المقدمة
الْحَمْدُ للهِ الَّذِي مَنَّ عَلَيْنَا بِرَسُولِهِ، وَهَدَانَا لِاتِّبَاعِ سَبِيلِهِ، وَبَيَّنَ لَنَا مَعَالِمَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَوْضَحَ لَنَا طَرِيقًا إلَى الْجَنَّةِ، نَحْمَدُهُ وَهُوَ الْمَحْمُودُ عَلَى مَا حَكَمَ وَقَضَى، وَنَسْأَلُهُ التَّوْفِيقَ لِمَا يُحِبُّ وَيَرْضَى، فَالحَمدُ للهِ الذِي أَظهَرَ الحَقَّ وَأَوْضَحَهُ، وَكَشَفَ عَنْ سَبِيلِهِ وَبَيَّنَهُ، وَهَدَى مَنْ شَاءَ مِنْ خَلقِهِ إِلَى طَرِيقِهِ، وَشَرَحَ بِهِ صَدرَهُ، وَأَقَامَ المُؤمِنَ عَلَى سُنَنِ الهُدَى وَثَبَّتَهُ، وَآتَاهُ اليَقِينَ فِي اتِّبَاعِ رَسُولِهِ وَصَحَابَتِهِ وَوَفَّقَهُ، وَحَفِظَ قَلبَهُ مِنْ وَسَاوِسِ البِدعَةِ وَأَيَّدَهُ، وَأَضَلَّ مَنْ أَرَادَ مِنهُمْ وَبَعَّدَهُ، وَجَعَلَ عَلَى قَلبِهِ غِشَاوَةً، لَا يُسأَلُ عَمَّا يَفعَلُ وَهُمْ يُسأَلُونَ، سُبحَانَهُ مِنْ إلهٍ حَكِيمٍ خَبِيرٍ، جَلَّ عَنِ الشَّبِيهِ وَالمَثِيلِ وَالنَّظِيرِ، لَيسَ جِسمًا وَلَا يُشبِهُ الأَجسَامَ، لَا كَيفِيَّةَ لَهُ وَلَا مِثلَ لَهُ وَلَا مُعِينَ وَلَا مَكَانَ وَلَا زَمَانَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ الهَادِي إلَى سَوَاءِ السَّبِيلِ، ﷺ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وَمَنِ اقْتَفَى أَثَرَهُ إِلَى يَوْمِ الفَصْلِ والدِّينِ، وَبَعْدُ:
فقد وصلنَا في هذا الكتابِ المباركِ كتابِ رياضِ الصالحينَ إلى الحديثِ الثالث من بابِ في الأمر بالمحافظة عَلَى السنة وآدابها، وهو الحديثُ الثامن والخمسونَ بعدَ المائةِ مِنْ كتابِ رياضِ الصالحينَ:
الحديث
قال الحافظ النووي رحمه الله تعالى: الثَّالثُ: عَنْ أَبي هريرةَ رضي الله عنه: أنَّ رَسُول الله ﷺ قَالَ: «كُلُّ أُمَّتِي يَدخُلُونَ الجَنَّةَ إلَّا مَنْ أبَى». قيلَ: وَمَنْ يَأبَى يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أبَى». رواه البخاري.
الشرح والتعليق على هذا الحديث
الثَّالثُ: عَنْ أَبي هريرةَ رضي الله عنه: أنَّ رَسُول الله ﷺ قَالَ: «كُلُّ أُمَّتِي يَدخُلُونَ الجَنَّةَ إلَّا مَنْ أبَى» (قال ملا علي القاري: أَيِ امْتَنَعَ عَنْ قَبُولِ مَا جِئْتُ بِهِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْمُرَادُ إِمَّا أُمَّةُ الدَّعْوَةِ [أي الذين شملتهم دعوة النبي ﷺ] فَالْآبِي هنا هُوَ الْكَافِرُ، أَوْ أُمَّةُ الْإِجَابَةِ [أي الذين أجابوا دعوة النبي ﷺ وآمنوا به] فَالْآبِي هنا هُوَ الْعَاصِي، واسْتَثْنَاهُ زَجْرًا وَتَغْلِيظًا له عن المعاصي)
(قال العيني: فَإِن قلت: العَاصِي يدخلُ الْجنَّة أَيْضا، إِذْ لَا يبْقى مخلدًا فِي النَّار؟ قلت: يَعْنِي لَا يدْخل فِي أول الْحَال)
(فَعَلَى هَذَا التَّفسِيرِ وهو انَّ الآبِي هُنَا هُوَ المُمتَنِعُ عَنِ الإِسلَامِ، أَيِ الكَافِرُ بِاللهِ أَوِ المُرتَدُّ وَالعِيَاذُ بِاللهِ تَعَالَى، وَهَذَا الأَمرُ أي أمرُ الكفر والردةِ لِأَهَمِّيَّةِ معرفتِهِ بَيَّنَهُ عُلَمَاءُ المُسلِمِينَ وَأَلَّفُوا فِيهِ المُؤَلَّفَاتِ الكَثِيرَةَ، حتى لا يختلط على عوامِّ الناسِ فيظُنُّ الكفرَ إيمانًا والإيمانَ كفرًا، وهذا يترتبُ عليه أحكامٌ، حتى لا يأتي شخصٌ فَيُكَفِّرَ غيرَه لكونِهِ يجهلُ الكفرَ من غيرِهِ، ومعَ ذلِكَ أيضًا فَنَحنُ مَأمُورُونَ بِالثَّبَاتِ عَلَى الإِسلَامِ إِلَى آخِرِ العُمُرِ أَي إِلَى المَمَاتِ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الحِجرِ: ﴿وَاعبُد رَبَّكَ حَتَّى يَأتِيَكَ اليَقِينُ﴾،
وَإِنَّ الثَّبَاتَ عَلَى الإِسلَامِ تَوفِيقٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى، فَإِنَّ الهِدَايَةَ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ البَقَرَةِ: ﴿لَيسَ عَلَيكَ هُدَاهُم وَلَكِنَّ اللهَ يَهدِي مَن يَشَاءُ﴾، وَقَد كَانَ النَّبِيُّ صَلَوَاتُ رَبِّي وَسَلَامُهُ عَلَيهِ وَهُوَ المَعصُومُ مِنَ الزَّيغِ فِي المُعتَقَدِ يَدعُو اللهَ عَزَّ وَجَلَّ فَيَقُولُ مُعَلِّمًا لَنَا: «يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّت قَلبِي عَلَى دِينِكَ وَطَاعَتِكَ» فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّكَ تُكثِرُ أَن تَقُولَ: «يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّت قَلبِي عَلَى دِينِكَ وَطَاعَتِكَ» قَالَ: «نَعَم». وَفِي رِوَايَةٍ: يَا نَبِيَّ اللهِ، آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئتَ بِهِ، فَهَل تَخَافُ عَلَينَا؟ قَالَ: «نَعَم».اهـ وَمَعنَى قَولِهِ ﷺ: «ثَبِّت قَلبِي عَلَى دِينِكَ» كَمَا قَالَ مُلَّا عَلِيٌّ القَارِي: أَيِ اجعَلهُ ثَابِتًا عَلَى دِينِكَ غَيرَ مَائِلٍ عَنِ الدِّينِ القَوِيمِ وَالصِّرَاطِ المُستَقِيمِ.اهـ
فَكَم مِن أُنَاسٍ تَنَكَّبَ الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ وَزَاغَ عَنهُ وَفَارَقَ دِينَ الإِسلَامِ بِسَبَبِ جَهلٍ فِي دِينِ اللهِ أَو بِسَبَبِ دُنيَا فَانِيَةٍ أَو بِسَبَبِ نِسَاءٍ أَو بِسَبَبِ أَموَالٍ أَو بِسَبَبِ مَنَاصِبَ دُنيَوِيَّةٍ زَائِلَةٍ، نَسأَلُ اللهَ تَعَالَى أَن لَا يُبعِدَنَا عَنِ الصِّرَاطِ المُستَقِيمِ حَتَّى نَخرُجَ مِن هَذِهِ الدُّنيَا آمِنِينَ وَنُحشَرَ يَومَ القِيَامَةِ فِي زُمرَةِ المُتَّقِينَ تَحتَ لِوَاءِ سَيِّدِ المُرسَلِينَ ﷺ.
وَاعلَم أَنَّ السَّلَامَةَ مِنَ الآفَاتِ تَكُونُ أَوَّلًا بِمَعرِفَتِهَا ثُمَّ بِالِابتِعَادِ عَنهَا فَإِنَّ كَثِيرًا مِمَّن هَلَكَ إِنَّمَا هَلَكَ بِسَبَبِ جَهلِهِ بِأَنَّ هَذَا مُهلِكٌ، وَكَانَ حَالُ الصَّالِحِينَ مِن هَذِهِ الأُمَّةِ أَنَّهُم يَعرِفُونَ الحَسَنَ وَالقَبِيحَ حَتَّى يَتَمَسَّكُوا بِالحَسَنِ وَيُجَانِبُوا القَبِيحَ مَا استَطَاعُوا، فَقَد رَوَى البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ مِن حَدِيثِ حُذَيفَةَ بنِ اليَمَانِ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنهُ أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ النَّاسُ يَسأَلُونَ رَسُولَ اللهِ ﷺ عَنِ الخَيرِ، وَكُنتُ أَسأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَن يُدرِكَنِي»، وَقَد قِيلَ:
عَرَفتُ الشَّرَّ لَا لِلشَّرِّ لَكِن لِتَوَقِّيهِ (م)
وَمَن لَم يَعرِفِ الشَّرَّ *** مِنَ النَّاسِ يَقَعْ فِيهِ
وَليُعلَم أَنَّ أَعظَمَ الشُّرُورِ هُوَ الكُفرُ بِاللهِ وَالعِيَاذُ بِاللهِ تَعَالَى وَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَا رَوَاهُ البُخَارِيُّ عَن عَبدِ اللهِ بنِ مَسعُودٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنهُ أَنَّهُ قَالَ: سَأَلتُ ـ أَو سُئِلَ ـ رَسُولُ اللهِ ﷺ: أَيُّ الذَّنبِ عِندَ اللهِ أَكبَرُ ؟ قَالَ: «أَن تَجعَلَ للهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ»، قُلتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «ثُمَّ أَن تَقتُلَ وَلَدَكَ خَشيَةَ أَن يَطعَمَ مَعَكَ»، قُلتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «أَن تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ»، قَالَ وَنَزَلَت هَذِهِ الآيَةُ تَصدِيقًا لِقَولِ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا ءَاخَرَ وَلَا يَقتُلُونَ النَّفسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالحَقِّ وَلَا يَزنُونَ وَمَن يَفعَل ذَلِكَ يَلقَ أَثَامًا﴾. مِن هُنَا يُعلَمُ أَنَّ الكُفرَ هُوَ أَشَدُّ الذُّنُوبِ، وَهُوَ الذَّنبُ الَّذِي لَا يَغفِرُهُ اللَّهُ لِمَن مَاتَ عَلَيهِ وَيَغفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ، قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغفِرُ أَن يُشرَكَ بِهِ وَيَغفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشرِك بِاللهِ فَقَدِ افتَرَى إِثمًا عَظِيمًا﴾، وَيَنبَغِي عَلَى العَاقِلِ أَن يَبذُلَ جُهدَهُ فِي أَن يَجتَنِبَ الكُفرَ فَيَجِبُ عَلَيهِ أَن يَجتَنِبَ كُلَّ مَا يُفسِدُ إِسلَامَهُ كَالرِّدَّةِ،
وَقِيلَ فِي تَعرِيفِ الرِّدَّةِ شَرعًا: هِيَ قَطعُ الإِسلَامِ بِكُفرٍ قَولِيٍّ أَو فِعلِيٍّ أَوِ اعتِقَادِيٍّ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: وَالرِّدَّةُ شَرعًا: قَطعُ الإِسلَامِ، وَيَحصُلُ ذَلِكَ بِنِيَّةِ كُفرٍ أَو بِالقَولِ أَو بِالفِعلِ. أَمَّا القَولُ فَسَوَاءٌ قَالَهُ استِهزَاءً أَو عِنَادًا أَوِ اعتِقَادًا.اهـ
وَقَالَ الدِّميَاطِيُّ الشَّافِعِيُّ: وَحَاصِلُ الكَلَامِ عَلَى أَنوَاعِ الرِّدَّةِ أَنَّهَا تَنحَصِرُ فِي ثَلَاثَةِ أَقسَامٍ: اعتِقَادَاتٍ وَأَفعَالٍ وَأَقوَالٍ، وَكُلُّ قِسمٍ مِنهَا يَتَشَعَّبُ شُعَبًا كَثِيرَةً.اهـ
وَكَمَا أَنَّ فُقَهَاءَ الأُمَّةِ وَضَعُوا قَوَاعِدَ فِقهِيَّةً وَاستَنبَطُوا أَحكَامًا مِنَ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَم يَترُكُوا الدِّينَ لِأَيِّ حَاقِدٍ ذِي غَرَضٍ فَاسِدٍ، فَإِنَّهُم جَزَاهُمُ اللهُ خَيرًا وَضَعُوا قَوَاعِدَ لِلمُعتَقَدِ وَأَجمَعُوا عَلَى شَيءٍ مِنهَا وَبَيَّنُوا لِلنَّاسِ كَيفَ يَثبُتُ الشَّخصُ عَلَى الإِسلَامِ وَكَيفَ يَخرُجُ مِنَ الإِسلَامِ، وَلَم يُترَكِ الأَمرُ هَكَذَا دُونَ ضَبطٍ، وَمَثَّلُوا لِذَلِكَ أَمثِلَةً عَدِيدَةً وَأَلَّفُوا فِي ذَلِكَ المُؤَلَّفَاتِ الكَثِيرَةَ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِإِنكَارِ المُنكَرِ وَلِتَحذِيرِ النَّاسِ مِن أَعظَمِ الشُّرُورِ وَهُوَ الكُفرُ بِاللهِ وَالعِيَاذُ بِاللهِ، وَرَاعَوا بِنَقلِهِم وَتَحذِيرِهِم لِلنَّاسِ مِن هَذِهِ المَفَاسِدِ أَفهَامَ النَّاسِ وَطَبَقَاتِهِم وَانتِشَارَ الجَهلِ بَينَهُم. وَإِنَّهُم بِفِعلِهِم هَذَا أَي بِضَبطِهِم لِقَوَاعِدِ الرِّدَّةِ أَغلَقُوا عَلَى الجُهَّالِ مِنَ النَّاسِ التَّسَرُّعَ بِالتَّكفِيرِ وَإِلقَاءَ حُكمِ الكُفرِ عَلَى أَيٍّ كَانَ، بَل وَجَّهُوا أَذهَانَ النَّاسِ إِلَى أَنَّ هَذَا أَمرٌ لَا يَكُونُ جُزَافًا تَبَعًا لِهَوَى النَّفسِ، بَل إِنَّهُ مُقَعَّدٌ بِقَوَاعِدَ عَدِيدَةٍ، وَإِنَّ الحُكمَ عَلَى شَخصٍ بِالرِّدَّةِ يَنبَنِي عَلَيهِ أَحكَامٌ كَثِيرَةٌ لَا يُحكَمُ بِهَا عَلَى المُسلِمِ، فَلِذَلِكَ كُلِّهِ وَغَيرِهِ يَنبَغِي عَدَمُ التَّسَرُّعِ فِي التَّكفِيرِ، وَيَنبَغِي فَهمُ قَوَاعِدِ الدِّينِ فِي هَذَا البَابِ.
وَقَد ذَكَرُوهَا وَنَصُّوا عَلَيهَا رَحِمَهُمُ اللهُ وَجَزَاهُم خَيرًا،
يَقُولُ الحَافِظُ الزَّبِيدِيُّ فِي شَرحِ الإِحيَاءِ مَا نَصُّهُ: «وَقَد أَلَّفَ فِيهَا -أَيِ الرِّدَّةِ- غَيرُ وَاحِدٍ مِنَ الأَئِمَّةِ مِنَ المَذَاهِبِ الأَربَعَةِ رَسَائِلَ، وَأَكثَرُوا فِي أَحكَامِهَا»اهـ
فَمِنَ الشَّافِعِيَّةِ: حَذَّرَ مِنهَا الحَافِظُ النَّوَوِيُّ المُتَوَفَّى سَنَةَ 676هـ
وَالإِمَامُ تَقِيُّ الدِّينِ الحِصنِيُّ المُتَوَفَّى سَنَةَ 829هـ وَغَيرُهُمَا.
وَمِنَ المَالِكِيَّةِ: القَاضِي عِيَاضٌ اليَحصُبِيُّ المُتَوَفَّى سَنَةَ 544هـ، وَمُحَمَّدُ بنُ سُحنُونَ المُتَوَفَّى سَنَةَ 256هـ.
وَمِنَ الحَنَفِيَّةِ: الشَّيخُ عَبدُ الغَنِيِّ النَّابُلُسِيُّ المُتَوَفَّى سَنَةَ 1143هـ، وَابنُ عَابِدِينَ الحَنَفِيُّ المُتَوَفَّى سَنَةَ 1252هـ، وَغَيرُهُمَا.
وَمِنَ الحَنَابِلَةِ: ابنُ قُدَامَةَ المَقدِسِيُّ المُتَوَفَّى سَنَةَ 626هـ، وَالبُهُوتِيُّ الحَنبَلِيُّ المُتَوَفَّى سَنَةَ 1051هـ. وَغَيرُهُمُ الكَثِيرُ.
وَقَالَ الإِمَامُ المُجتَهِدُ مُحَمَّدُ بنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ فِي تَفسِيرِهِ جَامِعِ البَيَانِ فِي تَأوِيلِ آيِ القُرآنِ: «إِنَّ مِنَ المُسلِمِينَ مَن يَخرُجُ مِنَ الإِسلَامِ مِن غَيرِ أَن يَقصِدَ الخُرُوجَ مِنهُ».اهـ
وَقَالَ الحَافِظُ الكَبِيرُ أَبُو عَوَانَةَ الَّذِي عَمِلَ مُستَخرَجًا عَلَى مُسلِمٍ: «وَفِيهِ أَنَّ مِنَ المُسلِمِينَ مَن يَخرُجُ مِنَ الدِّينِ مِن غَيرِ أَن يَقصِدَ الخُرُوجَ مِنهُ وَمِن غَيرِ أَن يَختَارَ دِينًا عَلَى دِينِ الإِسلَامِ.اهـ
وَقَد أَلَّفَ أَحَدُ عُلَمَاءِ الحَنَفِيَّةِ مِن عُلَمَاءِ القَرنِ التَّاسِعِ كِتَابًا سَمَّاهُ “مَن يَكفُرُ وَلَا يَشعُرُ”، وَهُوَ مَطبُوعٌ مَوجُودٌ بَينَ المُسلِمِينَ.
وَقَد كَثُرَ فِي هَذَا الزَّمَانِ – أَي زَمَانِنَا – عِندَ الجُهَّالِ مِنَ النَّاسِ التَّسَاهُلُ فِي الكَلَامِ حَتَّى إِنَّهُ يَخرُجُ مِن بَعضِهِم أَلفَاظٌ كُفرِيَّةٌ تُخرِجُهُم عَن دِينِ الإِسلَامِ وَلَا يَرَونَ ذَلِكَ الكَلَامَ الكُفرِيَّ ذَنبًا فَضلًا عَن كَونِهِ كُفرًا، فَيَظُنُّونَ أَنَّهُم مَا زَالُوا مُسلِمِينَ. وَذَلِكَ مَا أَخبَرَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ بِقَولِهِ: «إِنَّ العَبدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ» أَي مِنَ الكُفرِ «لَا يَرَى بِهَا بِأسًا» أَي لَا يَظُنُّهَا ضَارَّةً لَهُ «يَهوِي بِهَا» أَي بِسَبَبِهَا «فِي النَّارِ سَبعِينَ خَرِيفًا» أَي مَسَافَةَ سَبعِينَ عَامًا فِي النُّزُولِ وَذَلِكَ مُنتَهَى قَعرِ جَهَنَّمَ وَهُوَ خَاصٌّ بِالكُفَّارِ كَمَا دَلَّت عَلَى ذَلِكَ النُّصُوصُ الشَّرعِيَّةُ.
وَرَوَى البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ العَبدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا يَزِلُّ بِهَا فِي النَّارِ أَبعَدَ مِمَّا بَينَ المَشرِقِ وَالمَغرِبِ».
وَإِنَّ بَعضَ النَّاسِ يَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ فَاسِدٍ مُخَالِفٍ لِلشَّرعِ فِيهِ خُرُوجٌ مِنَ الدِّينِ وَلَكِنَّهُ لَا يُعذَرُ بِجَهلِهِ، فَالنَّبِيُّ ﷺ صَرَّحَ فِي الحَدِيثَينِ المَاضِيَينِ بِأَنَّ المُتَكَلِّمَ يَتَكَلَّمُ بِكَلِمَةٍ لَا يَرَى بِهَا بَأسًا، أَي لَا يَظُنُّ بِهَا أَقَلَّ ضَرَرٍ، وَمَعَ ذَلِكَ قَالَ ﷺ إِنَّهُ يَهوِي بِهَا أَي بِهَذِهِ الكَلِمَةِ الَّتِي لَا يَرَى بِهَا بَأسًا فِي النَّارِ سَبعِينَ خَرِيفًا أَي مَسَافَةَ سَبعِينَ سَنَةٍ نُزُولًا فِي نَارِ جَهَنَّمَ بِسَبَبِ هَذِهِ الكَلِمَةِ الَّتِي لَا يَرَى بِهَا بَأسًا.
فَهَذِهِ الأَحَادِيثُ وَغَيرُهَا مِنَ النُّصُوصِ الصَّرِيحَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُشتَرَطُ فِي الوُقُوعِ فِي الكُفرِ مَعرِفَةُ الحُكمِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ حَكَمَ عَلَى قَائِلِ الكَلِمَةِ الكُفرِيَّةِ بِالعَذَابِ فِي قَعرِ النَّارِ مَعَ كَونِهِ غَيرَ عَالِمٍ بِالحُكمِ، لِأَنَّهُ لَا يَظُنُّ فِيهَا ضَرَرًا كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيثِ، فَيُعلَمُ مِن هُنَا أَنَّ مَن قَالَ كَلامًا كُفرِيًّا وَهُوَ يَفهَمُ مَعنَى اللَّفظِ كَفَرَ، سَوَاءٌ عَرَفَ أَنَّ كَلَامَهُ كُفرِيٌّ أَم لَم يَعرِف، فَإِذَا كَانَ الجَاهِلُ فِي العِبَادَاتِ إِذَا تَرَكَ رُكنًا مَثَلًا لَيسَ مَعذُورًا بِجَهلِهِ، فَكَيفَ بِمَا يُخرِجُ مِنَ الإِسلَامِ وَيَنقُضُ التَّوحِيدَ.
قَالَ ابنُ حَجَرٍ فِي شَرحِ حَدِيثِ المُسِيءِ صَلَاتَهُ: قَالَ عِيَاضٌ: فِيهِ أَنَّ أَفعَالَ الجَاهِلِ فِي العِبَادَةِ عَلَى غَيرِ عِلمٍ لَا تُجزِئُ.اهـ
وَالعِلَاجُ مِنَ الوُقُوعِ فِي هَذَا الفَسَادِ كُلُّهُ هُوَ العِلمُ بِقَوَاعِدِ العُلَمَاءِ فِي هَذَا البَابِ حَتَّى لَا تَقَعَ فِيهَا.
فَقَد قَالَ الدِّميَاطِيُّ صَاحِبُ كِتَابِ إِعَانَةِ الطَّالِبِينَ، وَهُوَ مِن فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ: «وَاعلَم أَنَّهُ يَجرِي عَلَى أَلسِنَةِ العَامَّةِ جُملَةٌ مِن أَنوَاعِ الكُفرِ مِن غَيرِ أَن يَعلَمُوا أَنَّهَا كَذَلِكَ، فَيَجِبُ عَلَى أَهلِ العِلمِ أَن يُبَيِّنُوا لَهُم ذَلِكَ لَعَلَّهُم يَجتَنِبُونَهُ إِذَا عَلِمُوهُ لِئَلَّا تَحبَطَ أَعمَالُهُم وَيَخلُدُوا فِي أَعظَمِ العَذَابِ وَأَشَدِّ العِقَابِ، وَمَعرِفَةُ ذَلِكَ أَمرٌ مُهِمٌّ جِدًّا، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَن لَم يَعرِفِ الشَّرَّ يَقَعْ فِيهِ وَهُوَ لَا يَدرِي، وَكُلُّ شَرٍّ سَبَبُهُ الجَهلُ، وَكُلُّ خَيرٍ سَبَبُهُ العِلمُ، فَهُوَ النُّورُ المُبِينُ وَالجَهلُ بِئسَ القَرِينُ».اهـ
وَالقَاعِدَةُ الَّتِي بَنَى عَلَيهَا العُلَمَاءُ كَلَامَهُم فِي هَذِهِ المَسَائِلِ: أَنَّ كُلَّ عَقدٍ – أَيِ اعتِقَادٍ – أَو فِعلٍ أَو قَولٍ يَدُلُّ عَلَى استِخفَافٍ بِاللَّهِ أَو كُتُبِهِ أَو رُسُلِهِ أَو مَلَائِكَتِهِ أَو شَعَائِرِهِ أَو مَعَالِمِ دِينِهِ – جَمعِ مَعلَمٍ وَهُوَ بِمَعنَى الشَّعِيرَةِ، أَي مَا كَانَ ظَاهِرًا أَنَّهُ مِن أُمُورِ الدِّينِ كَالصَّلاةِ وَالأَذَانِ وَالمَسجِدِ – أَو أَحكَامِهِ أَو وَعدِهِ بِالجَنَّةِ وَالثَّوَابِ أَو وَعِيدِهِ بِالنَّارِ وَالعَذَابِ فَذَلِكَ رَدٌّ لِلدِّينِ وَتَكذِيبٌ لِلشَّرِيعَةِ، وَمَن فَعَلَ هَذَا لَا يَكُونُ مِنَ المُسلِمِينَ.
وَمِن قَوَاعِدِ الرِّدَّةِ الَّتِي وَضَعَهَا الفُقَهَاءُ بِنَاءً عَلَى النُّصُوصِ الشَّرعِيَّةِ أَنَّهُ لَا يُشتَرَطُ لِلوُقُوعِ فِي الكُفرِ انشِرَاحُ الصَّدرِ، فَمَن قَالَ كَلامًا كُفرِيًّا كَفَرَ وَلَو كَانَ غَيرَ مُنشَرِحِ الصَّدرِ (فَإِنَّ مَنِ انشَرَحَ صَدرُهُ لِلكُفرِ فَهَذَا لَيسَ مُسلِمًا)، لِحَدِيثِ النَّبِيِّ ﷺ حَيثُ قَالَ: «إِنَّ العَبدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا يَزِلُّ بِهَا فِي النَّارِ أَبعَدَ مِمَّا بَينَ المَشرِقِ وَالمَغرِبِ».
أَمَّا مَن أُكرِهَ عَلَى الكُفرِ بِالقَتلِ مَثَلًا وَتَكَلَّمَ بِمَا يُرِيدُونَ لِيُبعِدَ القَتلَ عَن نَفسِهِ فَلَا يَكفُرُ، فَهُوَ مَعذُورٌ، فَهَذَا حَصَلَ مَعَ عَمَّارِ بنِ يَاسِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا، وَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: «كَيفَ تَجِدُ قَلبَكَ»، قَالَ: مُطمَئِنًّا بِالإِيمَانِ، قَالَ: «إِن عَادُوا فَعُد»، رَوَاهُ البَيهَقِيُّ، أَي إِن أَكرَهُوكَ بِالقَتلِ عَلَى قَولِ الكُفرِ فَقُل مَا يُنجِيكَ مِن قَتلِهِم، يَجُوزُ لَكَ ذَلِكَ، وَإِن صَبَرتَ وَمِتَّ كُنتَ شَهِيدًا.
وَمِن قَوَاعِدِ الرِّدَّةِ كَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُشتَرَطُ اعتِقَادُ مَعنَى اللَّفظِ، فَمَن قَالَ الكَلَامَ الكُفرِيَّ بِإِرَادَتِهِ كَفَرَ وَلَو كَانَ لا يَعتَقِدُ مَعنَى الكَلَامِ الَّذِي قَالَهُ، كَمَن نَسَبَ القَبَائِحَ إِلَى اللهِ بِلِسَانِهِ فَهَذَا لَيسَ مُسلِمًا وَلَو قَالَ أَنَا أَعلَمُ أَنَّ اللهَ غَيرُ مَوصُوفٍ بِالقَبَائِحِ، فَلَا عِبرَةَ بِهِ بَعدَ ذَلِكَ لِقَولِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَلَئِن سَأَلتَهُم لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلعَبُ قُل أَبِاللهِ وَءَايَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُم تَستَهزِؤُونَ، لَا تَعتَذِرُوا قَد كَفَرتُم بَعدَ إِيمَانِكُم﴾، قَالَ القُرطُبِيُّ فِي تَفسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ: قَالَ القَاضِي أَبُو بَكرِ بنُ العَرَبِيِّ: لَا يَخلُو أَن يَكُونَ مَا قَالُوهُ مِن ذَلِكَ جِدًّا أَو هَزلًا، وَهُوَ كَيفَمَا كَانَ كُفرٌ؛ فَإِنَّ الهَزلَ بِالكُفرِ كُفرٌ لَا خِلَافَ فِيهِ بَينَ الأُمَّةِ، فَإِنَّ التَّحقِيقَ أَخُو العِلمِ وَالحَقِّ، وَالهَزلَ أَخُو البَاطِلِ وَالجَهلِ، قَالَ عُلَمَاؤُنَا: انظُر إِلَى قَولِهِ: ﴿وَإِذ قَالَ مُوسَى لِقَومِهِ إِنَّ اللهَ يَأمُرُكُم أَن تَذبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَن أَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ﴾.اهـ
وَكَذَلِكَ لَا يُشتَرَطُ فِي الوُقُوعِ فِي الكُفرِ عَدَمُ الغَضَبِ، كَمَا أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الحَافِظُ النَّوَوِيُّ حَيثُ قَالَ فِي رَوضَةِ الطَّالِبِينَ: لَو غَضِبَ رَجُلٌ عَلَى وَلَدِهِ فَضَرَبَهُ ضَربًا شَدِيدًا فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: كَيفَ تَضرِبُ وَلَدَكَ هَذَا الضَّربَ المُبَرِّحَ المُحَرَّمَ؟ أَلَستَ مُسلِمًا؟ فَقَالَ: لَا – أَي لَستُ مُسلِمًا – مُتَعَمِّدًا – أَي لَا عَلَى وَجهِ سَبقِ اللِّسَانِ – كَفَرَ، لأَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ الكَلَامَ الكُفرِيَّ بِإِرَادَتِهِ، وَلَم يَكُن مُكرَهًا عَلَيهِ.اهـ
وَليُعلَم أَنَّ الإِسلَامَ هُوَ مِن مَعنَى التَّسلِيمِ وَالِانقِيَادِ لِأَحكَامِ الشَّرِيعَةِ كَمَا جَاءَت عَن طَرِيقِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَمَن لَم يَكُن مُسَلِّمًا لِأَحكَامِ الشَّرِيعَةِ بَل كَانَ مُكَذِّبًا لَهَا لَا يَكُونُ مِنَ المُسلِمِينَ، وَمِن هَذَا قَسَّمَ العُلَمَاءُ الكُفرَ مِن حَيثُ سَبَبُ التَّكفِيرِ إِلَى: كُفرِ تَكذِيبٍ، وَالمُرَادُ تَكذِيبُ الشَّرِيعَةِ بِكُلِّ مَا ثَبَتَ عِندَهُ كَونُهُ مِنَ الدِّينِ.
وَكُفرِ تَشبِيهٍ، وَالمُرَادُ تَشبِيهُ اللهِ بِخَلقِهِ، فَهَذَا لَا يَكُونُ مِنَ المُسلِمِينَ. وَكُفرِ تَعطِيلٍ، أَي نَفيِ وُجُودِ اللهِ أَو أَيِّ صِفَةٍ مِن صِفَاتِهِ الثَّابِتَةِ لَهُ إِجمَاعًا. وَنَصَّ عَلَى هَذِهِ الأبوابِ وَشَرَحَهَا الشَّيخُ عَبدُ الغَنِيِّ النَّابُلُسِيُّ الحَنَفِيُّ وَالفَقِيهُ المَالِكِيُّ ابنُ جُزَيٍّ فِي كِتَابِهِ القَوَانِينِ الفِقهِيَّةِ وغَيرُهُمَا، وحاصُلُ كلَامِهِم: أَنَّ الْكُفْرَ ثَلاثَةُ أَبْوَابٍ إِمَّا تَشْبِيهٌ لِلَّهِ بِخَلْقِهِ أَوْ تَكْذِيبٌ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِشَرِيعَتِهِ أَوْ تَعْطِيلٌ أَىْ نَفْىٌ لِوُجُودِ الْخَالِقِ عَزَّ وَجَلَّ فَهَذِهِ ثَلاثَةُ أَبْوَابٍ لا تَخْرُجُ الْمُكَفِّرَاتُ عَنْهَا أَحَدُهَا التَّشْبِيهُ أَىْ تَشْبِيهُ اللَّهِ بِخَلْقِهِ كَمَنْ يَصِفُهُ تَعَالَى بِالْحُدُوثِ أَىْ بِحُدُوثِ الذَّاتِ أَوِ الصِّفَاتِ الْقَائِمَةِ بِالذَّاتِ وَكَذَا مَنِ ادَّعَى قِيَامَ الْحَوَادِثِ بِهِ سُبْحَانَهُ أَىِ اتِّصَافَهُ بِصِفَةٍ حَادِثَةٍ أَوْ يَزْعُمُ طُرُوءَ الْفَنَاءِ) عَلَيْهِ أَوْ يَصِفُهُ بِالْجِسْمِيَّةِ أَوْ بِصِفَاتِ الْجِسْمِ كَالصُّورَةِ أَوِ اللَّوْنِ أَوِ الشَّكْلِ أَوِ الْكَمِيَّةِ أَىْ مِقْدَارِ الْحَجْمِ أَوِ الْحَدِّ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ تَشْبِيهٌ لِلْخَالِقِ بِالْمَخْلُوقِ وَتَكْذِيبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾، وثَانِى أَبْوَابِ الْكُفْرِ التَّكْذِيبُ أَىْ تَكْذِيبُ مَا وَرَدَ فِى الْقُرْءَانِ الْكَرِيمِ أَوْ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ عَلَى وَجْهٍ ثَابِتٍ وَكَانَ مِمَّا عُلِمَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ أَىْ بِحَيْثُ يَعْرِفُ الْجَاهِلُ وَالْعَالِمُ أَنَّهُ مِمَّا جَاءَ بِهِ الدِّينُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى تَفَكُّرٍ وَاسْتِدْلالٍ فَمَنْ رَدَّ أَمْرًا مِنْ نَحْوِ هَذِهِ الأُمُورِ بَعْدَ مَا كَانَ بَلَغَهُ قَوْلُ الْمُسْلِمِينَ فِيهِ فَقَدْ كَفَرَ بِخِلافِ مَا لَوْ كَانَ حَدِيثَ عَهْدِ بِإِسْلامٍ أَوْ نَحْوَهُ فَاخْتَلَطَ عَلَيْهِ الأَمْرُ لِذَلِكَ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ مَا يَقُولُهُ مُخَالِفٌ لِلدِّينِ فَلا يَكْفُرُ. وَمِثَالُ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْكُفْرِ نَفْىُ عَذَابِ الْقَبْرِ وَكَاعْتِقَادِ فَنَاءِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَإِنَّهُ تَكْذِيبٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِى سُورَتَىِ النِّسَاءِ وَالتَّوْبَةِ ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ أَوْ إِنْكَارِ وُجُوبِ الصَّلاةِ أَىِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ أَوْ صِيَامِ رَمَضَانَ أَوْ تَحْلِيلِ الْخَمْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُكَذِّبُ مَا ثَبَتَ بِالْقَطْعِ وَظَهَرَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ كَاعْتِقَادِ أَنَّ أَحْكَامَ الشَّرْعِ أَوْ بَعْضَهَا كَانَ صَالِحًا لِلنَّاسِ فِى زَمَنِ النَّبِىِّ ﷺ لَكِنَّهُ لا يَصْلُحُ لِلنَّاسِ فِى أَيَّامِنَا فَإِنَّهُ تَكْذِيبٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ الإِسْرَاءِ ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْءَانَ يَهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ﴾ وَهَذَا بِخِلافِ مَنْ يَعْتَقِدُ بِوُجُوبِ الصَّلاةِ عَلَيْهِ مَثَلًا لَكِنَّهُ لا يُصَلِّى فَإِنَّهُ يَكُونُ عَاصِيًا لا كَافِرًا كَمَنْ يَعْتَقِدُ عَدَمَ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ وَمِثْلُهُ مَنْ يَعْتَقِدُ حُرْمَةَ الْخَمْرِ لَكِنَّهُ يَشْرَبُهَا.
وثَالِثُ الأَبْوَابِ التَّعْطِيلُ أَىْ نَفْىُ وُجُودِ اللَّهِ وَهُوَ أَشَدُّ الْكُفْرِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكُفْرَ مَرَاتِبُ بَعْضُهُ أَشَدُّ مِنْ بَعْضٍ وَأَشَدُّهُ عَلَى الإِطْلاقِ التّعْطِيلُ
وَمِنَ الأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى وُجُودِ اللَّهِ تَعَالَى وَوَحْدَانِيَّتِهِ سُبْحَانَهُ مَا قَالَهُ الإِمَامُ الْمُجْتَهِدُ مُحَمَّدُ بنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِىُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِى تَفْسِيرِهِ: قال: نَزَلَ عَلَى النَّبِىِّ ﷺ بِالْمَدِينَةِ ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمٰنُ الرَّحِيمُ﴾ فَقَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ كَيْفَ يَسَعُ النَّاسَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرَهُ ﴿إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْك الَّتِى تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ فَبِهَذَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَأَنَّهُ إِلَهُ كُلِّ شَىْءٍ وَخَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ.اهـ)
(وَليُعلَم أَنَّ الخَلَاصَ مِنَ الكُفرَ يَكُونَ بِتَركِ مَا صَدَرَ مِنهُ وَالنُّطقِ بِالشَّهَادَتَينِ لِلدُّخُولِ فِي الإِسلَامِ، قَالَ الدِّميَاطِيُّ فِي إِعَانَةِ الطَّالِبِينَ: يَجِبُ عَلَيهِ أَي عَلَى المُرتَدِّ العَودُ فَورًا إِلَى دِينِ الإِسلَامِ، وَلَا يَحصُلُ إِلَّا بِالتَّلَفُّظِ بِالشَّهَادَتَينِ وَالإِقلَاعِ عَمَّا وَقَعَت بِهِ الرِّدَّةُ، وَيَجِبُ عَلَيهِ لِيَسلَمَ مِنَ الإِثمِ النَّدَمُ عَلَى كُلِّ مَا صَدَرَ مِنهُ وَالعَزمُ عَلَى أَن لَا يَعُودَ لِمِثلِهِ.اهـ
وَلَا يَنفَعُهُ قَولُ أَستَغفِرُ اللهَ قَبلَ الشَّهَادَتَينِ، كَمَا نَقَلَ الإِجمَاعَ عَلَى ذَلِكَ الإِمَامُ المُجتَهِدُ أَبُو بَكرِ بنُ المُنذِرِ المُتَوَفَّى سَنَةَ 318هـ.اهـ).
قيلَ: وَمَنْ يَأبَى يَا رَسُول الله؟ (أي عَرَفْنَا الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، وَمَنِ الَّذِي أَبَى؟ أَيِ الَّذِي أَبَى لَا نَعْرِفُهُ) قَالَ: «مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الجَنَّةَ (مَنْ فَكَّرَ فِي هَذَا الحَدِيثِ الشَّرِيفِ فَإِنَّهُ يَكُونُ طَالِبًا لِلجَنَّةِ أَكثَرَ وَأَكْثَرَ فَإِنَّ مَنْ عَرَفَ طَرِيقَ الجَنَّةِ يَبحَثُ عَنهَا وَمَنْ عَرَفَ نَعِيمَ الجَنَّةِ لَا يُقَدِّمُ هَذَا النَّعِيمَ وَالرَّاحَةَ الزَّائِلَةَ فِي هَذِهِ الدُّنيَا عَلَيهِ، بَلْ يَبقَى طَالِبًا لِنَعِيمِ الآخِرَةِ بَاحِثًا عَنهَا مُوَاظِبًا عَلَى طَلَبِهَا فِي لَيلٍ وَنَهَارٍ فِي حَرٍّ وَبَردٍ، يَلزَمُ دَائِمًا البَحثَ عَنْ طَرِيقِ الجَنَّةِ وَنَعِيمِهَا، فَفِيهَا مِنَ النَّعِيمِ مَا رَوَى وَصْفَهُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: «أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ: مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، ثُمَّ قَرَأَ: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}». فَهَذِهِ دَعْوَةٌ إِلَى التَّشْمِيرِ وَالِاسْتِعْدَادِ لِلْجَنَّةِ، وَفِي سُنَنِ ابنِ مَاجَهْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ذَاتَ يَوْمٍ لِأَصْحَابِهِ: «أَلَا مُشَمِّرٌ لِلْجَنَّةِ؟ فَإِنَّ الْجَنَّةَ لَا خَطَرَ لَهَا، هِيَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ نُورٌ يَتَلَأْلَأُ، وَرَيْحَانَةٌ تَهْتَزُّ، وَقَصْرٌ مَشِيدٌ، وَنَهَرٌ مُطَّرِدٌ، وَفَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ نَضِيجَةٌ، وَزَوْجَةٌ حَسْنَاءُ جَمِيلَةٌ، وَحُلَلٌ كَثِيرَةٌ فِي مَقَامٍ أَبَدًا، فِي حَبْرَةٍ وَنَضْرَةٍ، فِي دَارٍ عَالِيَةٍ سَلِيمَةٍ بَهِيَّةٍ» قَالُوا: نَحْنُ الْمُشَمِّرُونَ لَهَا، يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: «قُولُوا إِنْ شَاءَ اللَّهُ»، ثُمَّ ذَكَرَ الْجِهَادَ وَحَضَّ عَلَيْهِ.اهـ
وَرَوَى ابنُ أَبِي الدُّنيَا عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيِّ ﷺ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ {يَوْمَ نَحْشُرُ المُتَّقِينَ إِلَى الرَّحمَنِ وَفدًا} قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الوَفدُ إِلَّا الرَّكبُ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُمْ إِذَا خَرَجُوا مِنْ قُبُورِهِمِ اسْتُقْبِلُوا بِنُوقٍ بِيضٍ لَهَا أَجْنِحَةٌ عَلَيْهَا رِحَالُ الذَّهَبِ شُرُكُ نِعَالِهِمْ نُورٌ يَتَلَأْلَأُ كُلُّ خُطْوَةٍ مِنْهَا مَدُّ الْبَصَرِ فَيَنْتَهُونَ إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ يَنْبُعُ مِنْ أَصْلِهَا عَيْنَانِ فَإِذَا شَرِبُوا مِنْ إِحْدَاهُمَا جَرَتْ فِي وُجُوهِهِم نَضرَةُ النَّعِيمِ وَإِذَا تَوَضَّؤُوا مِنَ الْأُخْرَى لَمْ تَشْعَثْ شُعُورُهُمْ أَبَدًا فَيَضْرِبُونَ الْحَلْقَةَ لِيَفْتَحَهُ فَلَوْ سَمِعْتَ طَنِينَ الْحَلْقَةِ يَا عَلِيُّ فَيَبْلُغُ كُلَّ حَوْرَاءَ أَنَّ زَوْجَهَا قَدْ أَقْبَلَ فَتَسْتَخِفُّهَا الْعَجَلَةُ فَتَبْعَثُ قَيِّمَهَا لِيَفْتَحَ لَهُ الْبَابَ فَيَقُولُ أَنَا قَيِّمُكَ الَّذِي وُكِّلْتُ بِأَمْرِكَ فَيَتْبَعُهُ فَيَقْفُو أَثَرَهُ فَيَأْتِي زَوْجتَهُ فَتَسْتَخِفُّهَا الْعَجَلَةُ فَتَخْرُجُ مِنَ الْخَيْمَةِ فَتُعَانِقُهُ وَتَقُولُ أَنْتَ حِبِّي وَأَنَا حِبُّكَ وَأَنَا الرَّاضِيَةُ فَلَا أَسْخَطُ أَبَدًا وَأَنَا النَّاعِمَةُ فَلَا أَبْؤُسُ أَبَدًا وَأَنَا الْخَالِدَةُ فَلَا أَظْعَنُ أَبَدًا فَيَدْخُلُ بَيْتًا مِنْ أَسَاسِهِ إِلَى سَقْفِهِ مِائَةُ أَلفِ ذِرَاعٍ مَبنِيٌّ عَلَى جَنْدَلِ اللُّؤْلُؤِ وَالْيَاقُوتِ طَرَائِقُ حُمْرٌ وَطَرَائِقُ خُضْرٌ وَطَرَائِقُ صُفْرٌ لَيْسَ مِنْهَا طَرِيقَةٌ تُشَاكِلُ صَاحِبَتَهَا فَيَأْتِي الْأَرِيكَةَ فَإِذَا عَلَيْهَا سَرِيرٌ عَلَى السَّرِيرِ سَبْعُونَ فِرَاشًا عَلَيْهَا سَبْعُونَ زَوْجَةً عَلَى كُلِّ زَوْجَةٍ سَبْعُونَ حُلَّةً يُرَى مُخُّ سَاقِهَا مِنْ بَاطِنِ الحُلِيِّ يَقْضِي جِمَاعَهُنَّ فِي مِقْدَارِ لَيْلَةٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ مُطَّرِدَةً أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ صَافٍ لَيْسَ فِيهِ كَدَرٌ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى لَمْ يَخْرُجْ مِنْ بُطُونِ النَّحْلِ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ للشَّارِبِينَ لَمْ تَعْصِرْهَا الرجال بأقدامها وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ بُطُونِ الْمَاشِيَةِ فَإِذَا اشْتَهَوُا الطَّعَامَ جَاءَتْهُمْ طَيْرٌ بِيضٌ تَرْفَعُ أَجْنِحَتَهَا فَيَأْكُلُونَ مِنْ جُنُوبِهَا مِنْ أَيِّ الأَلوَانِ شَاؤُوا ثُمَّ تَطِيرُ فَتَذْهَبُ وَفِيهَا ثِمَارٌ مُتَدَلِّيَةٌ إِذَا اشتَهَوا انْشَعَبَ الْغُصْنُ إِلَيْهِمْ فَيَأْكُلُونَ مِنْ أَيِّ الثِّمَارِ اشْتَهَوْا إِنْ شَاءَ قَائِمًا وَإِنْ شَاءَ مُتَّكِئًا وَذَلِكَ قَولُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَجَنَا الجَنَّتَينِ دَانٍ} وَبَينَ أَيدِيهِمْ خَدَمٌ كَأَنَّهُمْ لُؤلُؤٌ.اهـ
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: يُسَاقُ الَّذِينَ اتَّقُوا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا انْتَهَوْا إِلَى أَوَّلِ بَابٍ مِنْ أبوابها وجد عِنْدَهُ شَجَرَةً يَخْرُجُ مِنْ تَحْتِ سَاقِهَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ فَعَمَدُوا إِلَى إِحْدَاهُمَا كَأَنَّمَا أُمِرُوا بِهَا فَشَرِبُوا مِنْهَا فَأَذْهَبَتْ مَا فِي بُطُونِهِمْ مِنْ قَذًى وَأَذًى أَوْ بَأْسٍ ثُمَّ عَمَدُوا إِلَى الْأُخْرَى فَتَطَهَّرُوا فَجَرَتْ عَلَيْهِمْ نَضْرَةُ النَّعِيمِ فَلَمْ تُغَيَّرْ أَبْشَارُهُمْ وَلَا تَغَيَّرُ بَعْدَهَا أَبَدًا وَلَمْ تَشْعَثْ أَشْعَارُهُمْ كَأَنَّمَا دُهِنُوا بِالدِّهَانِ ثُمَّ انْتَهَوْا إِلَى خَزَنَةِ الْجَنَّةِ فَقَالُوا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خالدين ثم تلقاهم الولدان يطوفون بهم كما يطوف ولدان أهل الدنيا بالحميم يقدم من غيبة يَقُولُونَ لَهُ أَبْشِرْ بِمَا أَعَدَّ اللهُ لَكَ مِنَ الكَرَامَةِ كَذَا ثُمَّ يَنطَلِقُ غُلَامٌ مِنْ أُولَئِكَ الْوِلْدَانِ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ فَيَقُولُونَ قَدْ جَاءَ فُلَانٌ بِاسْمِهِ الَّذِي كَانَ يدعى به في الدنيا فتقول أَنْتَ رَأَيْتَهُ فَيَقُولُ أَنَا رَأَيْتُهُ وَهُوَ ذَا بِأَثَرِي فَيَسْتَخِفُّ إِحْدَاهُنَّ الفَرَحُ حَتَّى تَقُومَ عَلَى أُسْكُفَّةِ بَابِهَا فَإِذَا انْتَهَى إِلَى مَنْزِلِهِ نَظَرَ أَيَّ شَيْءٍ أَسَاسُ بُنْيَانِهِ فَإِذَا جَنْدَلُ اللُّؤْلُؤِ وَفَوْقَهُ صَرْحٌ أَخْضَرُ وَأَصْفَرُ وَأَحْمَرُ وَمِنْ كُلِّ لَوْنٍ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَنَظَرَ إِلَى سَقْفِهِ فَإِذَا هُوَ مِثْلُ الْبَرْقِ فَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ عز وجل قَدْ قَدَّرَ لَهُ أنْ لَا يَذْهَبَ بَصَرُهُ لَذَهَبَ ثُمَّ طَأْطَأَ رَأْسَهُ فَنَظَرَ إِلَى أَزْوَاجِهِ وَأَكْوَابٍ مَوْضُوعَةٍ وَنَمَارِقَ مَصْفُوفَةٍ وَزَرَابِيَّ مَبْثُوثَةٍ فَنَظَرَ إِلَى تِلْكَ النِّعْمَةِ ثُمَّ اتَّكَأَ وَقَالَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللهُ} الآيةَ. ثُمَّ يُنَادَى: تَحْيَوْنَ فَلَا تَمُوتُونَ أَبَدًا وَتُقِيمُونَ فَلَا تَظْعَنُونَ أَبَدًا وَتَصِحُّونَ أُرَاهُ قَالَ فَلَا تَمْرَضُونَ أَبَدًا)
(وَالأَمرُ كَمَا قَالَ ﷺ فِيمَا رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ: «مَا رَأَيْتُ مِثْلَ النَّارِ نَامَ هَارِبُهَا، وَلَا مِثْلَ الْجَنَّةِ نَامَ طَالِبُهَا».اهـ وَفِي رِوَايَةٍ: اطْلُبُوا الْجَنَّةَ جَهْدَكُمْ، وَاهْرُبُوا مِنَ النَّارِ جَهْدَكُمْ)،
وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أبَى» (التَّقْدِيرُ: مَنْ أَطَاعَنِي وَتَمَسَّكَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ وَزَالَ عَنِ الصَّوَابِ وَضَلَّ عَنِ الطَّرِيقِ فَقَدْ دَخَلَ النَّارَ)
(وَمَعنَاهُ عَلَى أَحَدِ التَّفَاسِيرِ كَمَا قُلتُ إِنَّهُ العَاصِي مَعصِيَةً دُونَ الكُفرِ، وَلَيسَ مُرتَكِبُ المَعَاصِي دُونَ الكُفرِ كَافِرًا بِاللهِ وَلَا مُخَلَّدًا فِي نَارِ جَهَنَّمَ كَمَا يَعتَقِدُ الخَوَارِجُ، وَالْخَوَارِجُ هُمْ أَوَّلُ فِرْقَةٍ شَذَّتْ فِي الِاعْتِقَادِ عَنْ مُعْتَقَدِ الصَّحَابَةِ فَقَاتَلَهُمْ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ فَأَبَادَهُمْ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ، وَمِنْ ضَلالاتِهِمْ تَكْفِيرُ مُرْتَكِبِ الْكَبِيرَةِ،
وَبَعضُ المُعتَزِلَةِ خَالَفُوا فِي هَذِهِ المَسأَلَةِ فَقَالُوا: إِنَّ مُرْتَكِبَ الْكَبِيرَةِ إِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَتُوبَ لا هُوَ مُؤْمِنٌ وَلا هُوَ كَافِرٌ لَكِنْ يُخَلَّدُ فِي النَّارِ بِلا خُرُوجٍ.
وَأَمَّا أَهلُ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ الأَشَاعِرَةِ وَالمَاتُرِيدِيَّةِ فَقَالُوا: إِنَّ مُرْتَكِبَ الْكَبِيرَةِ لا يَكْفُرُ إِذَا لَمْ يَسْتَحِلَّهَا.اهـ
فَفِي الطَّحَاوِيَّةِ يَقُولُ الإِمَامُ الطَّحَاوِيُّ: وَلَا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ القِبْلَةِ بِذَنْبٍ مَا لَمْ يَسْتَحِلَّهُ.اهـ الْمُرَادُ بِأَهْلِ الْقِبْلَةِ الْمُؤْمِنُونَ فَمَنْ كَانَ عَلَى الإِيـمَانِ لا يَجُوزُ تَكْفِيرُهُ مِنْ أَجْلِ الذَّنْبِ إِلَّا إِذَا اسْتَحَلَّ الذَّنْبَ وَكَانَ ذَلِكَ الذَّنْبُ مَعْلُومًا مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ ذَنْبٌ فَهَذَا الَّذِى يُكَفَّرُ.اهـ وَهَذِهِ كَلِمَةُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالإِمَامِ الأَشعَرِيِّ كَذَلِكَ، وَلَيسَ مَعنَاهُ أَنَّهُم لَا يُكَفِّرُونَ أَحَدًا بِالمَرَّةِ حَتَّى الذِي وَقَعَ فِيمَا يُوجِبُ التَّكفِيرَ كَالمُجَسِّمَةِ وَكَالقَائِلِينَ بِأَنَّ اللهَ مَا خَلَقَ الشَّرَّ أَوْ كَالقَائِلِينَ بِأَنَّ العَبدَ يَخْلُقُ فِعلَهُ، لَا، فَبَعضُ مَنْ يُطَالِعُ الكُتُبَ دُونَ تَلَقٍّ وَتَحقِيقٍ فِي هَذِهِ الأَيَّامِ جَاءَ إِلَى هَذِهِ العِبَارَةِ: وَلَا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَنْبٍ مَا لَمْ يَسْتَحِلَّهُ.اهـ
فَقَالَ وَالعِيَاذُ بِاللهِ: أَبُو حَنِيفَةَ أَوِ الأَشعَرِيُّ وَغَيرُهُمَا مِنْ أَهلِ العِلمِ لَا يُكَفِّرُونَ القَدَرِيَّ وَالمُجَسِّمَ وَالعِيَاذُ بِاللهِ، فَهَؤُلَاءِ زَعَمُوا أَنَّ الأشعريَّ قَدِ اختَلَفَ رَأْيُهُ في المجسمِ فَلَم يَركَنُوا فِي دَعوَاهُم إِلَى نَصٍّ صَرِيحٍ لِلأَشعَرِيِّ فِي ذَلِكَ، بَل غَايَةُ مَا عِندَهُم أَنَّ الأَشعَرِيَّ حَكَمَ بِكُفرِ المُجَسِّمِ مَرَّةً فِيمَا نَقَلَهُ القَاضِي أَبُو بَكرٍ البَاقِلَّانِيُّ عَنهُ أَنَّهُ يُكَفِّرُ المُجَسِّمَ فَقَالَ: مَنِ اعتَقَدَ أَنَّ اللهَ جِسمٌ فَهُوَ غَيرُ عَارِفٍ بِرَبِّهِ وَإِنَّهُ كَافِرٌ بِهِ.اهـ ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِ عُمُرِهِ: «ولا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهلِ القِبْلَةِ بِذَنبٍ»، فَمِنَ العَجَبِ أَنْ لم يَفْطنُوا إلى أَنَّ هذين النَّصَّيْنِ الـمَحْكِيَّيْنِ أحدُهما نَصٌّ عَامٌّ والآخَرُ نَصٌّ خَاصٌّ، فَيُقْضَى بالنَّصِّ الخَاصِّ الصريحِ بتكفيرِ المجسمِ على نَصِّهِ العَامِّ كما هو مُقَرَّرٌ في قواعدِ أصولِ الفِقْهِ، ثم إِنَّ القرائنَ قد قامت على أَنَّ الأشعريَّ لم يَقْصِدْ بالنَّصِّ العَامِّ المتقدمِ عَدَمَ كُفْرِ المجسمِ ونحوه، فَإِنَّ ابنَ عَسَاكِرَ في تَبْيِينِ كَذِبِ المفْتَرِي قد حكى هذا النَّصَّ عنه بلفظِ: «ونَرَى أَنْ لا نُكَفِّرَ أحدًا مِنْ أهلِ القبلةِ بذنبٍ يَرْتَكِبُهُ كالزِّنَى والسَّرِقَةِ وشُرْبِ الخمرِ كما دَانَتْ بذلكَ الخوارجُ وزعموا أَنَّهُم بذلكَ كافرونَ .. الخ»، وهذا صريحٌ بِأَنَّهُ رحمه اللهُ إِنَّمَا أرادَ بيانَ مخالفتِهِ للخوارجِ في التكفيرِ بالذنبِ، ولم يُرِدْ نَفْيَ الكفرِ عَنْ كُلِّ أحدٍ يَدَّعِي الإسلامَ مهما قَالَ أو فَعَلَ، فلا تَغْتَرَّ بِكُلِّ زَعْمٍ تَجِدُهُ في الكتبِ كائنًا مَنْ كَانَ قائلُهُ، وَطَالِبْ كُلَّ مخالفٍ يَدَّعِي اختلافَ رَأْيِ الأشعريِّ في هذه المسألةِ بِنَصٍّ صريحٍ له في ذلكَ، فَإِنَّهُ لن يجدَ نصًّا تقرُّ له به عينه أو يفرحُ به فؤادُهُ، بل غايةُ أمرِهِ أَنْ يَخْلُصَ إلى استنباطاتٍ واستخلاصاتٍ هي إلى الفَلْسَفَةِ أقربُ مِنَ التحقيقِ، أَمَّا مَقَامُ الأشعريِّ فَإِنَّهُ أَجَلُّ وَأَرْفَعُ مِنْ هذه الطَّامَّةِ التي زَلُّوا هم فيها. بَلِ النصُّ الثابتُ عنِ الأشعريِّ رضي الله عنه ما قد نقلَه الباقلانيُّ عَنِ الشيخِ أبي الحسنِ أَنَّهُ قَالَ في النَّوَادِرِ عند سؤاله: هل يَعْرِفُ اللهَ تَعَالَى عَبْدٌ اعْتَقَدَ أَنَّهُ جِسْمٌ؟ فقالَ: «إِنَّ هذا القائلَ غيرُ عارفٍ بِرَبِّهِ وإِنَّهُ كافرٌ به»، قَالَ القاضي أبو بكر: كذلكَ القولُ عنده على مَنْ زَعَمَ أَنَّ كلامَ اللهِ مخلوقٌ اهـ
(وفِي هَذَا الحَدِيثِ دِلَالَةٌ عَلَى وُجُوبِ الامتِثَالِ لِأَوَامِرِهِ وَالاعتِصَامِ بِهَا، وهَذَا الحَدِيثُ فِيهِ أهميَّةُ اتِّبَاعِ سُنَّةِ النبيِّ ﷺ سَوَاءٌ بِالأوَامِرِ والنواهِي، وَحَتَّى فِي غَيرِ ذَلِكَ مِنَ النَّوَافِلِ فَإِنَّهَا بَابٌ يُوصِلُ إِلَى خَيرَاتٍ عَظِيمَةٍ، وَلِذَلِكَ نَجِدُ أَنَّ الصَّحَابَةَ وَالسَّلَفَ الصَّالِحَ شَدِيدِي الاتِّبَاعِ للنَبِيِّ ﷺ فِي كُلِّ أَمرٍ وَفِي كُلِّ حَالٍ وَقُلُوبُهُم تَشتَاقُ لِهَذَا فَهُم يَتَّبِعُونَهُ ﷺ فِي كُلِّ شَيءٍ حَتَّى صَارَ هَذَا طَبعًا لِكَثِيرٍ مِنهُم رَضِيَ اللهُ عَنهُم، وَمِمَّنْ يُذكَر فِي هَذَا البَابِ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ فَقَدْ كَانَ كَثِيرَ الاتِّبَاعِ لِلسُّنَّةِ وَلِلنَّبِيِّ ﷺ فمِنْ كَثْرَةِ اتِّبَاعِهِ لِلسُّنَّةِ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ لِلْعَبَّاسِ مِيزَابٌ عَلَى طَرِيقِ عُمَرَ، فَلَبِسَ عُمَرُ ثِيَابَهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَقَدْ كَانَ ذُبِحَ لِلْعَبَّاسِ فَرْخَانِ، فَلَمَّا وَافَى الْمِيزَابَ صُبَّ مَاءٌ بِدَمِ الْفَرْخَيْنِ، فَأَصَابَ عُمَرَ فَأَمَرَ عُمَرُ بِقَلْعِهِ، ثُمَّ رَجَعَ فَطَرَحَ ثِيَابَهُ وَلَبِسَ ثِيَابًا غَيْرَ ثِيَابِهِ، ثُمَّ جَاءَ فَصَلَّى بِالنَّاسِ، فَأَتَاهُ الْعَبَّاسُ وَقَالَ: وَاللهِ إِنَّهُ لَلْمَوْضِعُ الَّذِي وَضَعَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ فَقَالَ عُمَرُ لِلْعَبَّاسِ: وَأَنَا أَعْزِمُ عَلَيْكَ لَمَّا صَعِدْتَ عَلَى ظَهْرِي حَتَّى تَضَعَهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي وَضَعَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ فَفَعَلَ ذَلِكَ الْعَبَّاسُ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ اتِّبَاعِهِ لِلنَّبِيِّ ﷺ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُرِيدُ مُخَالَفَةَ النَّبِيِّ حَتَّى فِيمَا وَضَعَ ﷺ، وَلَيسَ هَذَا المَذكُورُ هُنَا وَاجِبًا عَلَى عُمَرَ لَكِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ تَعَلُّقِهِ بِرَسُولِ اللهِ ﷺ) رَوَاهُ البُخَارِيُّ.