المقدمة
الحَمدُ للهِ الأَوَّلِ قَبلَ كُلِّ أَوَّلٍ، وَالآخِرِ بَعدَ كُلِّ آخِرٍ، وَالدَّائِمِ بِلَا زَوَالٍ، وَالقَائِمِ عَلَى كُلِّ شَيءٍ بِغَيرِ انتِقَالٍ، وَالخَالِقِ خَلقَهُ مِن غَيرِ عَونٍ وَلَا امتِثَالٍ، فَهُوَ الفَردُ الوَاحِدُ مِن غَيرِ عَدَدٍ، وَهُوَ البَاقِي بَعدَ كُلِّ أَحَدٍ، إِلَى غَيرِ نِهَايَةٍ وَلَا أَمَدٍ لَهُ الكِبرِيَاءُ وَالعَظَمَةُ، وَالبَهَاءُ تَعَالَى عَن أَن يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ فِي سُلطَانِهِ، أَو نَدِيدٌ فِي وَحدَانِيَّتِهِ، أَو مُعِينٌ أَو ظَهِيرٌ فِي تَدبِيرِهِ ، أَو أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ، أَو صَاحِبَةُ أَو كُفُوًا أَحَدٌ، لَا تُحِيطُ بِهِ الأَوهَامُ، وَلَا تَحوِيهِ الأَقطَارُ، وَلَا تُدرِكُهُ الأَبصَارُ، وَهُوَ يُدرِكُ الأَبصَارَ، وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ، ذُو الِاقتِدَارِ وَالتَّدبِيرِ، أَحمَدُهُ عَلَى آلَائِهِ، وَأَشكُرُهُ عَلَى نَعمَائِهِ، حَمدَ مَن أَفرَدَهُ بِالحَمدِ، وَشُكرَ مَن رَجَا بِالشُّكرِ مِنهُ المَزِيدَ، وَأَستَهدِيهِ مِنَ القَولِ وَالعَمَلِ لِمَا يُقَرِّبُنِي مِنهُ وَيُرضِيهِ، وَأُؤمِنُ بِهِ إِيمَانَ مُخلِصٍ لَهُ التَّوحِيدَ، وَمُفرِدٍ لَهُ التَّمجِيدَ، وَأَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ النَّجِيبُ، وَرَسُولُهُ الأَمِينُ، اصطَفَاهُ لِرِسَالَتِهِ، وَابتَعَثَهُ بِوَحيِهِ، دَاعِيًا خَلقَهُ إِلَى عِبَادَتِهِ، فَصَدَعَ بِأَمرِهِ، وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ، وَنَصَحَ لِأُمَّتِهِ، وَعَبَدَهُ حَتَّى أَتَاهُ اليَقِينُ مِن عِندِهِ، مَا قَصَّرَ فِي بَلَاغٍ، وَلَا تَوانَى فِي جِهَادٍ، صَلَّى اللهُ عَلَيهِ أَفضَلَ صَلَاةٍ وَأَزكَاهَا وَسَلَّمَ تَسلِيمًا كَثِيرًا، أَمَّا بَعدُ:
فقد وصلنا في شرحنا لألفية السيرة النبوية للحافظ العراقي إلى قوله:
ذكر أحداث السنة الثامنة للهجرة
وَبَعثُ عَمرٍو وَهُوَ ابنُ العَاصِي *** إِلَى قُضَاعَةٍ بِمَرمًى قَاصِي
ذَاتِ السَّلَاسِلِ وَكَانَ مَن مَعَه *** عَدَّ ثَلَاثَمائِةٍ مُجتَمِعَة
وَفي سنَةِ ثمَانٍ مِنَ الهِجرَةِ كانَ بَعثُ عَمرِو بنِ العَاصِ بعدَ إسلامِه بسَنَةٍ إِلَى قُضَاعَةَ بذَاتِ السَّلَاسِلِ علَى عشَرَةِ أيّامٍ مِن المدِينةِ خَلفَ وادِي القُرَى.
فخرَجَ عَمرٌو وَقَد عقَد لهُ رسُولُ اللهِ ﷺ لِواءً أبيَضَ وجعَلَ معَه رايَةً سَودَاءَ، وكَانَ مَن خرَجَ معَ عَمرٍو في السَّرِيّةِ ثَلَاثُمِائَةٍ مِنَ المُهاجرِينَ والأنصَارِ مُجتَمِعَةً ومعَهُم ثلاثونَ فرَسًا، وأمرَه ﷺ أن يَستعِينَ بِمَن مَرَّ بِه مِنَ العرَبِ، وذلِكَ أنَّ عَمرًا كان ذا رَحِمٍ في بَنِي قُضَاعَةَ، فكانَت أُمُّه قُضاعِيَّةً، فأرادَ رسولُ الله ﷺ أن يَتألَّفَهُم بذلِكَ.
وكانَ عَمرٌو يَكمُن النّهارَ ويَسِيرُ اللّيلَ حتّى إذَا كانَ بذاتِ السَّلاسِل وَبَلَغَ ابنَ العَاصِ كَثرةُ الجَمعِ أَرسَلَ رافِعَ بنَ مَكِيثٍ الجُهَنِيَّ إلى رسُولِ الله ﷺ يُخبِرُهُ أنّ لهم جَمعًا كثِيرًا ويَستَمِدُّهُ قَدرَ الاستِطَاعَةِ، فأَرسَلَ لَهُ النّبِيُّ ﷺ أَبَا عُبَيدَةَ بنَ الجَرّاحِ وعقَدَ له ﷺ لِواءً فِي مائَتَينِ مِن المُهاجرِينَ والأَنصَارِ، وكانَ في المدَدِ شَيخَا الرَّشَدِ والهُدَى العُمَرَانِ أبو بَكرٍ وعُمرُ رضِيَ اللهُ عنهما، فخرَجَا مع المدَدِ يَلحَقَانِ عَمرَو بنَ العاصِ.
ثُمَّ سَارُوا جمِيعًا، فأرادَ المُسلِمونَ أن يُوقِدوا نارًا لِيَصطلُوا علَيها مِن البَردِ فمَنَعَهُم عَمرٌو، فغَضِبَ عُمَرُ بنُ الخطّابِ وهَمَّ أن يَأتِيَه، فنَهاهُ أبو بَكرٍ وأخبَرَهُ أنَّ رسولَ الله ﷺ لَم يَستَعمِل عَمرًا إلّا لعِلمِه بالحَربِ، فهدَأَ عنه عُمَرُ.
وسارَ عَمرٌو بالجَيشِ اللَّيلَ وكمَنَ النّهارَ حتّى وَطِئَ بِلادَ العَدُوّ، ثُمّ أوغَلُوا في أرضِهِم حَتَّى لَقُوا في ءاخِرِها جَمعًا مِنَ الكُفَّارِ لَيسُوا بالكَثِير، فاقتَتلُوا ساعةً وحمَلَ المُسلِمُون علَيهم فهَزمُوهم، فَهَرَبَ الكُفَّارُ مُولِّينَ لِلأَدبَارِ، واستَولَى المُسلِمون على ما هُنالِكَ.
قال بعض العلماء: أفضل الكسب الغنيمة لأنه يَكسِب من جهاد ثم الزراعة لأن فيها توكلا كثيرا لأنه إذا زرع لا يثق هل تحمل أم لا وإن حملت هل تتعرض للآفات أم لا وإن لم تتعرض لا يثق هل يُشترى منه أم لا ولأن فيها نفعا للطيور، ثم الصناعة، ثم التجارة.
فَبَعثُهُ أَيضًا أَبَا عُبَيدَةِ *** فِي عِدَّةٍ وَهُم ثَلَاثُمائَةِ
وَهُوَ الَّذِي تَعرِيفُهُ جَيشُ الخَبَط *** يَلقَونَ عِيرًا لِقُرَيشٍ فَفَرَط
وَكَانَ زَادُهُم جِرَابَ تَمرِ *** فَأَكَلُوا الخَبَطَ فَقدَ التَّمرِ
وَفِيهِ أَلقَى البَحرُ حُوتًا مَيِّتَا *** يَدعُونَهُ العَنبَرَ حَتَّى ثَبَتَا
شَهرًا عَلَيهِ الجَيشُ حَتَّى سَمِنُوا *** مِن أَكلِهِ وَحَمَلُوا وَادَّهَنُوا
وَفِيهِ قَيسٌ ابنُ سَعدٍ نَحَرَا *** جَزَائِرًا لِلجَيشِ حَتَّى ائتَمَرَا
عُمَرُ مَع أَمِيرِهِم فَمَنَعَا *** وَجَاءَ سَعدٌ فَاشتَكَى مَن مَنَعَا
وفي سنةِ ثَمَانٍ مِنَ الهِجرَةِ كان بَعثُهُ ﷺ أَيضًا أَبَا عُبَيدَةِ عامرَ بنَ الجَرّاحِ رضي الله عنه فِي عِدَّةٍ مِن المُهاجرِينَ والأنصارِ وَهُم ثَلَاثُمائَةٍ، وفيهِم عُمرُ بنُ الخطّابِ رضي الله عنه، وَهُوَ بَعثُ الخَبَطِ، وهو ما سقَطَ مِن ورَقِ الشَّجَرِ إذا خُبِطَ بالعَصا.
وقَد خرَج المُهاجرُونَ والأنصارُ في هذه السّرِيّةِ ليَرصُدوا قَوافِلَ لِقُرَيشٍ كان يُظَنُّ أنّه يَمُرُّ بالسّاحلِ لناحِية دِيارِ جُهَينةَ، فَعدَلَ العِيرُ إلى طريقٍ ءاخرَ وأفلتَ مِن أيدِي السّرِيّةِ، ومكَثَتِ السّرِيّةُ تَرصُد العِيرَ قبل أن يتبيَّنَ انفلاتُها مِنهُم بساحِل البحرِ الأحمرِ نِصفَ شَهرٍ (وَكَانَ زَادُهُم) الّذي زوَّدَهُم بِه رسولُ الله ﷺ وعاء تَمرٍ مِن جِلدٍ، فقَد جاءَ عن بعضِهم أنه قال: وَزَوَّدَنَا أي رسولُ الله ﷺ جِرَابًا مِن تَمرٍ لَم يَجِد لَنَا غَيرَه.
وكانَ أبو عُبيدَة رضي الله عنه يُعطِي الواحِدَ مِنهُم في اليومِ واللّيلةِ تَمرةً واحِدةً يمَصُّها ثم يَصُرُّها في ثَوبِه، فأصابَهُم جُوعٌ شدِيدٌ حتى أَكَلُوا ورق الخَبَطَ، وكانُوا يَبُلُّونَه بالماءِ ويأكُلُونَهُ حتّى تَقرَّحَت أَشدَاقُهُم، وفي ذلك بَيانُ ما كانَ عليهِ الصّحابةُ رضي الله عنهُم مِن الجَهدِ والاجتِهادِ والصَّبرِ على الشّدائِد العِظامِ والمَشقّاتِ العظِيمةِ لإظهارِ الدِّينِ ونَشرِه وإطفاءِ كَلِمةِ المُشرِكينَ.
وقال بعضُ أهل السّرِيّةِ: والله لو لَقِينَا عَدُوًّا ما كان مِنَّا حركةٌ إليهِ لِمَا بالنَّاسِ مِنَ الجَهدِ، حتَّى إنَّ قيسَ بنَ سَعدِ بنِ عُبادةَ رضي الله عنهُما خرَجَ إلى أهلِ ساحلِ البَحرِ الأحمَرِ فقال: مَن يَشترِي مِنِّي تَمرًا بِجَزُورٍ، نَحرُها هَهُنا وأُوَفِّيهِ الثَّمَنَ بالمَدِينَةِ؟، فوجَدَ رجُلًا مِن جُهَينَةَ، فقال قَيسٌ: بِعنِي جَزُورًا وأُوَفِّيكَ ثمَنَه مِن تَمرٍ بالمدِينَةِ، فقال الجُهَنِيُّ: واللهِ مَا أعرِفُكَ، فمَن أنتَ؟ قال: أنا قَيسُ بنُ سَعدِ بنِ عُبادةَ بنِ دُلَيمٍ، فقالَ الجُهَنيُّ: ما أَعرَفَنِي بِنَسَبِك، إنّ بَينِي وبينَ سَعدٍ خُلَّةٌ، سَيِّدُ أهلِ يَثرِبَ، فابتاعَ مِنهُ خَمسَ جَزائِرَ، كُلُّ جَزُورٍ بِوَسْقٍ مِن تَمرٍ، واشتَرَطَ عليهِ البَدَوِيُّ مِن تَمرِ ءَالِ دُلَيمٍ، فقالَ قَيسٌ: نعَم، فقالَ الجُهَنِيُّ: أَشهِد لِي، فأَشهَدَ له نفَرًا مِن الأنصارِ ونفَرًا مِن المُهاجرِينَ، فقال عُمَرُ بنُ الخطّابِ: لا أَشهَدُ، إنّما المالُ لأَبِيهِ ولا مَالَ لَهُ، فقال الجُهَنيُّ: والله ما كان سَعدٌ لِيَخُنِّي بابنِهِ في سِقَةٍ مِن تَمرٍ، وأرَى وَجهًا حسَنًا وفِعلًا شرِيفًا، فأخَذَ قَيسُ بنُ سَعدٍ رضي الله عنهُما الجُزُرَ فنَحَرَها لِأجلِ إطعَامِ الجَيشِ الّذي أجهَدَهُ الجُوعُ، وجعَلَ قَيسٌ يَنحَرُ لَهُم في مواطِنَ ثَلاثةٍ كُلَّ يَومٍ جَزُورًا، حَتَّى كانَ اليومُ الرّابِعُ، فتكلَّمَ عُمَرُ بنُ الخطّابِ رضي الله عنه معَ أبي عُبيدَةَ بنِ الجَرّاحِ رضي الله عنه لِيَمنَعَهُ، فَمَنَعَ أبو عُبيدةَ قَيسًا عن ذلكَ، وقال له: تُرِيدُ أن تُخفِرَ ذِمَّتَك ولا مالَ لكَ، فقال له قَيسٌ: أتَرَى أبا ثابِتٍ، يعنِي والِدَه، يَقضِي دُيونَ النّاسِ ويُطعِمُ في المجاعةِ ولا يَقضِي دَينًا استَدَنتُه لِقَومٍ مُجاهدِينَ في سبيلِ اللهِ؟، فَلَانَ أبو عُبيدةَ لمُوافقَتِهِ.
وقَدِمَ قَيسٌ المدِينةَ فلَقِيَه والِدُه، قال: ما صَنَعتَ في مَجاعةِ القَوم؟ قال: نَحَرتُ، قال: أصَبتَ، ثُمّ ماذا؟ قال: نَحَرتُ، قال: أصَبتَ، ثُمّ ماذا؟ قال: نَحَرتُ، قال: أصَبتَ، ثُمّ ماذا؟ قال: نُهِيتُ، قال: ومَن نَهاكَ؟ قال: أبو عُبَيدةَ أَمِيرِي، قال: وَلِمَ؟ قال: زَعَم أن لَا مالَ لي وَإِنَّمَا المالُ لِأَبِي، قالَ: فلَكَ أربَعُ حوائِطَ أي بسَاتِينَ أدنَاهَا حَائِطٌ تَجِدُ مِنهُ خَمسِينَ وَسْقًا.
وَجَاءَ سَعدٌ رسولَ الله ﷺ فَاشتَكَى عُمَرَ لأنه منَعَ ابنَه قَيسًا مِن المُضِيِّ فيمَا كان يَفعَلُ، فقالَ رسولُ اللهِ ﷺ: “إِنَّ الجُودَ لَمِن شِيمَةِ أَهلِ ذَلِكَ البَيتِ“.
وَلَمَّا انتَهَتِ الإِبِلُ الَّتِي مَعَهُم ونَحَرَهَا قَيسٌ كلَّهَا، فرَّجَ اللهُ عنهُم برَحمَتِهِ ونَصرِهِ للمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ، فأَلقَى البَحرُ لَهُم دابّةً كانت حُوتًا عظِيمًا مَيِّتًا لَم يرَوا مِثلَه، بحَيثُ إنّ أبَا عُبيدةَ رضي اللهُ عنه نَصَب لَهُم ضِلَعًا مِن أَضلَاعِ الحُوتِ ومَرَّ تَحتَه أطولُ رَجُلٍ في القَومِ وهو قَيسُ بنُ سَعدِ بنِ عُبادةَ راكِبًا على أطوَلِ بَعِيرٍ فلَم يُطَأطِئ رَأسَهُ، وكان هذا الحُوتُ يُسمَّى العَنبَرَ، حَتَّى ثَبَتَ عَلَيهِ الجَيشُ شَهرًا يأكُلُون مِن لَحمِ العَنبَرِ وشَحمِه حَتَّى سَمِنُوا مِن أَكلِهِ وهُم ثلَاثُمِائةٍ، وَحَمَلُوا معَهُم مِن لَحمِهِ إِلَى المدِينَةِ، وَأخرَجُوا مِن نُقرةِ حَدَقَةِ عَينَيهِ الدُّهنَ بالقِلَالِ، وادَّهَنُوا بِها حتّى صلَحَت أجسَامُهُم مِنَ الأَكلِ والدَّهنِ.
فلَمّا قدِمُوا المدِينةَ أتَوا رسولَ الله ﷺ وذكَرُوا ذلكَ له فقال: “هُوَ رِزقٌ أَخرَجَهُ اللهُ لَكُم، فَهَل مَعَكُم مِن لَحمِهِ شَىءٌ فَتُطعِمُونَا؟“، فأَرسَلُوا إِلَى رسُولِ اللهِ ﷺ مِنه شيئًا فأكَلَه.
فَبَعثُ خَالِدٍ لِهَدمِ العُزَّى *** فَحَزَّهَا بِاثنَينِ حَزًّا حَزَّا
وَفِي السَّنَةِ الثَّامِنَةِ للهِجرَةِ كانَ بَعثُ سَيفِ اللهِ وسيفِ رَسولِه خَالِدِ بنِ الوليدِ في ثلاثينَ فارِسًا مِن أصحابِه لِهَدمِ صنَمِ العُزَّى، وهو صنَمٌ كانَ لقرَيشٍ وبَنِي كِنانةَ وكانَ مُعظّمًا جِدًّا عِندَهُم، وكان مُتّخَذًا مِن نخَلاتٍ مُجتمِعةٍ، ويُهدُون إليه كما يُهدُون إلى الكَعبةِ، وكان عَمرُو بنُ لُحَيٍّ أحدُ رُؤوسِ المشركِينَ في مَكَّةَ قَد أخبَرَ مُشرِكِي مكّةَ بزعمه أنَّ الرَّبَّ يُشَتِّي بالطّائِفِ عِندَ اللَّاتِ ويُصَيِّفُ عِندَ العُزَّى، والعيِاذُ باللهِ مِن هذَا الكُفرِ.
وسَمِعَ سَادِنُ العُزَّى أفلَحُ بنُ النَّضرِ السُّلَمِيُّ بِسَيرِ خالِدٍ إلَيها، فعَلَّق علَيها سَيفَه وتوارَى فِي الجَبَل الَّذِي هِيَ فِيهِ وَهُوَ يَقُولُ:
يَا عُزَّ شُدِّي شَدَّةً لَا شَوَى لَهَا *** عَلَى خَالِدٍ أَلقِي الِقَناعَ وَشَمِّرِي
يَا عُزَّ إِن لَم تَقتُلِي المَرءَ خَالِدًا *** فَبُوئِي بِإِثمٍ عَاجِلٍ أَو تَنَصَّرِي
فوصَلَ خالِدٌ وأصحابُهُ إِلَى محَلِّها فعمَدَ إليهَا وقطَعَ نَخلَاتٍ بِنيَّتِها، ثُمّ رجَعَ إِلَى رَسولِ الله ﷺ فأخبَرَهُ بذَلِكَ، فقَالَ لَهُ ﷺ: “هَل رَأَيتَ شَيئًا؟“، قالَ: لَا، قَالَ: “فَارجِع إِلَيهَا“، فرجَعَ خالِدٌ إلَيهَا وَهُوَ مُتَغَيِّظٌ مِنهَا، ثُمَّ جَرَّدَ سَيفَه وهُوَ يَقُولُ:
يَا عُزَّ كُفرَانَكِ لَا سُبحَانَكِ *** إِنِّي رَأَيتُ اللهَ قَد أَهَانَكِ
فخرَجَت إليهِ امرَأَةٌ عارِيَةٌ سَودَاءُ، ثَائِرَةُ شعَرِ الرّأسِ، تَحثُو التُّرَابَ علَى رأسِهَا، وكانَت تِلكَ شيطَانَةً مُتَشَكِّلَةً، فخرَجَ سادِنُهَا السُّلَمِيُّ وجَعَلَ يَصِيحُ: يا عُزَّى عَوِّرِيهِ، يا عُزَّى خَبِّلِيهِ، فضَرَبَهَا خالِدٌ فَقطَعها قِطعَتَينِ.
ورُوِي أنّه لَمّا رجَعَ خالِدٌ إلى رسولِ الله ﷺ فأخبَرَه فقالَ: “نَعَم، تِلكَ العُزَّى، قَد أَيِسَت أَن تُعبَدَ بِبِلَادِكُم أَبَدًا“، فقَالَ خالدٌ: يا رسولَ الله، الحمدُ للهِ الَّذِي أكرَمَنا بكَ وأنقَذَنا بِكَ مِنَ الهَلَكَةِ، لقَد كُنتُ أرَى أبِي يأتِي العُزَّى بخَيرِ مالِه مِن الإبِل والغنَمِ فيَذبَحُها للعُزَّى، ويُقِيمُ عِندَها ثلاثًا ثُمّ يَنصرِفُ إلَينا مَسرُورًا، ونظَرتُ إلى مَا ماتَ عليه أبِي وكَيفَ خُدِعَ، حتّى صارَ يَذبَحُ لِمَا لا يَسمَعُ ولا يُبصِرُ ولا يَضُرُّ ولا يَنفَعُ، فقال رسولُ الله ﷺ: “إِنَّ هَذَا الأَمرَ إِلَى اللهِ، فَمَن يَسَّرَهُ للهدَى تَيَسَّرَ لَهُ، وَمَن يَسَّرَهُ لِلضَّلَالَةِ كَانَ فِيهَا“، وهذَا فِيهِ رَدٌّ علَى القَدَرِيَّةِ، فاللهُ هُوَ الذِي يَخلُقُ الهُدَى وَالضَّلَالَ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ.
وهذا القول الذي قاله النبي ﷺ لخالد بن الوليد في بيان مسألة القدر لدى أهل السنة والجماعة، وقد جاء بعض الناس في زماننا وقبل زماننا كالمعتزلة ومن مشى على طريقهم فجعلوا مشيئة الله تابعة لمشيئة العبد، وقالوا إن الله لا يُضِلُّ أحدًا، فمعنى الآية عندهم: إن شاء العبد الاهتداء شاء الله له الهدى وإن شاء العبد أن يضل أضله الله، فكذبوا بالآية (وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ) [التكوير 29].
فهؤلاء القائلون بهذه المقالة تبعوا المعتزلة في هذه المسألة فقاسوا الخالق على المخلوق فضلّوا وحرّفوا معنى الآية التي يحتجّون بها وهي قوله تعالى (فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) [إبراهيم 4] ظنًا منهم أننا إذا قلنا: إن الله هو الذي يضلّ من شاء له الضّلالة من عباده فقد نسبنا الظلم إلى الله، قالوا: كيف يشاء الله الضّلالة له ثم يعاقبه على ذلك، فَمِن هنا ضلُّوا فقالوا في قوله تعالى (يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) [المدثر 31] يشاء أي العبد يعيدون الضمير إلى (مَنْ) و (مَنْ) واقع على العبد، فمعنى الآية على تفسيرهم أنَّ العبد الذي يشاء الضلال يضله الله، هكذا هم يحرفون، لكن الصواب إعادة الضمير إلى الله (يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشَاءُ) أي العبد الذي شاء الله بمشيئته الأزلية الأبدية أن يضلّ فإنَّه يضلّه الله، هذا معنى الآية (يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشَاءُ) وإلى لفظ الجلالة يعود الضمير.
ومعنى قوله تعالى (وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) أي أن الله تبارك وتعالى هو إن شاء بمشيئته الأزلية الأبدية أن يهتدي شخص يهتدي ذلك الشخص، ينساق باختياره إلى الهدى فيختار الهدى والإيمان لأن الله شاء له ذلك. وهذا هو الموافق لآيات أخرى كقوله تعالى (فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ) [الروم 29] وقوله (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) [غافر 33] وأصرح ءاية في إبطال عقيدة المعتزلة الآية (تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ) [الأعراف 155] لأن قوله تعالى (تَشَاءُ) صريح في نسبة المشيئة إلى الله، لان موسى يخاطب الله بقوله (مَنْ تَشَاءُ) فلا معنى للآية إلا: تضل بها من تشاء أنت يا الله، فليعلم أن الذي ذهبوا إليه ضد القرءان.
ثم قد قال تعالى (إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ) [الإسراء 30] فهل يقولون إن العبد يبسط الرزق كما زعم أن العبد يشاء الضلالة في قوله تعالى (فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشَاءُ) [إبراهيم 4].
واستدل أهل السنة على أن الله خالق الهداية والضلالة في العباد بقوله تعالى (مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الأنعام 39]
وقال (وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ) [الجاثية 23] ومعناه سدّ عليهم أبواب الهداية، فإن الهدى يدخل إلى العبد من ثلاثة أبواب: بما يسمعه بأذنه أو يراه بعينه أو يعقله بقلبه.
وقال تعالى أيضًا (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) [المائدة 41] وقد أوردها الإمام البيهقي مع آيات أخرى في باب أسماه [باب ذكر البيان أن أفعال الخلق كلها تقع بمشيئة الله جل ثناؤه وإرادته].
وقال تعالى (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا) [الأنعام 125] فنَصَّ الله تعالى على أن الهدى بإرادته، والضلال بإرادته، وهذا نص واضح لا إشكال فيه.
ويدل عليه أيضًا قوله تعالى (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ المَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ المَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَىْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللهُ) [الأنعام 111]
فتبين من مجموع ما ذكرناه أن الله تعالى هو الذي يخلق الهدى والضلالة في قلوب من شاء من خلقه، فإذا أثاب المطيع فبفضله، وإن عاقب العاصي فبعدله من غير ظلم منه، لأنه تعالى يتصرف في ملكه كما يشاء.
فَبَعثُ عَمرٍو ثَانِيًا فَهَدَمَا *** سُوَاعَ وَالسَّادِنُ عَادَ مُسلِمَا
ثُمَّ فِي نَفسِ السَّنَةِ كَانَ بَعثُ عَمرِو بنِ العاصِ لِهَدمِ صنَمِ سُواعٍ، وكان سُواعٌ واحِدًا مِن خَمسةٍ مِن الصّالحِينَ قبلَ نُوحٍ عليهِ السّلامُ، فلَمّا ماتُوا جَزِع بعضُ النّاسِ وحَزِنُوا حُزنًا شدِيدًا، وكان في كُلِّ مرّةٍ يموتُ مِنهُم واحِدٌ يأتِي إبليسُ النّاسَ مُتشكلا في صُورةِ إنسانٍ ويقولُ لَهُم: إنّي أرَى جزَعَكُم علَيه، فهَل لَكُم أن أُصَوِّرَ لَكمُ مِثلَهُ فيكونَ في نادِيكُم فتَذكرُونَهُ بِهِ؟، فيقُولون: نعَم، فيُصوِّرُ لهم مِثلَه فيَضعُونَهُ في نادِيهِم ويَجعلُونَ يَذكرُونَهُ، فإذَا رأَى إبليسُ ما بهِم مِن ذِكرِه قالَ: هل لكُم أن أجعَلَ في مَنزِلِ كلِّ واحِدٍ مِنكُم تِمثَالًا مِثلَهُ ليكُونَ لَهُ في بَيتِهِ فتَذكرُونَهُ؟ فيقولون: نعَم، فتطاولَ الزَّمنُ وجاءَ مِن نَسلِ أولَادِ أولَئِكَ أولَادٌ، فلَبَّسَ علَيهِمُ الشّيطَانُ حتَّى أغواهُم فَكَفَرُوا وعَبَدُوا تِلكَ التّماثِيلَ، ولَمّا بعثَ اللهُ نُوحًا عليهِ السّلامُ وكانَ أَوَّل نّبِيٍّ رسُولٍ مُرسَلٍ إِلَى الكُفَّارِ، جعَل الكُفَّارُ يَحثُّونَ بعضَهُم على التّمسُّكِ بعِبادةِ هذِهِ الأصنَامِ، فلَم يُؤمِن مَعَ نُوحٍ علَيهِ السّلَامُ في تِسعِمِائةٍ وخمسِينَ سنةً مِنَ الدَّعوَةِ إِلَى التَّوحِيدِ إِلَّا نَحوُ ثَمَانِينَ.
ثُمّ عادَ فلبَّس إبليسُ لعنَه الله على هُذَيلٍ فاتَّخذُوا صنمَ سُوَاعٍ، وكانُوا يَحُجُّونَ إِلَيهِ قَبلَ فَتحِ مكّةَ، فأرسَلَ رسولُ اللهِ ﷺ عمرَو بنَ العَاصِ فِي جمَاعَةٍ مِن أصحَابِهِ إِلَى سُواعٍ ليَكسِرَهُ، فانتَهَى عَمرٌو إلى الصَّنَمِ وعندَهُ سادِنُه، فقال له: ما تُرِيدُ؟ فقال: أمرَنِي رسولُ الله ﷺ أن أهدِمَهُ، قال: لا تَقدِرُ، تُمنَعُ، فقالَ لَهُ عمرٌو: حتّى الآنَ أنتَ علَى الباطِلِ، ويحَكَ وهَل يَسمَعُ أو يُبصِرُ؟!، فَهَدَمَ عمرٌو سُوَاعًا، وَأمّا السَّادِنُ فقالَ لَهُ عمرٌو عقِبَ ذلكَ: كيفَ رأيتَ؟ فعَادَ السّادِنُ مُسلِمًا، قال: أسلَمتُ للهِ.
فَبَعثُ سَعدٍ وَهُوَ ابنُ زَيدِ *** هَدَم مَنَاتَهُم عَلَى قُدَيدِ
وَبَعدَ بَعثِ عَمرِو بنِ العاصِ لهَدمِ صنَمِ سُواعٍ كان بَعثُ سَعدٍ الأَشهَلِيّ وَهُوَ ابنُ زَيدٍ في رمَضانِ سنَةِ ثمانٍ لهَدمِ مَناةَ، صنَمٍ كانَ للأَوسِ والخَزرَجِ، فخرَجَ سَعدٌ رضي الله عنه في عشرِينَ فارِسًا إلى مَناةَ ليَهدِمَها، فلَمّا وصَلُوا إليها قال سادِنُهَا لِسَعدٍ: ما تُرِيدُ؟ قال: هَدمَ مَناةَ، قال: أنتَ وذاكَ (أي فافعَل إنِ استطَعتَ، يريدُ التّهكُّمَ، يعني لا تستطِيعُ ذلكَ)، فأقبَل سعدٌ يَمشِي إليهَا فخرَجَ إليهِ مِنهَا امرَأَةٌ عارِيَةٌ سَوداءُ ثائِرَةُ الرّأسِ (أي مُنتَشِرَةُ الشَّعَرِ)، وكَانَت شيطَانَةً مُتَشَكِّلَةً، فصارَت تَدعُو بالوَيلِ وتَضرِبُ صَدرَها، فضرَبَهَا سَعدٌ فقتَلَهَا، وكانت مَناةُ مستقِرَّةً بالمشلَّلِ – بضّم المِيم وفتح اللّام الأُولى المشدّدة – وهو جبَلٌ مُطِلٌّ عَلَى قُدَيدٍ بقُربِ مكّة
فَبَعثُ خَالِدٍ إِلَى جَذِيمَةِ *** ثَانِيَةً يَدعُو لِخَيرِ مِلَّةِ
ثمَّ فِي السَّنَةِ الثَّامِنَةِ أَيضًا كَانَ بَعثُ خَالِدِ بنِ الولِيدِ إِلَى بَنِي جَذِيمَةِ مِن عبدِ القَيسِ بناحيةِ يَلمَلَمَ أسفلَ مكّةَ، فخرَجَ خالِدٌ يَدعُو بَنِي جَذِيمةَ لِلإسلَامِ، ولَم يَكُن خالِدٌ مأمورًا بالخُروجِ مُقَاتِلًا معَ أنَّه قَد خرَجَ معه ثَلاثُمائةٍ وخمسُونَ رجُلًا مِن المهاجرِينَ والأنصَارِ ومِن بَنِي سُلَيمٍ، وكانَ بَنُو جذِيمةَ قَد قتَلُوا في الجاهِلِيَّةِ الفَاكِهَ عَمَّ خالِدٍ وأخًا للفَاكِهِ لأُمِّهِ، وكانُوا مِن شَرِّ حيٍّ في الجاهلِيَّةِ حتَّى سُمُّوا لَعَقَةَ الدَّمِ، كمَا أنّهُم قتَلُوا عَوفًا والِدَ عَبدِ الرّحمَنِ، فلَمَّا عَلِمُوا بخُروجِ خالِدٍ وأنّ معَه بَني سُلَيمٍ خافُوا فلَبِسُوا السِّلَاحَ، فلَمّا انتَهَى إلَيهِم خَالِدٌ وأصحَابُهُ تلَقَّوهُ، فقالَ لَهُم خالِدٌ: أَسلِمُوا، وَكَانُوا قَد أَسلَمُوا لكن لم يحسنوا الإخبار عن إسلامهم وإيمانهم بالله ورسوله، بأن يعلنوا شهادة الإسلام، بل قالوا كلمة (صبأنا)، وهذه كلمة لها ماض سيئ في الإسلام، حيث كانت تطلق في مقام الذم للمسلمين الأوائل في مكة، فتأول خالد رضي الله عنه كلمتهم، ورأى أنها استهزاء وسخرية وانتقاص للإسلام، فقتل منهم وأسر، ثم أمر بعد ذلك بقتل الأسرى باعتبار أنهم كفار مستهزئون بالإسلام، فعارضه بعض الصحابة، ولم ينقادوا لأمره.
وكانَ رسُولُ اللهِ ﷺ قَد عرَفَ خبرَ خالِدٌ قبلَ قدُومِهِم، فقَالَ رسولُ اللهِ ﷺ: “اللهم إنِّي أَبرَأُ إلَيكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ“، قالَ ذلِكَ ﷺ مرَّتَينِ (معنَاهُ أنَا أَبرَأُ إِلَيكَ مِنَ الأَمرِ الَّذِي قَد أَتَاهُ خَالِدٌ)، وبعَثَ رسولُ اللهِ ﷺ علِيَّ بنَ أبِي طالِبٍ رضي الله عنه فأعطَاهُم دِيَاتِ قَتلَاهُمُ، لأنّهُم قُتِلُوا خَطأً.
وَفِي السَّنَةِ الثَّامِنَةِ مِنَ الهِجرَةِ كَانَ إِسلَامُ كَعبِ بنِ زُهَيرِ بنِ أَبِي سُلمَى رَضِيَ اللهُ عَنهُ، وَأَبُوهُ هُوَ صَاحِبُ إِحدَى المُعَلَّقَاتِ السَّبعِ، وَفِيهَا قَالَ قَصِيدَتَهُ المَشهُورَةَ: بَانَت سُعَادُ.
وجَاءَ فِي قِصَّةِ إِسلَامِهِ أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ رسولُ اللهِ ﷺ مِن مُنصَرَفِهِ عَنِ الطَّائِفِ كَتَبَ بُجَيرُ بنُ زُهَيرِ بنُ أَبِي سُلمَى إِلَى أَخِيهِ لِأَبَوَيهِ كَعبِ بنِ زُهَيرٍ يُخبِرُهُ أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ قتَلَ رجَالًا بمكَّةَ ممَّن كانَ يهجُوهُ ويُؤذِيهِ، وأنَّ مَن بقِيَ مِن شعرَاءِ قرَيشٍ ابنُ الزَّبَعرَى وَهُبَيرَةُ بنُ أَبِي وَهبٍ هَرَبُوا فِي كُلِّ وَجهٍ، فإِن كانَت لَكَ فِي نَفسِكَ حاجَةٌ فطِر إِلَى رسُولِ اللهِ ﷺ، فإِنَّهُ لا يَقتُلُ أحَدًا جاءَهُ تائِبًا، وإِن أَنتَ لَم تفعَل فَانجُ إِلَى نَجَائِكَ مِنَ الأَرضِ.
فلمَّا بلَغَ كعبًا الكِتَابُ ضاقَت بِهِ الأَرضُ وأَشفَقَ عَلَى نَفسِهِ ثُمَّ خرَجَ حتَّى قدِمَ المَدِينَةَ فَنَزَلَ عَلَى رَجُلٍ كَانَت بَينَهُ وبينَهُ معرِفَةٌ مِن جهَينَةَ، فغَدَا بهِ إِلَى رسُولِ اللهِ ﷺ في صلَاةِ الصُّبحِ، ثم أَشَارَ لَهُ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فقَالَ: هَذَا رسُولُ اللهِ، فَقُم إِلَيهِ فَاستَأمِنهُ، فَقَامَ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فجلَسَ إِلَيهِ وَوَضَعَ يَدَهُ في يَدِهِ، وكَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لَا يَعرِفُهُ، فقَالَ: يا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ كَعبَ بنَ زُهَيرٍ قَد جَاءَ لِيَستَأمِنَ مِنكَ تَائِبًا مُسلِمًا، فهَل أَنتَ قَابِلٌ مِنهُ إِن جِئتُكَ بِهِ؟، فقَالَ رسُولُ اللهِ ﷺ: “نَعَم“، فقَالَ: إِذًا أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ كَعبُ بنُ زُهَيرٍ، فوَثَبَ علَيهِ رجُلٌ مِنَ الأَنصَارِ، فقَالَ: يا رسُولَ اللهِ، دعنِي وعَدُوَّ اللهِ أضرِبُ عنُقَهُ، فقالَ رسُولُ اللهِ ﷺ: “دَعهُ عَنكَ، فَإِنَّهُ قَد جَاءَ تَائِبًا نَازِعًا“، فقَالَ في قصِيدَتِهِ التِي قالَ حِينَ قدِمَ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ:
بَانَت سُعَادُ فَقَلبِي اليَومَ مَتبُولُ *** مُتَيَّمٌ إِثرَهَا لَم يُفدَ مَكبُولُ
وَمَا سُعَادُ غَدَاةَ البَينِ إِذ رَحَلُوا *** إِلَّا أَغَنُّ غَضِيضُ الطَّرفِ مَكحُولُ
إلى أَنْ قَالَ:
تَسعَى الوُشَاةُ بِجَنبَيهَا وَقَولُهُمُ *** إِنَّكَ يَا ابنَ أَبِي سُلمَى لَمَقتُولُ
فَقُلتُ خَلُّوا سَبِيلِي لَا أَبَا لَكُمُ *** فَكُلُّ مَا قَدَّرَ الرَّحمَنُ مَفعُولُ
كُلُّ ابنِ أُنثَى وَإِن طَالَت سَلَامَتُهُ *** يَومًا عَلَى آلَةٍ حَدبَاءَ مَحمُولُ
نُبِّئتُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ أَوعَدَنِي *** وَالعَفوُ عِندَ رَسُولِ اللهِ مَأمُولُ
إِنَّ الرَّسُولَ لَنُورٌ يُستَضَاءُ بِهِ *** مُهَنَّدٌ مِن سُيُوفِ اللهِ مَسلُولُ
فخلع النبي عباءته وألبسه إياها.اهـ
وَفِي السَّنَةِ الثَّامِنَةِ مِنَ الهِجرَةِ مَاتَ رَأسُ النِّفَاقِ عَبدُ اللهِ بنُ أُبَيِّ بنِ سَلُولٍ لَعَنَهُ اللهُ، وَمَا زَالَ يُنَافِقُ إِلَى ءَاخِرِ لَحظَةٍ مِن حَيَاتِهِ، حَتَّى طَلَبَ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ قَمِيصَهُ لِيُكَفَّنَ بِهِ، يُرِيدُ أَن يَظُنَّ النَّاسُ أَنَّهُ تَابَ، وَلَكِنَّ اللهَ فَضَحَهُ فِي القُرءَانِ بَعدَ مَوتِهِ.
يستحيل على النبي أن يصلي صلاة الجنازة على مشرك منافق في الإيمان وهو يعرف حقيقة أمره، فإن ما رواه البخاري وغيره من أن الرسول ﷺ صلى صلاة الجنازة على عبد الله بن أبي ابن سلول وكان قد توفي، والرسول حسّـن فيه الظن ولكن ذاك في الحقيقة كافر منافق والرسول ما كان يعرف باطنه الخبيث، فهو دليل على أن الرسول لا يعلم إلا ما أعلمه الله به، فالله تعالى قال في كتابه الكريم (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) (التوبة 101).
قال الحافظ أبو الحسن بن بطال في شرحه على البخاري (فرض على جميع المؤمنين متعين على كل واحد منهم ألا يدعو للمشركين ولا يَستغفر لهم إذا ماتوا على شركهم لقوله تعالى (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَىٰ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) (التوبة 113). وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في شرح البخاري (أما جزم عمر بأنه منافق فجرى على ما كان يطلع عليه من أحواله، وإنما لم يأخذ النبي ﷺ بقوله (أي بقول عمر) وصلى عليه (أي على ذاك المنافق صلاة الجنازة) إجراء له على ظاهر حكم الإسلام كما تقدم تقريره (انظر إلى قول ابن حجر أن هذا هو المقرر).
ثم يقول الحافظ وبهذا التقرير يندفع الإشكال عما وقع في هذه القصة بحمد الله تعالى.
وقال الإمام الكبير أبو بكر الجصاص عالم العراق في أصوله (إنه لا يجوز على النبيّ أن يستغفر للكفار، وأن من جوّز على النبي أن يستغفر للكفار فقد انسلخ من الدين، ذلك أنه معلوم أنه قد كان من دين النبي من أول ما بعثه الله إلى أن توفاه أنه دعا الناس إلى اعتقاد تخليد الكافر في النار، وأنه لم يجوّز قط غفران الكفر، ثم قال فمن جوّز على النبي جواز الاستغفار للكافر فهو خارج عن الملة).
وهذا الجصاص توفي سنة 370 للهجرة انتهت إليه رئاسة أصحاب أبي حنيفة وكان مشهورًا بالزهد، وصفه في الجواهر المضية في طبقات الحنفية بأنه الإمام الكبير الشأن.
وليعلم أنه يستحيل على النبي أن يصلي صلاة الجنازة على مشرك منافق في الإيمان وهو يعرف حقيقة أمره ﻷن هذا تلاعب بالدين لا يجوز على رسول الله.
ولزيادة البيان فقد قال الله تعالى في ذلك (وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ) (التوبة 84) فهذه الآية نزلت في شأن عبد الله بن أبي بن سَلُول وصلاةِ النبيّ ﷺ عليه بعد وفاته، وهي دليل على أن الرسول ما كان يعرف حقيقة شأن ذاك المنافق بل كان يحسّن الظن به. فعبد الله بن أُبَي بن سلول رأس المنافقين في المدينة، تظاهر في مرض وفاته بأنه رجع عن النفاق وأظهرَ الندم وطلب قميص النبي ﷺ ليُكَفَّن به، فاعتقد النبي ﷺ إسلامَه، ظنَّه مسلما، لذلك عندما مات صلى عليه صلاة الجنازة. النبي ﷺ لم يعلم تلك الساعة أن هذا الرجل ما زال على الكفر، فنزلت الآية تُبَيِّن أنه ما زال منافقًا، ويستحيل على النبي ﷺ أن يصلي على مشرك ويستغفر له مع عِلمِهِ بكفره، قال الله تعالى (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) (التوبة 113). وقد تقدم كلام ابن حجر في ذلك أنه إجراء له على الظاهر وأن الرسول ظن أنه مات مسلماً، وبيان ذلك فيما قال المفسّر ابن عطية الأندلسي في المحرر الوجيز (ومُحَال أن يصلي النبي على كافر، ولكنه راعى ظواهره من الإقرار ووكل سريرته إلى الله عزّ وجل ….. إلى أن قال وصلى عليه رسول الله ﷺ لموضع إظهاره الإيمان ومُحَال أن يصلي عليه وهو يتحقق كفره).
وفي النهاية أقول: اعلم رحِمكَ الله أنَّ مِمَّا يجبُ التّحذيرُ مِنه ما يُوجَدُ في بَعضِ المؤلفات مِن قَولهِم إنَّ الرسولَ ﷺ صَلّى على عبدِ اللهِ بنِ أُبيِّ بنِ سَلُول وهوَ يَعلَمُ أنّه مُنافِقٌ كَافِرٌ. وقائلُ هذا الكلام كأنّه يقولُ إنّ الرسولَ دعا بالمغفِرةِ لمن أَخبَرَ اللهُ أنّه لا يَغفِرُ لهُ وهذا الكلامُ صَريح في تكذيب الشريعة والعياذُ بالله.
والصّوابُ في هذِه المسألَةِ أنّ الرسولَ ﷺ اعتقد أنّهُ ذَهبَ عنه الكُفْرَ الذي كانَ فيه وصَارَ مُسلمًا حَقيقةً فصَلّى عَليه ثمّ أعلَمَه اللهُ بحَالِه وأنزَل ﴿ولا تُصَلِّ على أحَدٍ مِنهُم مَاتَ أبدًا ولا تَقُم على قَبْرِه﴾ التوبة/84.
ثم يُقال لهم أيضًا إذا كان أبو حنيفةَ قال: مَن صَلّى مُحْدِثًا (أي على غير طهارة) مُتَعمِّدًا كفَر”. اهـ فكيفَ بمن صَلى على الكافِرِ معَ عِلمِه بكُفرِه، فمن باب أولى يكون من صلَّى كافر مع علمه بكفره هو يكفر.
سُبحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلَامٌ عَلَى المُرسَلِينَ، وَالحَمدُ لله رَبِّ العَالَمِينَ.
فائدة
ماذا تفعل إذا وقعت في ورطة؟
روى الطبراني وغيره عَنْ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَةً إِذَا وَقَعْتَ فِي وَرْطَةٍ قُلْتَهَا» قُلْتُ: بَلَى جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ، فَرُبَّ خَيْرٍ قَدْ عَلَّمْتَنِيهِ، قَالَ: ” إِذَا وَقَعْتَ فِي وَرْطَةٍ فَقُلْ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَظِيمِ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَصْرِفُ بِهَا مَا شَاءَ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَلَاءِ”.
من خواص اسم الله الفتاح
تيسيرُ الأمورِ
وتنويرُ القلبِ
والتمكينُ مِنْ أسبابِ الفتحِ
فمنْ قرأَه إثرَ صلاةِ الفجرِ إحدى وسبعينَ مرةً ويدُه على صدرِه طهرَ قلبُه وتنورَ سرُّه وتيسرَ أمرُه، وفيهِ سرُّ تيسيرِ الرزقِ بإذن اللهِ تعالى.
دعاء
اللّـٰهُمَّ افتَح لنَا في هَـٰذَا اليَومِ المُبَارَك أبوابَ فَضلِكَ، وَأنزِل عَلَينَا فيهِ بَرَكاتِكَ، وَوَفّقنَا فيهِ لِمُوجِباتِ مَرضاتِكَ. اللّـٰهُمَّ اجعَل سَعيَنَا في رَمَضَانَ مَشكورًا، وَذَنبَنَا فيهِ مَغفُورًا، وَعَمَلَنَا فيهِ مَقبُولًا، وَعَيبَنَا فيهِ مَستورًا. اللّـٰهُمَّ ارزُقنَا فيهِ فَضلَ لَيلَةِ القَدرِ، وَصَيِّر أُمُورَنَا فيهِ مِنَ العُسرِ إلى اليُسرِ، وَاقبَل مَعاذِيرنَا وَحُطَّ عَنِّا الذَّنب وَالوِزرَ، يا رَؤُوفًا بِعِبادِهِ الصّالحينَ.
اللهم اضرب الكافرين بالكافرين وأخرج المسلمين من بين أيديهم سالمين اللهم يسر لنا فرجا قريبا اللهم أرنا الأقصى محررا اللهم اشف صدور قوم مؤمنين اللهم ارحم أموات المسلمين اللهم ارزقنا الشهادة في سبيلك مقبلين غير مدبرين اللهم اجعلنا لدينك ناصرين واجعلنا لأهل فلسطين معينين اللهم أعنا على نصرتهم يا رؤوف يا رحيم اللهم وحد كلمة المسلمين اللهم اجمعهم على كلمة الحق والدين اللهم ألف بين قلوبهم واجعلهم سندا لأهل فلسطين.
اللهم إِنِّي أَسأَلُكَ مُوجِبَاتِ رَحمَتِكَ وَعَزَائِمَ مَغفِرَتِك، وَالغَنِيمَةَ مِن كُلِّ بِرٍّ، وَالسَّلامَةَ مِن كُلِّ إِثمٍ، لا تَدَع لنا ذَنبًا إِلَّا غَفَرتَهُ، وَلا هَمًّا إِلَّا فَرَّجتَهُ، وَلا حَاجَةً هِيَ لَكَ رِضًا إِلَّا قَضَيتَهَا يَا أَرحَمَ الرَّاحِمِينَ، اللهم صَلِّ وَسَـــلِّم وَبَارِك على عبدِك ورسولِك؛ نبيِّنا محمّدٍ وعَلَى آله وصحبه كلَّما ذكَرَهُ الذّاكِرُونَ وغفَلَ عن ذِكرِهِ الغافِلُونَ.
ربَّنا ءاتِنا في الدّنيَا حسنَة وفي الآخِرة حسنَة وقِنا عذَابَ النار. إِلَـٰهِي أعِنَّا عَلَى مَا تَبَقَّىٰ مِن شَهرِ رَمَضَانَ وَاجعَلهُ شَاهِدًا لَنَا لَا عَلَينَا. اللهم بَلِّغنَا بِفَضلِكَ لَيلَةَ القَدرِ، وَلَا تَحرِمنَا نُورَهَا وَبَرَكَتَهَا وَأجرَهَا وَسِرَّهَا. اللهم مَا تُنزِلُهُ مُن خَيرَاتٍ وَبَرَكَاتٍ وَمِنَحٍ وَهِبَاتٍ فِي هَذِهِ الأيَّامِ واللَّيالِي المُبَارَكَةِ فَاجعَل لَنَا مِن ذَٰلِكَ نَصِيبًا وَحَظًّا وَافِرًا. وَاجعَلنَا مِنَ المَقبُولِينَ ومِنَ المَرحُومِينَ ومِنَ المَغفُورِينَ وَمِن عُتَقَاءِ شَهرِ رَمَضَان يَا حَنَّانُ يَا مَنَّان. جَعَلَ الله لَكُم في هذهِ الساعَاتِ المبارَكَةِ وَمَا بَعدَها رَحمَةً وَهَنَاءً، وَأَبعَدَ عَنكُم ضِيقَ المعِيشَةِ وَالعَنَاءَ، وَجَعَلَ عَيشَكُم في سَعَةٍ وَرَخَاءٍ، وَرَفَعَ عَنكُم كُلَّ بَلاءٍ، وَسَلَّمَكُم مِن كُلِّ دَاءٍ، وَأَبدَلَ لَكُمُ الكَدَرَ بِالصَّفَاءِ، وَاستَجَابَ لَكُم كُلَّ دُعَاءٍ، وَحَقَّقَ لَكُم كُلَّ رَجَاءٍ، وَجَزَاكُمُ الله خَيرَ الجَزَاءِ، ورزقكَم رؤية حبيبِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عَلَيهِ وَسَلَّمَ وزيارَتَهُ ومُجَاوَرَتَهُ وَالمَوتَ فِي بَلَدِهِ وَشَفاعَتَه والحشرَ معَهُ وشَربَةً مِن حَوضِهِ وصُحبَتَهُ فِي الفِردَوسِ الأَعلَى. اللهم اختِم شهرَنَا هذَا بالعفوِ والمغفرةِ والرضوانِ والعتقِ مِنَ النيرانِ وتَقَبَّل صيامَنَا وقيامَنَا وتلاوَتَنَا للقرآنِ وطاعاتِنَا، واجعَلِ القرآنَ العظيمَ ربيعَ قلوبِنا وجلاءَ همومنَا ونورَ صدورِنَا يا ربَّ العالمينَ، اللهم أَعِد علينَا شهرَ رمضانَ أعوامًا عديدةً وقد تحقَّقَ لهذهِ الأمةِ نصرُها وعزُّهَا واجتماعُ كلِمَتِهَا يا أكرمَ الأكرمينَ يا ربَّ العالمينَ يا اللهُ، اللهم اجعَلنَا في هذا الشهرِ الكريمِ مِنَ المقبولينَ ولا تجعلنَا مِنَ المطرودينَ اللهم ارزقنَا الحجَّ وزيارةَ الحبيبِ ﷺ واجعلنا مِن عبادِكَ الطائعينَ الشاكرينَ الصابرينَ الخاشعينَ المجبولينَ على حبِّ طاعتِكَ اللهم آميَن بجاهِ سيدِنَا محمدٍ ﷺ وكلِّ أنبيائكَ والرسلِ منهم وكلِّ أوليائِكَ وتقَبَّل مِن إخوانِنَا المسلمينَ صالحَ أعمالِهِم يا اللهُ.
وَصَلَّى الله وَسَلَّمَ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ سَيِّدِ المُرسَلِينَ، سُبحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلَامٌ عَلَى المُرسَلِينَ، وَالحَمدُ لله رَبِّ العَالَمِينَ.