معنى قول الله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} ليس معنى كلمة {ثم} أنّ الله بعد خلق السموات ارتقى العرش فجلس عليه.
إنما المعنى: أنّ الله خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وقد استوى على العرش أي وهو مستوٍ على عرشه، أي وهو قاهر العرش.
فإن كلمة {ثم} في لغة العرب تأتي أحيانًا بمعنى [الواو]، ولا تفيد دائمًا أنّ ما بعدها حصل متأخرًا عن ما قبلها، ويدل على ذلك قول الشاعر:
إن من سادَ ثمّ سادَ أبوهُ … ثم قد ساد قبل ذلك جدُّهْ
ثم من المعلوم عند ذوي العقول السليمة أن الخالق لا يجوز أن تحدث له صفة، فإنّ خلْقَ الله للعرش لم يُغيّر في صفة الله شيئًا، أمّا على قول المشبّهة فإنّ خلْقَ اللهِ للعرشِ أكسبه وصفًا جديدًا على زعمهم.
ثم إن كلمة استوى في لغة العرب لها خمسة عشر معنى، منها الجلوس، والاستقرار، والنضج، ومنها القصد، ومنها القهر، والحِفظ، فهذه المعاني بعضها لا يليق بالله كالجلوس والاستقرار والنضج، وبعضها يليق به كالقهر والحفظ.
قال الله تعالى: {الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}.
وفي صحيح البخاري أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم كان حين يستيقظ بالليل من نومه لما يتقلّب في فراشه يقول: “لا إله إلا الله الواحد القهّار ربّ السماوات والأرض وما بينهما العزيز الغفار“.
فالوصف بالقهار لائق بالله وأما الوصف بالجلوس فهو وصف يشترك فيه الإنس والجن والقرود والخنازير فلا يليق وصف الله به، ثم يوجد في المسلمين من اسمه عبد القهار وعبد الغفار وعبد الحفيظ ولا يوجد فيهم من اسمه عبد الجالس وعبد القاعد، ثم الجهات الستّ بالنسبة إلى ذات الله على حد سواء، فليس العرش قريبًا إلى ذات الله قُربًا يجعل الفرش بعيدًا عن ذاته.
ثم مَنْ قال إنّ جهة العلوّ جهةٌ تشرّف بها الله فقد كفر، لأنه جعل اللهَ تعالى متشرّفًا بشيء من خلقه، ثم من أصرح الدليل على وجود الله بلا مكان قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وقوله صلى الله عليه وسلم: “كان الله ولم يكن شيء غيره” رواه البخاري والبيهقي وغيرهما.
هذا الحديث صريح في أن الله وحده كان في الأزل ولم يكن سواه والمكانُ هو غير الله، فإن قال لكم قائل: أنا لا أعقل موجودًا بلا مكان، فيقال له: يوجد في المخلوق ما صدّقت به من غير أن يتصوره عقلك وهو ما يُفهم من قوله تعالى: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} معنى ذلك أنه كان وقتٌ لا يوجد فيه ظلماتٌ ولا نور ولا يستطيع إنسان أن يتصور وقتًا ليس فيه ظلام ولا نور ومع ذلك نصدّق بهذا لأن قول الله صدق لا شك فيه، ثم يوجد حديث رواه مسلم والبيهقي، يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: “اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء” قال الحافظ البيهقي: “ومن لم يكن فوقه شيء ولا دونه شيء لم يكن في مكان“.
وروى الحافظ المحدّث اللغوي محمد مرتضى الزبيدي في الصحيفة السجادية أنّ الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين بن عليّ رضي الله عنهم قال: “سبحانك أنت الله الذي لا يحويك مكان“.
وروى أبو منصور البغدادي أنّ عليّ بن أبي طالب قال: “كان الله ولا مكان وهو الآن على ما عليه كان”، وروى عنه أيضًا أنه قال: “إنّ الله خلق العرش إظهارًا لقدرته ولم يتّخذه مكانًا لذاته“.