبدِ اللهِ بنِ حُذَافَةَ، وَأَنَا أَبدَأُ، فَقَامَ عُمَرُ فَقَبَّلَ رَأسَهُ.

وكانَ مِن جُملَةِ الكُتُبِ كِتَابُهُ إِلَى مَلِكِ الإِسكَندَرِيَّةِ بمِصرَ المُقَوقِسِ، فمَدَحَ النَّبِيَّ ﷺ وأرسَلَ لهُ الهدَايَا ومِن جُملَتِهَا مَارِيَةُ القِبطِيَّةُ الَّتِي أسلمت فدخل عليها الرَّسُولُ ﷺ بَعدَ ذَلِكَ وولدت له ابراهيم وَأرسل أيضًا أُختَهَا سِيرِينَ، وَلِكِنَّ المَلِكَ المُقَوقِسَ لَم يُسلِم.

أرسَلَ الرَّسُولُ ﷺ حاطبَ بنَ أبِي بَلتَعةَ بكِتابٍ منه للمُقَوقِسِ مَلِكِ الإسكَندَرِيّةِ واسمُه جُرَيجُ بنُ مِينَا، والمُقَوقِسُ لقبُ كُلّ أميرٍ للإسكَندَرِيّةِ، فدفَعَ حاطِبٌ إليه كِتابَ رَسولِ الله ﷺ، فأنزَلَه المُقوقِسُ في مَنزِلِهِ وأقَامَه عِندَه، ثُمّ بعَثَ إلَيهِ وقَد جَمعَ بطارِقَتَه فقالَ: إنِّي سَأُكَلِّمُكَ بكَلامٍ وأُحِبُّ أن تَفهَمَه مِنِّي، أخبِرنِي عن صاحِبِكَ ألَيسَ هو نَبِيٌّ؟ فقال حاطبٌ: بلَى هو رَسولُ الله، قالَ: فما لَه حَيثُ كانَ هَكَذا لَم يَدعُ علَى قَومِهِ حَيثُ أخرَجُوهُ مِن بلَدِهِ إلَى غَيرِها؟ فقالَ حاطبٌ: عِيسَى ابنُ مَريَمَ ألَيسَ تَشهَدُ أنّه رَسولُ الله، فما لَه حَيثُ أخَذَه قَومُه فأرادُوا أن يَغلِبُوه أن لَا يَكونَ دَعا عَلَيهِم بأَن يُهلِكَهُمُ اللهُ عَزّ وجَلّ حَتّى رَفَعَه اللهُ إلَى السَّمَاءِ.

ورُوي أنّ حاطِبًا قال للمُقَوقِس: كانَ رجُلٌ قَبلَكَ (يعني فِرعونَ الوليدَ بنَ المُصعَبِ) يَزعُم أنّه الرّبُّ الأَعلَى فأخَذَه الله نَكالَ الآخِرةِ والأُولَى (أغرقَه في الدُّنيا ويُدخِلُه النّارَ في الآخِرةِ)، فانتَقَم بِه ثُمّ انتَقَم مِنهُ، فاعتَبِر بِغَيرِك ولا يَعتَبِر بِكَ غَيرُك.

فقال حاطبٌ: إن أسلَمتَ فإنَّمَا تَترُكُ دِينَ الباطلِ لدِينِ الحَقِّ الإِسلَامِ، وَهُوَ الإسلامُ الكافِي بِهِ اللهُ فَقْدَ مَا سِوَاهُ (أي كفَى بالإسلامِ دِينًا، ومَن أُعطِيَه فكأنَّمَا لم يفقِد شيئًا).

إنّ هَذا النَّبِيَّ ﷺ دَعا النّاسَ فكانَ أشَدَّهُم علَيه قُرَيشٌ، وأعداهُم له يَهُودُ، وأقرَبَهُم مِنهُ النّصارَى (أي نَصارَى ذلكَ الوَقتِ كانُوا أقربَ مودّةً للمُسلمِينَ وأقلَّ إيذاءً لَهُم مِن غيرِهم مِن الكافرِين)، ولَعَمرِي ما بِشارَةُ مُوسَى بعِيسَى إلّا كبِشارةِ عِيسَى بمُحَمّدٍ ﷺ (أي كُلٌّ بَشَّر بِمَن بعدَه بأنّه يخرُج نَبِيٌّ يدعُو إلى عِبادةِ الله وَحدَه وأن لا يُشرَكَ به شىءٌ)، وكُلُّ نَبِيٍّ أدرَكَ قَومًا فَهُم مِن أُمَّتِه فالحَقُّ علَيهِم أن يُطِيعُوه، فأنتَ مِمّن أدرَكَه هذَا النّبِيُّ، ولَسنَا نَنهاكَ عَن دِين عيسى المَسِيح (أي إن كُنتَ تدَّعي تَعظِيمَ عيسَى المسيحِ عليه السّلامُ فإنّ دِينَ عيسىَ هو الإسلامُ، والّذي نَدعوكَ إليهِ هُوَ الإسلامُ، والّذي نَنهَاكَ عنه هو غيرُ دِينِ الإسلامِ وهو الكُفرُ) ولكِن نأمُرُك بِه (أي نأمرُك باتّباعِ دينِ الإسلامِ الّذي كان عليهِ عيسَى عليه السّلامُ وكذلِكَ عليه كُلُّ الأنبياءِ، قال اللهُ تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾، وقال أيضا: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾)، فقال المُقَوقِسُ في مَدحِ النّبيِّ ﷺ: إنّي قَد نَظرتُ في أمرِ هذا النّبِيِّ فوجَدتُه لا يَأمُرُ بمَزهُودٍ فيهِ (أي لا يأمرُ بما تأنَفُه النُّفوسُ بل يأمُر بما فيهِ خيرٌ للمَرءِ) ولم أَجِدهُ بالسّاحِرِ الضّالِّ ولا الكاهِنِ الكاذِبِ، ووجَدتُ معَه ءالةَ النُّبُوّةِ (أي علاماتٍ تدلُّ على صِدقِ دعواهُ النُّبوّةَ) بإخراجِ الخَبءِ (أي الإخبارِ عن بعضِ المُغيَّباتِ) والإخبارِ بالنَّجوَى (أي الإخبارِ عَمّا يتناجَى بهِ بعضُ النّاسِ وهُم يُخفونَه عنه)، وقَرُبَ مِن أن يُسلِمَ لكنّه لَم يَفعَل، كما أنّه لَم يَقطَع بأنّه لَن يُسلِمَ بل قال: سأَنظُر، لكن لا يَنفَعُه ذلكَ ما دامَ على غيرِ الإسلامِ، فالتّردُّد في الدُّخولِ في الإسلامِ يَزِيدُ الكافِرَ كُفرًا، والعَزمُ على الدُّخولِ في الإِسلَامِ في المُستقبلِ لا يُخرِجُ الكافِرَ مِن دائرةِ الكُفرِ إلَّا أن يَدخُل في الإسلامِ.

وقال المُقوقِسُ لحاطِبٍ هذِه هَدايا أبعَثُ بها مَعكَ إلَى مُحَمّدٍ، فأَهدَى للنّبِيِّ ﷺ مارِيَةَ بِنتَ شَمعونَ القبطيةَ نِسبةً إلى القِبطِ وهُم نصارَى مِصرَ ومعها أختُهَا سيرِين وأهدَاهُ هدايَا كثيرةً، مِنها ألفُ مِثقالٍ من ذهبٍ وفرَسٌ وبَغلةٌ شهباءُ (هي البَيْضاء الَّتِي يخالِطُها سَوَادٌ) وحِمارٌ أشهَبُ، وأرسلَ أيضًا بِقَدَحٍ مِن قوارِيرَ وطِيبٍ والمَتاعِ الجديدِ، فمِنها عشرُون ثوبًا ليِّنًا وعِمامةٌ، كُلُّ ذلكَ مِن بِلادِ مِصرَ لا مِن الإسكَندَرِيَّةِ خاصّةً، وكذلك مِن قريةِ بَنهَا أرسَلَ لَهُ عَسَلًا أهدَاهُ لَهُ لِجَودَةِ عسَلِها، ورُوِيَ أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ دَعا لعسَلِ بَنهَا بالبَرَكة.

وَأَرسَلَ رسولُ اللهِ ﷺ عمرَو بنَ العَاصِ بعدَ إسلَامِهِ بكِتَابٍ مَعَهُ إِلى عُمَانَ.

فخَرجَ عمرٌو إِلَى مَلِكَي عُمانَ جَيفَرَ وعَبدٍ ابنَيِ الجُلَندَى، وكَانَ عَمرٌو قَد عمَدَ إلى عَبدٍ ابنِ الجُلَندَى أوّلًا لأنّه كان أحلَمَ الرّجُلَينِ وأسهلَهُما خُلُقًا، فدخَلَ عليه فقال: إِنِّي رسولُ رسولِ اللهِ محمّدٍ إليكَ وإلى أَخِيكَ، فقالَ عبدٌ: أخِي المُقدَّم علَيَّ بالسِنِّ والمُلكِ، وأنا أُوصِلُكَ به حتّى يَقرَأَ كِتابَك، فما الّذي تَدعُو إلَيهِ؟ فأخبَرَهُ عنِ الإِسلَامِ والنَّبِيِّ ﷺ وعن بعض الأخبَارِ، فقال: ما أحسَنَ هذا الّذِي يَدعُو إليهِ، لَو كانَ أخي يُتابِعُنِي لرَكِبنا حتى نُؤمِنَ بمُحمّدٍ ونُصَدِّقَ بِه، ولكِنَّ أخِي أضَنُّ بمُلكِه مِن أن يَدَعَه ويَصِيرَ تابِعًا، فقال عمرٌو: إنّه إِنْ أسلَمَ مَلَّكَه رسولُ اللهِ ﷺ على قَومِه فأخَذَ الصَّدَقةَ مِن غَنِيِّهم فرَدَّها على فَقِيرِهِم، قالَ: إنَّ هذا الخُلُقَ حَسَنٌ، وأخبرَه عمرٌو بما فرَضَ رسولُ الله ﷺ مِن الصَّدَقاتِ في الأموَالِ، فَلمَّا ذكَرَ عمرٌو المواشِيَ قال عبدٌ: يا عمرُو، يُؤخَذ مِن سَوائِم مَواشِينا الّتِي تَرعَى في الشَّجَرِ وتَرِدُ المِياهَ؟ قال: نعَم، فقال: واللهِ ما أرَى قَومِي في بُعدِ دارِهم وكَثرَةِ عدَدِهم يُطِيعُونَ في هَذَا.

فمكَث عمرٌو أيّامًا ببابِ جَيفَرَ ينتظِرُ الدُّخولَ عليه حتَّى دعاهُ فدخَلَ عليهِ وعِندَه أخُوهُ عَبدٌ، فقال جَيفَرُ: تَكلَّم بحاجَتِكَ، فدفَعَ عمرٌو إليه كِتابًا مَختُومًا، فقرَأَهُ حتّى انتهَى إلى ءاخِرِهِ ثُمّ دفَعَه إلى أَخِيهِ عبدٍ فقرَأَه ثُمّ قال جَيفَرُ لعَمرٍو: ألَا تُخبِرُنِي عَن قرَيشٍ كيفَ صَنَعَت؟ فقال عمرٌو: اتَّبَعُوه، والنّاسُ قد رَغِبُوا في الإِسلَامِ واختارُوهُ على غَيرِهِ وعرَفُوا بعُقولِهم معَ هُدَى اللهِ إيّاهُم أنّهُم كانُوا في ضَلَالٍ مُبِينٍ (وهذَا كانَ بعدَ الفَتحِ)، وأَنتَ إِن لَم تُسلِمِ اليَومَ وتَتَّبِعَهُ تَطَؤُك الخَيلُ وتَبِيدُ خَضَراءَك، فأَسلِم تَسلَم ويَستَعمِلكَ على قَومِك ولا تَدخُل علَيك الخيلُ والرِّجالُ، قال: دعنِي يومِي هذا وارجِع إليَّ غدًا، فلَمَّا كان الغَدُ أتَاهُ عمرٌو، فأبَى جَيفَرُ أن يَأذَن لهُ في الدُّخولِ علَيه، فرجَعَ عمرٌو إلى أخِيه عَبدٍ وطلَبَ مِنه أن يُوصِلَه إليهِ، فقال عبدٌ: إنّي فَكّرتُ فيما دعَوتَنِي إليه، فإذًا أنَا أضعَفُ العرَبِ إن مَلَّكتُ رجُلًا ما في يَدِي وهو لَا تَبلُغُ خَيلُه ههُنَا، وإن بلَغَت خَيلُه أَلفَيت قِتالًا ليسَ كقِتالِ مَن لاقَى، فقال عمرٌو: وأنا خارِجٌ غدًا، فَلَمّا أيقَنَ عبدٌ بمَخرَجِ عمرٍو خَلَا بأَخِيهِ جَيفَرَ وأَسلَمَا وَصَدَّقَا برسولِ اللهِ ﷺ، وأرسَلَا إلى عَمرٍو فأعلَنَا إسلامَهُما، وَخَلَّيَا مَا بَينَ عَمرٍو وَبينَ الزَّكَاةِ أي مَكَّنَاهُ مِنهَا ليجمَعَهَا، وأعانُوهُ علَى مَن خالفَهُ، فأرادَ اللهُ تعالى بهِمَا خيرًا إذ هُدِيَا إلى الإِسلَامِ، وقد أَسلَمَ بإسلَامِهِمَا خَلقٌ كثيرٌ، ولَم يَزَل عمرٌو مُقِيمًا في عُمانَ إلى وفَاةِ رسُولِ اللهِ ﷺ.

وَأَرسَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لِجَبَلَةَ بنِ الأَيهَمِ الغَسَّانِيِّ مَلِكٍ مِن مُلُوكِ الشَّامِ.

فقالَ الرسُولُ لجبَلَةَ: يا جبَلةُ إنّ قومَك (وكانَ جَبَلَةُ فِي الأَصلِ من بَنِي غَسَّانَ وَغَسَّانُ ابنُ عمِّ الأوسِ والخَزرَجِ فَهُوَ في الأصلِ مِنَ المَدِينَةِ) نقَلُوا هذا النّبِيَّ مِن دارِهِ إلى دارِهِم، فآوَوهُ ومنَعُوهُ ونصَرُوهُ، وإنّك على هذا الدِّين لأنّكَ ملَكتَ الشّامَ وجاوَرتَ الرُّومَ، ولو جاوَرتَ كِسرَى دِنتَ بدِينِ الفُرسِ، فإن أسلَمتَ أطاعَتكَ الشّامُ وهابَتكَ الرُّومُ، وإن لَم يَفعَلُوا كانَت لَهم الدُّنيَا وكانَت لكَ الآخِرةُ، وقد كُنتَ استَبدَلتَ المساجِدَ بالبِيَعِ والأذانَ بالنّاقُوسِ والجُمَعَ بالشّعانِينِ، وكان ما عِندَ اللهِ خَيرٌ وأَبقَى، فقال جبَلَةُ: إِنِّي واللهِ قَد سَرَّني اجتِماعُ قَومِي لهَذَا النَّبِيِّ، وقد دَعَانِي قَيصَرُ إلى قِتالِ أصحابِ هذا النّبِيِّ يومَ مُؤتةَ فأبَيتُ علَيه، ولكِنِّي لَستُ أرَى حقًّا ولَا باطِلًا، وسأَنظُر، فَقَارَبَ جبَلةُ الأَمرَ أي كادَ يُسلِمُ، وَلَكِن شَغَلَهُ عن المُسارَعةِ في الدُّخولِ في الإسلامِ المُلكُ، فلَم يُسلِم في حَياةِ النّبيِّ ﷺ، ثُمَّ إنّه فِي زَمَانِ خِلافَةِ عُمَرَ أَسلَمَ جبَلَةُ، وكتَبَ إلى عُمرَ يُخبِرُه بإسلامِهِ ويَستأذِنُه في القُدومِ علَيهِ، فسُرَّ عُمَرُ بذَلِكَ وأَذِنَ له، فخَرَج جبَلةُ في خَمسِينَ ومائَتَينِ مِن أهلِ بَيتِه، حتّى إذا قارَبَ المدِينةَ عمَدَ إلى أصحابِه فحَمَلَهُم على الخَيلِ وقَلَّدَها بقلائِدِ الذّهَبِ والفِضّةِ، وأَلبَسَها الدِّيباجَ والحرِيرَ، ووضَعَ تاجَهُ على رأسِهِ، فلَم تَبقَ امرأةٌ إلّا خرَجَت تَنظُر إلَيه وإلى زِيِّه وزِينَتِه، فلَمّا دخَلَ على عُمَرَ رضي الله عنه رَحَّبَ بِه عُمَرُ وأَدنَى مَجلِسَه وأقامَ بالمدِينَةِ مُكرَّمًا.

ولَمّا خرَجَ عُمَرُ رَضِيَ الله عنه حاجًّا خرَجَ جبَلةُ معَهُ، حتّى إذَا كانوا في الطَّوَافِ بالبَيتِ وَطِئَ رجُلٌ مِن فَزَارَةَ أو مُزَينَةَ إزَارَه بغَيرِ عَمدٍ فانحَلَّ، فلَطَمَ جبَلةُ الرّجُلَ لَطمةً هَشَم بها أنفَه وكَسَر ثَنايَاهُ، فشَكَا الرّجُلُ ذلك إلى عُمَرَ رضِيَ الله عنه، فاستَدعَاهُ عُمَرُ وقالَ لَهُ: لِمَ هَشَمتَ أنفَه؟ فقال: يا أمِيرَ المؤمنِينَ، تَعمَّدَ حَلَّ إزارِي، ولولَا حُرمَةُ البَيتِ لضَرَبتُ عنُقَهُ بالسَّيفِ، فقالَ له عُمَرُ: أمّا أنتَ فقَد أقرَرتَ، إِمَّا أن تُرضِيَه وإلَّا أقَدتُهُ مِنكَ، فقال جبَلَةُ أتَقتَصُّ له مِنِّي سَواءً وأنا مَلِكٌ وهذا سُوقِيٌّ؟ فقالَ لَهُ عُمَرُ: الإِسلَامُ سَوَّى بينَكُمَا، ولا فَضلَ لكَ علَيه إلَّا بالتَّقوَى، فتَحَيَّنَ جبَلَةُ الهُرُوبَ في بَنِي عَمِّه إِلَى القُسطَنطِينِيَّةِ، ثُمَّ دخَلَ على هِرَقلَ وارتَدَّ أي تَرَكَ الإسلَامَ ودخلَ في الكُفرِ والعياذُ بالله، إذ تَنصَّر ثَانِيَةً، فَسُرَّ هِرَقلُ بِهِ وزَوَّجَهُ ابنَتَهُ وقَاسَمَه مُلكَه، ثُمَّ نَدِمَ عَلَى ارتِدَادِهِ، وَكَانَ بَعدَ ذَلِكَ يَقُولُ وَهُوَ فِي القُسطَنطِينِيَّةِ يَذُمُّ مَا حَصَلَ مِنهُ:

تَنَصَّرَتِ الأَشرَافُ مِن عَارِ لَطمَةٍ *** وَمَا كَانَ فِيهَا لَو صَبَرتُ لَهَا ضَرَرْ

تَكَنَّفَنِي مِنهَا لَجَاجٌ وَنَخوَةٌ *** وَبِعتُ لَهَا العَينَ الصَّحِيحَةَ بِالعَوَرْ

فَيَا لَيتَ أُمِّي لَم تَلِدنِي وَلَيتَنِي *** رَجَعتُ إِلَى القَولِ الَّذِي قَالَهُ عُمَرْ

وَيَا لَيتَنِي أَرعَى المَخَاضَ بِقَفرَةٍ *** وَكُنتُ أَسِيرًا فِي رَبِيعَةَ أَو مُضَرْ

لَكِنَّ الكِبرَ غَلَبَهُ وَلَم يَعُد إِلَى الإِسلَامِ، نَسأَلُ اللهَ الثَّبَاتَ عَلَى الحَقِّ.

فائدة
إذا طلبت حاجة فأردت أن تنجح
روى الطبراني وابن أبي شيبة عن علي رضي الله عنه قال: ” إِذَا طَلَبْتَ حَاجَةً ‌فَأَحْبَبْتَ ‌أَنْ ‌تَنْجَحَ فَقُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ الْحَلِيمُ الْكَرِيمُ، ثُمَّ سَلْ حَاجَتَكَ”.

خاصية اسم الله البارئ
مِنْ خواصِّ اسمِ اللهِ “البارئِ”: أنْ يُذْكَرَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ مُتَوَالِيَة كُلَّ يَومٍ مِائَةَ مَرَّةٍ لِلسَّلَامَةِ مِنَ الآفَاتِ.

والله تعالى أعلم وأحكم والحمد لله رب العالمين.

دعاء
أَسأَلُ اللهَ تعَالَى أن يزَوِّدَنا التقَوى ويرفَعَنا درجَاتٍ ويجعلَنَا مِنَ الذينَ لَا خوفٌ عليهِم ولا هم يحزَنُونَ ويُنَوِّرُ قلُوبَنا بالعِلمِ واليَقِينِ والهُدَى والتُّقَى وصَلَاحِ الحالِ ويحفظَنَا مِن كلِّ شرٍّ وسوءٍ ويرفعَ عنَّا وعَن أهلِينَا وأحبَابِنا كلَّ بلاءٍ ويعافِيَنَا مِن كلِّ داءٍ ويجعلَنا مِن أبناءِ الآخرةِ ﴿الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾ الذينَ ﴿تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ ويجعلنا ممن يدعُونَ إلى سبيلِ ربِّهم بالحكمةِ والموعظةِ الحسنةِ الذينَ يأمرونَ بالمعروفِ وينهَونَ عنِ المنكرِ ولا يخشونَ فيهِ لومةَ لائمٍ الذينَ لهمُ البشرَى في الحياةِ الدنيَا وفي الآخرَةِ فيبشِّرُهم ملكُ الموتِ برحمةِ اللهِ ورضوَانِه وينالُونَ مِنَ النعيمِ مِا لَا عينٌ رأَت ولا أذُنٌ سمِعَت ولَا خطَرَ على قلبِ بشرٍ في أعلَى الجنَّةِ بجَاهِ سيِّدِ المرسلينَ محمدٍ عليهِ أفضلُ الصلاةِ وأتمُّ التسليمِ.

اللهم اجعَلنا مِن جُندِكَ فَإنَّ جُندَكَ هُمُ الغالِبُونَ، وَاجعَلنا مِن حِزبِكَ فَإنَّ حِزبَكَ هُمُ المُفلِحُونَ، وَاجعَلنا مِن أولِيائِكَ فَإنَّ أولِياءَكَ لا خَوفٌ عَلَيهِم وَلا هُم يَحزَنُونَ، اللهم أَصلِح لَنا دِينَنَا فَإنَّهُ عِصمَةُ أمرِنَا، وَأصلِح لَنا ءاخِرَتَنا فَاِنَّها دارُ مَقَرِّنَا، وَاجعَلِ الحَيَاةَ زِيادَةً لنا في كُلِّ خَيرٍ، وَالوَفاةَ راحَةً لَنا مِن كُلِّ شَرٍّ يا أرحَمَ الرَّاحِمِينَ.

اللَّهُمَّ لا تَرْفَعْ لليَهودِ في القدسِ رَايَةً وَلا تُحَقِّقْ لَهُم في فِلَسْطينَ غَايَةً يا رَبَّ العَالمينَ يا اللهُ، اللَّهُمَّ عَليكَ باليهودِ المعْتَدِينَ. اللَّهُمَّ أَحْصِهِم عَدَدًا واقْتُلْهُم بَدَدًا وَلا تُغادِرْ مِنْهُم أَحَدًا. اللَّهُمَّ أَغِثْ أهلَ القُدْسِ وأهلَ فِلَسْطِينَ. اللَّهُمَّ أَغِثْ أهلَ القُدْسِ وأهلَ فِلَسْطِينَ. اللَّهُمَّ عَليكَ باليهودِ المعْتَدِينَ. اللَّهُمَّ شَتِّتْ شَمْلَهُم وبَدِّدْ قُوَّتَهُم وفَرِّقْ جَمْعَهُم. اللَّهُمَّ مَزِّقْهُم شَرَّ مُمَزَّقٍ يا رَبَّ العَالمينَ.

اللهم أعِنَّا علَى الصيامِ والقِيامِ وتقبَّل منَّا يا رَبَّ العالَمِينَ، اللهم اجعَلنَا مِن عتقَاءِ هذَا الشهرِ الكريمِ ومِنَ المقبُولِينَ يا أكرَمَ الأكرَمِينَ، اللهم أعتِقنَا فِيهِ مِنَ النيرَانِ يا اللهُ يا اللهُ يا اللهُ، اللهم أرِنَا ليلَةَ القدرِ المبارَكَةِ يا رَبَّ العالمينَ وارزُقنَا فيهَا دعوَةً مجَابَةً بجَاهِ سَيِّدِ الأولِينَ وَالآخِرِينَ يا اللهُ، اللهم ارفَعِ البَلَاءَ وَالوَبَاءَ والأَمرَاضَ عَنِ المسلِمِينَ في مشَارِقِ الأرضِ ومغَارِبِهَا إكرامًا لوِجهِ محمَّدٍ ﷺ يا ربَّ العالمِينَ، اللهم توفَّنَا عَلَى كامِلِ الإيمَانِ وارزُقنَا شهَادَةً في سبيلِكَ ومَوْتًا في بلَدِ نبيِّكَ ﷺ، واحشرنا على نُوقٍ رحَائِلُهَا مِن ذهَبٍ آمنِينَ مطمَئِنِّينَ يا رَبَّ العَالَمِينَ، اللهم ارزقنَا حُسنَ الخِتَامِ والمَوتَ على دِينِكَ دينِ الإسلامِ ورؤيَةَ سيدِ الأنَامِ سيدنَا مُحَمَّدٍ عليهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، احشُرنَا فِي زُمرَتِهِ وأَورِدنَا حوضَهُ الشريفَ يا ربَّ العالمين.

وصلَّى اللهُ وسلَّمَ على سيدِ الأنبياءِ والمرسلِينَ وسلَامٌ علَى المُرسَلِينَ والحَمدُ للهِ ربِّ العالَمِينَ.

شاهد أيضاً

شرح دعاء “اللهم إني أسألك من الخير كله” ودلالاته في طلب الجنة والوقاية من النار

المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم الحمدُ لله الذي أنزلَ على عبده الكتاب ولم يجعل لهُ …