الحمد لله الذي تدكدكت لعظمته الجبال الراسية، العليم فلا تخفى عليه خافية، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيدنا محمد سيد ولد عدنان وعلى جميع إخوانه الأنبياء، وصحبه وءال بيته الأتقياء.
قال الله تعالى: ﴿يآ أيها الذين ءامنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما﴾.
لقد أمر الله سبحانه وتعالى عباده بالقول السديد وهو عبارة عن القول الذي حسّنه الشرع، وليس الحسن ما يعتبره الناس الذين ليس لهم فهم في الدين قولا حسنا لأن هؤلاء الذين لا عبرة بهم لجهلهم بالدين قد يرون القول الذي عند الله محرم حسنا وقد يرون القول الحسن قولا فاسدا.
إنّما العبرة بالناس الذين لهم فهم في الدين أي يعرفون ما يوافق ما في القرءان الكريم ويعرفون ما يخالف ما في القرءان الكريم ويعملون بذلك فهؤلاء هم الذين يعتبر فهمهم صحيحا ويقتدى بهم. والقاعدة الدينية التي لا يختلف فيها اثنان من المؤمنين أن ما حسّنه الشرع فهو حسن وما قبّحه الشرع فهو قبيح. وليست العبرة بمجرد كثرة الناس إنما العبرة بخيار المؤمنين وهم الذين يفهمون شريعة الله يفهمون ما جاء في القرءان وحديث رسول الله ثم يطبقون ذلك على أنفسهم اعتقادا وعملا، وهذا هو المعنى المراد بالحديث الذي أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة أنّ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال: “إنّ الله تبارك وتعالى إذا أحب عبداً نادى جبريل إنّ الله قد أحب فلاناً فأحبه فيحبه جبريل ثم ينادي جبريل في السماء إنّ الله قد أحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء ويوضع له القبول في أهل الأرض” والمعنى أن خيار المؤمنين يصير له عندهم قبول أي كل عبد صالح ووليّ من أولياء الله يلقى محبة هذا الإنسان في قلبه. وأمّا الغوغاء الذين لا يعرفون أصول الاعتقاد والأحكام الشرعية على ما هي عليه فإن حبهم وبغضهم لا عبرة به. هؤلاء الغوغاء الذين لا يعرفون إلا أن يتبعوا النّاس بدون دليل وبدون معرفة أحكام شريعة الله إنما ينظرون إلى الظاهر فيتبعون كلّ ناعق ويلبون صيحة كل رعاء فإن هؤلاء حبهم وبغضهم كلا شىء فقد جرّب كثيرا أن الرعاء قد يحبون الشخص الذي ليس له من دين الله نصيب ويتعلقون به لأنهم رأوا منه مظهرا يظنونه مظهر أهل الله وهو في الحقيقة مظهر المخادعين الذين يحسنون للناس ما قبحّه الشرع ويقبّحون ما حسّنه الشرع فهم مخادعون للنّاس في ذلك فهؤلاء لا عبرة بهم. والصوفية الذين لهم عند الله فضل هم الصوفية الذين يكونون على قدم الصوفية السالفين من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين وهلمّ جرّ فهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه ثم أشباهه في سيرته التي هي صفاء المعاملة. فمن عامل ربّه معاملة صافية وعامل خلقَ الله معاملة صافية وأخلص لربه في سرّه وأحسن علانيته فذلك هو الصوفي الذي تستنزل الرحمات بذكره. كان أكبر الصوفية بعد الصحابة من التابعين أويس القرني رضي الله عنه كان معروفا برثاثة اللباس وكان من الفقر ورثاثة الهيئة بحيث يظنه الصبيان مجنونا إنما يعرفه من يعرف دين الله على الحقيقة وقد جاء عن رسول الله أنه قال في حقه: “إنّ خير التابعين رجل يقال له أويس بن عامر من قرن ثم من مراد له والدة هو بها برّ كان به برص فأذهبه الله عنه إلا قدر درهم فإذا لقيتموه فأمروه فليستغفر لكم” وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه من جملة السامعين لهذا الحديث من رسول الله، ثم بعد أن توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أبو بكر تولى الخلافة الفاروق وكانت أمداد اليمن تأتي إليه فيسألهم هل فيكم أويس بن عامر من قرن ثم من مراد حتى اجتمع بمن يعرفه فقالوا له إنه معنا فاجتمع به عمر رضي الله عنه فسأله: أنت أويس بن عامر من قرن ثم من مراد، قال: نعم، قال كان بك برص فأذهبه الله عنك إلا قدر درهم، قال: نعم، قال: لك والدة أنت بها بر، قال: نعم، قال: فاستغفر لنا، فقال أويس من تواضعه: أنتم أحدث عهدا بسفر صالح، يعني أنك يا أمير المؤمنين قريب عهد بالقدوم من مكة. فألح عليه سيدنا عمر فاستغفر لهم. ثم قال له عمر: أكتب لك إلى عاملي يجري لك عطاء، فقال أويس: أكون في غبراء الناس أحب إليَّ. أي أن أعيش فقيراً أحب إليّ، فلم يقبل أن يجري له راتب من بيت المال، ءاثر فقره على الغنى والرفاهية. فانظروا هذا الذي جاء به الأئمة المعتمدون من أهل الحديث والصوفية المتقدمين وانظروا إلى بعض افتراءات أهل هذا العصر الذين يحتقرون الفقر ويجعلونه علامة الهوان ولا يدرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “يدخل فقراء المهاجرين الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام” ما أكذب هؤلاء المفترين على الله ورسوله يجعلون الفقر أي قلةَ المال نقصاناً ويجعلونه ميزانا بين الإنسان الكريم وبين الإنسان الهيّن، لم يدروا أن الكريم عند الله هو العبد التقي فقيرا كان أم غنيا. ثمّ إنّ أكثر الأتقياء فقراء، والأغنياء حظهم من التقوى قليل. وأصحاب رسول الله من عرف أحوالهم وخبر سيرتهم علم علما يقينا بأن أغلبهم كانوا فقراء والغني فيهم كان نادراً. نعوذ بالله تعالى من مسخ القلوب الذي يزيّن لصاحبه القبيح عند الله ويقبح الحسن عند الله. وينبغي أن نذكر هنا في هذا السياق حديثا نبويا متفقا على صحته وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: “دخلت الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء” أخرجه مسلم وغيره. فبعد هذا الحديث الصحيح كيف يدّعي إنسان أنه مسلم ثم يذم الفقر على الإطلاق من غير تفصيل. وبعد هذا الحديث ألا يجدر بالمسلم أن يحمد الله على نعمه وفضله ولو كان فقيرا فإن مجرد الفقر ليس عيبا ولا عارا وإنما العار في أن يغفل المسلم عن الاستعداد للآخرة ويركض وراء شهوات الدنيا الزائلة وفي أن يبحث عن الغنى في مستنقع المعاصي. والحري بالمسلم أن يقنع بالقليل مع الالتزام بتقوى الله وطاعته والمحافظة على عقيدته من الانحراف والضياع.
