اَلحجُّ عَرفَة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونشكره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له من يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله من بعثه الله رحمة للعالمين هاديا ومبشرا ونذيرا بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة فجزاه الله عنا خير ما جزى نبيا من أنبيائه صلوات الله وسلامة عليه وعلى كل رسول أرسله أما بعد إخوة الإيمان، أوصي نفسيَ وإياكم بتقوى اللهِ العليِّ العظيم.

قال الله تعالى: ﴿فإذا أفضتم من عرفات فاذكُروا اللهَ عندَ المشعرِ الحرامِ واذكروهُ كما هداكُم﴾ ويقول الحبيب الاعظم محمد عليه الصلاة والسلام :”الحجُّ عرفة “.

إخوة الإيمان ،التاسعُ من ذي الحجةِ هو اليومُ الذي يجتمعُ فيه قاصدِي بيتِ اللهِ الحرام على ذلك الجبلِ ليؤَدُّوا فريضةً من فرائضِ الحجِّ الذي لهُ وقتٌ محدَّدٌ، لذلكَ قالَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ:”الحجُّ عرفة” أي أنَّ أشدَّ أعمالِ الحجِّ احتياطًا له ومبادرةً إليهِ هو الوقوفُ بعرفةَ، وذلكَ أنَّ سائرَ أركانِ الحجِّ فيها توسيعٌ في الوقتِ، وأما ركنُ الوقوفِ بعرفةَ فوقتهُ قصيرٌ وهوَ من ظُهْرِ يومِ التاسعِ من ذي الحجةِ إلى فجرِ يومِ العيد. وليس مرادُ الرسولِ بقولِه: “الحجُّ عرفة” الذي ظنهُ بعضُ من لم يتعلمْ من أنَّ الشخصَ إذا وقفَ بعرفةَ نالَ الحجَّ والعمرةَ ولو لم يأتِ ببقيةِ أركانِ الحجِّ فهذا جهلٌ قبيحٌ. والوقوفُ بعرفةَ فيهِ حكمةٌ عظيمةٌ وذكرى جليلةٌ فعندما يرى الحاجُّ الحجاجَ بالآلافِ فوق عرفات يتذكرُ يومَ القيامةِ وما فيه من مواقفَ عظيمة، فالحاجُّ يرى شدةَ ازدحامِ الناسِ على جبلِ عرفة ويسمعُ ارتفاعَ أصواتَهم بالدعاءِ للهِ الملِكِ الديّانِ مُتَذَلِّلينَ خاشعينَ يرجونَ رحمتَه ويخافونَ عذابَه، يدعونَ اللهَ خالقَهم ومالكَهم وهم على لغاتٍ شتَّى وألوانٍ وأحوالٍ مختلفة، كلُّ هذا يذكِّرهُ بيومِ القيامةِ ومواقفِها المَهيبَةِ الهائِلةِ حيثُ يقفُ الجميعُ متذَلِّلينَ مُفتقِرِين لخالِقِهم مالكِ الملكِ الواحدِ القَهَّار.

في هذا الموقفِ يتذَكَّرُ الحاجُّ أيضاً اجتماعَ الأممِ مع أنبيائِهم يومَ الحسابِ وكيفَ أنَّ كلَّ أمةٍ تقتفِي نبيَّهَا ويطمعُ العصاةُ من المسلمينَ في شفاعتِهم. يومُ عرفةَ جعلهُ اللهُ تبارك وتعالى بفضلِه أفضلَ أيامِ السنة، هذا اليومُ الذي يزدحِمُ فيه الحجاجُّ على اختلافِ ألوانِهم وصورِهم ولغاتِهم ليُؤدُّوا عبادةً عظيمةً فيها أبهى مظاهرِ الوَحدةِ حيثُ يجتمعُ المسلمونَ تحتَ رايةِ التوحيدِ التي جمعتهم فوقَ أرضٍ واحدةٍ يدعونَ ربًّا واحدًا لا شريكَ له، نعم لقد وحَّدَهم توحيدُ الله والتصديقُ برسولِه والإيمانُ بدينه.

قالَ اللهُ تعالى: ﴿واعتصِموا بحبلِ اللهِ جميعا ولا تفَرَّقوا﴾. في هذهِ الآيةِ الكريمةِ أمرٌ عظيمٌ لا غنى لنا عنهُ هو الاعتصامُ بحبلِ اللهِ المتينِ الذي لا انفصامَ لهُ، ولقد بيَّنَ اللهُ لنا في القرءانِ أن صحابةَ النبيِّ الكريمِ توحَّدوا واجتمعوا على الإيمانِ باللهِ ورسولِه وتآلفُوا وتآخَوْا وتظلَّلُوا تحتَ رايةٍ واحدةٍ، ووجَّهوا أنظارَهم نحوَ هدفٍ واحدٍ وهو رفعُ رايةِ التوحيدِ فوقَ كلِّ رايةٍ أخرى. ولقد توحَّدُ الصحابةُ الكرامُ على دربِ التقوى وجمعَهُم الإخلاصُ للهِ والتضحيةُ بالنفسِ والمالِ والولدِ، فاعتصَموا بحبلِ اللهِ أي تمسَّكوا بالدينِ وحَكَموا بحُكمِه ووقفُوا عندَ حدودِه ولم يُغالُوا ولم يُفْرِطوا في دينِهم ولم يُفَرِّطوا بل فهموا معنى قولِ اللهِ تعالى: ﴿وكذلك جعلناكُم أمةً وسطًا﴾. أما اليومَ فإنَّنا نُعاني من المغالاةِ ومن التطرفِ ومن الإفراطِ والتفريطِ الذي تُسبِّبُه بعضُ الجماعاتِ ليَزيدُوا الشَّرْخَ بينَ المسلمين وليزيدوا الفُرقةَ بينَهم. وإنَّ التحذيرَ من أهلِ الضلالِ الذين يعيثُونَ في الأرضِ فسادًا واجبٌ شرعًا لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: “حتَّى متى ترِعونَ عن ذكرِ الفاجرِ اذكروهُ بما فيهِ كي يحذرَهُ الناسُ” رواهُ البيهقي.

لذا فيجبُ التحذيرُ من الذينَ يضرونَ الناسَ في أمرِ دينِهم ومن الذينَ يضُرُّونَ الناسَ في أمرِ دنياهم، والعجب العجاب من هؤلاءِ الذين يعترضونَ على من يحذِّرُ من أهلِ الضلالِ الذينَ ينشُرونَ المفاسدَ والمسائلَ التي تُخالفُ شرعَ اللهِ باسمِ الإسلامِ، فإنَّ التحذيرَ منهم هو من بابِ الأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عنِ المنكرِ وليسَ من قبيلِ تَفرقَةِ المسلمينَ أو من بابِ فكِّ وحدةِ المسلمينَ، فإنهُ لو تُرِكَ التحذيرُ من الضلالِ وتُرِكَ التحذيرُ من أهلِ لانتشرَ الضلالُ واستفحلَ ولكانَ الناسُ شياطينَ خرُساً. قالَ أبو عليِّ الدقاقُ رحمه الله: “الساكتُ عن الحقِّ شيطانٌ أخرسُ”.

واعلموا أيُّها الأحبةُ المسلمونَ أنهُ إذا أصيبَ جسمُ أحدِكم بالآكلةِ (الغرغرينا) هل يقولُ: “أنا أتركُها في يدِي أو رِجلِي لا أقطعُها لأنها جزءٌ مني فكيفَ أقطعُها؟ يتركُها حتى تنتشرَ في كلِّ جسمِه فيهلِكُ فيموت. هل هذا هو الفَطِن؟ هل هكذا يعملُ أحدُكم؟ أم يقولُ هذا الجزءُ الذي أصيبَ بالغرغرينا استأصِلُهُ حتى لا يعُمَّ المرضُ كلَّ جِسمِي. فهؤلاءِ الذينَ ينشُرونَ الضلالَ بين المسلمينَ وهم يدَّعونَ الإسلامَ مَثَلُهم كَمَثَلِ الآكلةِ، هل تُتركُ أم تُستأصلُ حتى لا ينتشرَ الفسادُ والضلال؟ بل يجبُ التحذيرُ منهم ومن مقالاتِهم، وبهذا يحصلُ أحدُ أمرينِ: إما أن يكُفَّ هذا الضالُّ عن ضلالِه، وإما أن يَخِفَّ شرُّه، وكِلا الأمرينِ خيرٌ لمجتمعِ المسلمين. لذا نقولُ أن مَنْ يدعو الى عقيدةِ وعملِ الرسولِ والصحابةِ هل هو يفرِّقُ المسلمينَ أم الذين خالفوا مئاتِ الملايينِ من المسلمين؟ أليس الذي كفَّرَ المتوسِّلينَ بالأنبياءِ والأولياءِ والمتبرِّكينَ بهم وبآثارِهم هو من يريدُ التفرقةَ. أليسَ من قالَ اللهُ جالسٌ على العرشِ هو المشبِّهُ الذي خالفَ كلَّ المسلمينَ وكَذَّبَ القرءانَ وهو الذي يفرِّقُ ويزرعُ الفساد.

أليس الذي قال إنَّ المجتمعَ اليومَ مجتمعٌ جاهليٌ ليسَ فيه مسلمٌ حتى المؤذنَ اعتبرَه كافراً لأنهُ لا يعملُ ثورةً على الحكامِ، أليسَ هذا هو الداعي إلى الفوضَى والقتلِ بلا حقٍّ كما نرى ونسمعُ اليوم؟ أليسَ الذي قالَ لا يجوزُ للرجالِ دعوةُ النساءِ إلى الدينِ بل هذا خروجٌ عن الإسلامِ فكفَّرَ بذلك المسلمينَ حتى الأنبياء الذين دَعَوُا الرجالَ والنساءَ للدِّين فمَنِ الذي يفرِّق إذَن؟
إخوةَ الإيمان، يومُ العاشرِ من ذي الحجةِ هو يومُ عيدِ الأضحى المباركِ وهو يومٌ عظيمٌ بالنسبةِ للمسلمين، أعادَهُ اللهُ على المسلمينَ بالخيرِ والبركةِ، وفي هذا اليومِ تعمُّ الفرحةُ والسرورُ قلوبَ المسلمينَ بقدومِ هذا العيدِ المبارك، ونسألُ اللهَ أن يَرُدَّ حجَّاجَ بيتِه الحرامِ إلى ديارِهِم سالِمين غانمِِِين.

شاهد أيضاً

نبي الله ءادم عليه الصلاة والسلام

قال الله تعالى :{ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى ءادَمَ وَنُوحًا وَءالَ إِبْرَاهِيمَ وَءالَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} …