المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله الواحدِ العظيم الجبَّار القدير القويِّ القَهَّار، المُتَعالِي عن أنْ تُدركهُ الخواطر والأبْصار، يسمعُ أنين المريض يَشْكو ما بِه مِنَ الأضْرار، ويُبْصِر دبيبَ النملةِ السوداءِ في الليلةِ الظَّلماءِ على الغَار، ويعلم خَفِيَّ الضَّمائرِ ومكنونَ الأسْرار، صفاتُه كذاته والمُشبِّهةُ كفَّار، نُقرُّ بما وصف به نفسه على ما جاء في القرآنِ والأخبار، أحْمدُه سبحانَه على المَسَارِّ والمَضَارِّ، وأشهد أنْ لا إِله إِلّا الله وحدَه لا شريكَ لَهُ المتفردُ بالْخلقِ والتدبير ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ﴾ [سورة القصص/ الآية 68]،
وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسولهُ أفضلُ الأنبياءِ الأطهارِ، صلَّى الله عليه وعلى أبي بكر رفيقِه في الْغَار، وعلى عُمرَ قامِع الكُفَّار، وعلى عثمانَ شهيدِ الدَّار، وعلى عليٍّ القائمِ بالأسْحار، وعلى آلِهِ وأصْحابهِ خصوصًا المهاجرينَ والأنْصار، اللَّهُمَّ ءَاتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِى الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
أما بعد:
فقد وصلنا إلى دعاء آخرَ من أدعيته صلى الله عليه وسلم، وهو دعاء جامع لخيرات الدنيا والآخرة، وهو من جوامع الدعاء، وَهِيَ الَّتِي تَجْمَعُ الْأَغْرَاضَ الصَّالِحَةَ، أَوْ تَجْمَعُ الثَّنَاءَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَآدَابَ الْمَسْأَلَةِ. وقيل: هِيَ مَا لَفْظُهُ قَلِيلٌ، وَمَعْنَاهُ كَثِيرٌ، شَامِلٌ لِأُمُورِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
الحديث: اللهم آتنا في الدنيا حسنة
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ أَكْثَرُ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((اللَّهُمَّ ءَاتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِى الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)).
الشرح والتعليق على هذا الحديث
وَقد اخْتلف الْمُفَسِّرُونَ فِي حَسَنَة الدُّنْيَا على سَبْعَة أَقْوَال؛
أَحدهَا: أَنَّهَا الْمَرْأَة الصَّالِحَة، قَالَه عَليّ رضي الله عنه.
وَالثَّانِي: الْعِبَادَة، رَوَاهُ سُفْيَان بن حُسَيْن عَن الْحسن.
وَالثَّالِث: الْعلم وَالْعِبَادَة، رَوَاهُ هِشَام عَن الْحسن.
وَالرَّابِع: المَال، قَالَه أَبُو وَائِل.
وَالْخَامِس: الْعَافِيَة، قَالَه قَتَادَة.
وَالسَّادِس: الرزق الْوَاسِع، قَالَه مقَاتل.
وَالسَّابِع: النِّعْمَة.
وَفِي حَسَنَة الْآخِرَة ثَلَاثَة أَقْوَال:
أَحدهَا: الْحور الْعين، قَالَه عَليّ رضي الله عنه.
وَالثَّانِي: الْجنَّة، قَالَه الْحسن.
وَالثَّالِث: الْعَفو وَالْمَغْفِرَة، قَالَه الثَّوْريّ.
وقال النووي: وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِي تَفْسِيرِ الْحَسَنَةِ فِي الدُّنْيَا أَنَّهَا الْعِبَادَةُ وَالْعَافِيَةُ، وَفِي الْآخِرَةِ الْجَنَّةُ وَالْمَغْفِرَةُ.
قال القاضي عِيَاضٌ: إِنَّمَا كَانَ يُكْثِرُ الدُّعَاءَ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِجَمْعِهَا مَعَانِيَ الدُّعَاءِ كُلِّهِ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، قَالَ: والحسنة عِنْدهم هَا هُنَا النِّعْمَةُ، فَسَأَلَ نَعِيمَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَالْوِقَايَةَ مِنَ الْعَذَابِ نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَمُنَّ عَلَيْنَا بِذَلِكَ وَدَوَامِهِ.اهـ
وَعَنْ عَطِيَّةَ: حَسَنَةُ الدُّنْيَا الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ بِهِ وَحَسَنَةُ الْآخِرَةِ تَيْسِيرُ الْحِسَابِ وَدُخُولُ الْجَنَّةِ.
وَقيل: مَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْإِسْلَامَ وَالْقُرْآنَ وَالْأَهْلَ وَالْمَالَ وَالْوَلَدَ فَقَدْ آتَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً.
وَنَقَلَ الثَّعْلَبِيُّ عَنْ سَلَفِ الصُّوفِيَّةِ أنها السَّلَامَةُ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ.
وقال ابن رجب الحنبلي: ومن تأمَّل الأدعية المذكورة في القرآن وجدها غالباً تفتتح باسم الرَّبِّ، كقوله تعالى: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [سورة البقرة/ الآية 201]، ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾ [سورة البقرة/ الآية 286]، وقوله: ﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا﴾ [سورة آل عمران/ الآية 8]. ومثل هذا في القرآن كثير.
وعن عطاءٍ قال: ما قال عبدٌ يا ربِّ يا ربِّ يا ربِّ ثلاث مرات، إلاّ نظر الله إليه – أي رحمه -، فذكر ذلك للحسن، فقال: أما تقرءون القرآن؟ ثم تلا قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ﴾ [سورة آل عمران/ الآية 191-195].
وقال يزيد الرَّقاشي عن أنس: ما مِنْ عبدٍ يقول: يا ربِّ يا ربِّ يا ربِّ، إلا قال له ربُّه: «لبيك لبيك».
وقال بعض المفسرين: جَمَعَتْ هَذِهِ الدعوةُ كلَّ خَيْرٍ فِي الدُّنْيَا، وصرَفت كُلَّ شَرٍّ؛ فَإِنَّ الْحَسَنَةَ فِي الدُّنْيَا تشملُ كُلَّ مَطْلُوبٍ دُنْيَوِيٍّ، مِنْ عَافِيَةٍ، وَدَارٍ رَحْبَةٍ، وَزَوْجَةٍ حَسَنَةٍ، وَرِزْقٍ وَاسِعٍ، وَعِلْمٍ نَافِعٍ، وَعَمَلٍ صَالِحٍ، وَمَرْكَبٍ هَنِيءٍ، وَثَنَاءٍ جَمِيلٍ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ عباراتُ الْمُفَسِّرِينَ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهَا، فَإِنَّهَا كُلَّهَا مُنْدَرِجَةٌ فِي الْحَسَنَةِ فِي الدُّنْيَا.
وَأَمَّا الْحَسَنَةُ فِي الْآخِرَةِ فَأَعْلَى ذَلِكَ دُخُولُ الْجَنَّةِ وَتَوَابِعُهُ مِنَ الْأَمْنِ مِنَ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ فِي المواقف، وَتَيْسِيرِ الْحِسَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ الصَالِحةِ.
وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: مَنْ أُعْطِيَ قَلْبًا شَاكِرًا، وَلِسَانًا ذَاكِرًا، وَجَسَدًا صَابِرًا، فَقَدْ أُوتِيَ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَوُقِيَ عَذَابَ النَّارِ. وَلِهَذَا وَرَدَتِ السُّنَّةُ بِالتَّرْغِيبِ فِي هَذَا الدُّعَاءِ.
وقال الزركشي: إِنَّ (حَسَنَةً) نَكِرَةٌ مُرَادٌ بِهَا التَّعْمِيمُ، وَلِهَذَا كَانَ مِنْ جَوَامِعِ الْأَدْعِيَةِ.
وروى ابن أبي شيبة عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الرُّومِيِّ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا حَمْزَةَ إِنَّ إِخْوَانَكَ يُحِبُّونَ أَنْ تَدْعُوَ لَهُمْ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا، وَآتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ»، قَالُوا: زِدْنَا يَا أَبَا حَمْزَةَ، فَرَدَّهَا عَلَيْهِمْ، قَالُوا: زِدْنَا يَا أَبَا حَمْزَةَ، قَالَ: «حَسْبُنَا اللَّهُ يَا أَبَا فُلَانٍ، إِنْ أُعْطِينَاهَا فَقَدْ أُعْطِينَا خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ».
إذًا فهذا دعاء عظيم ينبغي أن لا نتركه وقد كان أكثرَ دعاء النبي صلى الله عليه وسلم،
وقد روى مسلم عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَادَ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَدْ خَفُتَ، وَصَارَ مِثْلَ الْفَرْخِ، فَقَالَ رَسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((هَلْ كُنْتَ تَدْعُو اللَّهَ بِشَيْءٍ؟)) قَالَ: نَعَمْ، كُنْتُ أَقُولُ: اللَّهُمَّ مَا كُنْتَ مُعَاقِبِي فِي الْآخِرَةِ فَعَجِّلْهُ لِي فِي الدُّنْيَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((سُبْحَانَ اللَّهِ، لَا تُطِيقُهُ – أَوْ لَا تَسْتَطِيعُهُ – فَهَلَّا قُلْتَ: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾))، فَدَعَا اللَّهَ فَشَفَاهُ.اهـ
وروى الإمام الشافعي في كتاب الأم عَنْ السَّائِبِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِيمَا بَيْنَ رُكْنِ بَنِي جُمَحَ أي اليماني وَالرُّكْنِ الْأَسْوَدِ: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. قال الشافعي: وَهَذَا مِنْ أَحَبِّ مَا يُقَالُ فِي الطَّوَافِ إلَيَّ، وَأُحِبُّ أَنْ يُقَالَ فِي كُلِّهِ.
وقال الشافعي أيضا: وَأُحِبُّ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ كَلَامُهُ فِي الطَّوَافِ ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾.
وروى عبد الرَّزاق، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عُمَيْرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُهُمُ التَّشَهُّدَ، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنَ الْخَيْرِ كُلِّهِ مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا سَأَلَكَ مِنْهُ عِبَادُكَ الصَّالِحُونَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا اسْتَعَاذَ بِهِ عِبَادُكَ الصالِحُونَ، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّر عَنَّا سَيئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ، رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ، وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِنكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ.اهـ
وعَنْ أَبِي شُعْبَةَ الْبَكْرِيِّ، قَالَ: طُفْتُ وَرَاءَ ابْنِ عُمَرَ، فَسَمِعْتُهُ حِينَ حَاذَى الرُكْنَ الْيَمَانِيَ، قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَبِيَدِهِ الْخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ، فَلَمَّا جَاءَ الْحَجَرَ، قَالَ: ﴿رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِي ٱلدُّنۡيَا حَسَنَةٗ وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِ حَسَنَةٗ وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ﴾ [سورة البقرة/ آية 201]، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ سَمِعْتُكَ تَقُولُ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: سَمِعْتَنِي؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَهُوَ ذَلِكَ أَثْنَيْتُ عَلَى رَبِّي، وَشَهِدْتُ شَهَادَةَ حَقٍّ، وَسَأَلْتُهُ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَدَعَا هِشَامٌ بِدَوَاةٍ فَكَتَبَهُ.
وَكَانَ عمر بن عبد العزيز إِذا وقف بِعَرَفَات قَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّك دَعَوْت إِلَى حج بَيْتك، ووعدت بِهِ مَنْفَعَة على شُهُود مناسكك، وَقد جئْتُك، اللَّهُمَّ اجْعَل مَنْفَعَة مَا تنفعني بِهِ أَن تؤتيني فِي الدُّنْيَا حَسَنَة وَفِي الْآخِرَة حَسَنَة وَأَن تقيني عَذَاب النَّار. وَكَانَ يَقُول: اللَّهُمَّ لَا تعطني فِي الدُّنْيَا عَطاء يبعدني من رحمتك فِي الآخرة. اهـ
وقال الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ: سَأَلَ قَتَادَةُ أَنَسًا: أَيُّ دَعْوَةٍ كَانَ أَكْثَرَ يَدْعُو بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: كَانَ أَكْثَرُ دَعْوَةٍ يَدْعُو بِهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((اللهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ))، وَكَانَ أَنَسٌ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ بِدَعْوَةٍ دَعَا بِهَا، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ بِدُعَاءٍ دَعَا بِهَا فِيهِ.
وروى الأزرقي في تاريخ مكة عَنْ مُجَاهِدٍ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: “مَلَكٌ مُوَكَّلٌ بِالرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ مُنْذُ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ يَقُولُ آمِينَ، فَقُولُوا: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ”.
وروى الخرائطي عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: ((أَمَا إِنَّهُ سَيَطْلُعُ عَلَيْكُمْ مِنْ هَذَا الْبَابِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ)). قَالَ: فَجَاءَ سَعْدُ بْنُ مَالِكٍ، فَدَخَلَ، فَنَظَرْنَا إِلَيْهِ فَغَبَطْنَاهُ، ثُمَّ قَالَ الْيَوْمَ الثَّانِيَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَدَخَلَ سَعْدٌ، ثُمَّ قَالَ الْيَوْمَ الثَّالِثَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَدَخَلَ سَعْدٌ، فَلَمْ نَشُكَّ فِيهِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: مَا أَنَا بِالَّذِي أَنْتَهِي حَتَّى أُبَايِتَ هَذَا الرَّجُلَ، فَأَنْظُرَ إِلَيْهِ وَمَا عَمَلُهُ. قَالَ: فَأَتَيْتُهُ بَعْدَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ، فَضَرَبْتُ عَلَيْهِ الْبَابَ، فَخَرَجَ إِلَيَّ، فَرَحَّبَ بِي، وَقَالَ: ابْنَ أَخِي، مَا جَاءَ بِكَ؟ قَالَ: قُلْتُ: حَاجَةٌ. قَالَ: فَنَقْضِيهَا أَوْ تَدْخُلُ؟ قُلْتُ: بَلْ أَدْخُلُ. قَالَ: فَدَخَلْتُ، فَثَنَى لِي عَبَاءَةً، فَاضْطَجَعْتُ عَلَيْهَا قَرِيبًا، أَرْمُقُهُ لِيَلِي جَمِيعًا، كُلَّمَا تَعَارَّ سَبَّحَ، وَكَبَّرَ، وَهَلَّلَ، وَحَمِدَ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، حَتَّى إِذَا قَامَ فِي وَجْهِ السَّحَرِ، قَامَ فَتَوَضَّأَ مِنَ الْمَاءِ، ثُمَّ قَامَ فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَصَلَّى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً، بِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ سُورَةً مِنَ الْمُفَصَّلِ، لَيْسَ مِنْ طِوَالهِ، وَلَا مِنْ قِصَارِهِ، يَدْعُو فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ التَّشَهُّدِ وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِثَلَاثِ دَعَوَاتٍ: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾، اللَّهُمَّ اكْفِنَا مَا هَمَّنَا مِنْ أَمْرِ آخِرَتِنَا وَدُنْيَانَا، اللهم إِنَّا نَسْأَلُكَ مِنَ الْخَيْرِ كُلِّهِ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ.
فَاسْتَقْلَلْتُ صَلَاتَهُ، وَقِرَاءَتَهُ، وَدُعَاءَهُ، وَظَنَنْتُ أَنَّهُ مَنَعَهُ مَكَانِي أَنْ يَصْنَعَ شَيْئًا قَدْ كَانَ يَصْنَعُهُ، فَأَبَتْ نَفْسِي إِلَّا مُعَاوَدَتَهُ، فَعَاوَدْتُهُ فِي مِثْلِ السَّاعَةِ الَّتِي أَتَيْتُ فِيهَا. قَالَ: فَخَرَجَ إِلَيَّ وَرَحَّبَ بِي، وَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، لَعَلَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِكِ شَيْءٌ؟ قُلْتُ: لَا وَاللَّهِ يَا عَمِّ، مَا بَيْنِي وَبَيْنَ أَهْلِي إِلَّا خَيْرٌ. قَالَ: فَهَاتِ حَاجَتَكَ. قَالَ: فَتَدْخُلُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. فَصَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعَ فِي اللَّيْلَةِ الْمَاضِيَةِ، فَأَبَتْ نَفْسِي أَنْ تَطِيبَ، حَتَّى عَاوَدْتُهُ الثَّالِثَةَ، فَصَنَعَ مِثْلَ ذَلِكَ مِنَ الدُّعَاءِ، وَمِثْلَ ذَلِكَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَمِثْلَ تِلْكَ الرَّكَعَاتِ. قَالَ: فَجَاءَ، فَقَالَ: الصَّلَاةَ. فَقُمْتُ فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَهُوَ، فَصَلَّيْنَا صَلَاةَ الْفَجْرِ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى إِذَا خَفَّ النَّاسُ، فَقُمْتُ إِلَيْهِ، فَقُلْتُ: أَيْ عَمِّ، حَاجَتِي الَّتِي بِتُّ عِنْدَكَ. قَالَ: نَعَمْ، وَمَا هِيَ؟ قُلْتُ: إِنَّمَا بِتُّ عِنْدَكَ لِيَزِيدَنِي اللَّهُ مِنْكَ، وَمِنْ صَلَاةٍ، وَمِنْ دُعَاءٍ، وَقَدِ اسْتَقْلَلْتُ مَا كَانَ مِنْكَ، وَظَنَنْتُ أَنَّهُ مَنَعَكَ مَكَانِي أَنْ تَصْنَعَ شَيْئًا كُنْتَ تَصْنَعُهُ.
فَقالَ: وَإِنَّمَا بِتَّ عِنْدِي مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ، وَلَسْتُ ضَعِيفًا مُقَصِّرًا، هُوَ مَا رَأَيْتَ. قُلْتُ: إِنِّي أُذَكِّرَكَ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَأَخْلَاقَ الْإِسْلَامِ، أَمْنَعَكَ مَكَانِي أَنْ تَصْنَعَ شَيْئًا كُنْتَ تَصْنَعُهُ؟
قَالَ: اللَّهُمَّ لَا. فَلَمَّا قُمْتُ، نَادَانِي: ارْجِعْ يَا ابْنَ أَخِي، خَصْلَةٌ أُخْرَى، آخُذُ مَضْجَعِي، وَلَيْسَ فِي قَلْبِي حقد عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: هَذِهِ بَلَغْتَ بِهَا.
وقال النووي في المجموع: “يُسَنُّ عِنْدَ الْكَرْبِ وَالْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ دُعَاءُ الْكَرْبِ:
لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الْأَرْضِ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ. وَأَيْضًا: يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ. وَأَيْضًا: اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أرجو فَلَا تَكِلنِي إلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ. وَيُنْدَبُ فِي كُلِّ مَوْطِنٍ: اللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ وَأَيْضًا: آيَةَ الْكُرْسِيِّ وَآخِرَ الْبَقَرَةِ. وَإِذَا خَافَ سُلْطَانًا أَوْ غَيْرَهُ قَالَ: اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شُرُورِهِمْ وَأَجْعَلُكَ فِي نُحُورِهِمْ. وَإِذَا عَرَضَ لَهُ شَيْطَانٌ فَلِيَسْتَعِذْ بِاَللَّهِ مِنْهُ وَلْيَقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ. وَإِذَا أَصَابَهُ شئ فَلْيَقُلْ: قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ اللَّهُ فَعَلَ. وَلْيَقُلْ لِدَفْعِ الْآفَاتِ: مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ.
وَعِنْدً الْمُصِيبَةِ: إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَعِنْدَ النِّعْمَةِ: نَحْمَدُ اللَّهَ وَنَشْكُرُهُ.
وَإِذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ اكفني بِحَلَالِك عَنْ حَرَامِك وَأَغْنِنِي بِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِوَاك. وَإِذَا بُلِيَ بِالْوَحْشَةِ فَلْيَقُلْ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ وَشَرِّ عِبَادِهِ وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَنْ يَحْضُرُونَ.
وَإِذَا بُلِيَ بِالْوَسْوَسَةِ فَلْيَسْتَعِذْ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ وَلْيَنْتَهِ عَنْ الِاسْتِمْرَارِ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ تَوَسْوُسُهُ فِي الْإِحْرَامِ بِالصَّلَاةِ تَعَوَّذَ بِاَللَّهِ مِنْهُ وَتَفَلَ عَنْ يَسَارِهِ ثَلَاثًا وَيَقُولُ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَيُكَرِّرُهَا. وَيَقْرَأُ عَلَى الْمَعْتُوهِ وَالْمَلْدُوغِ وَنَحْوَهُمَا فَاتِحَةَ الْكِتَابِ، وَإِذَا أَرَادَ تَعْوِيذَ صَبِيٍّ وَنَحْوِهِ قَالَ: أُعِيذُكَ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لَامَّةٍ”.اهـ
وفي فتاوى تقي الدين السبكي التي ينقلها عنه ابنه تاج الدين السبكي رضي الله عنهما قال، قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي قَوْله تَعَالَى: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾
مِنْ النَّاسِ مَنْ قَدْ دَبَّرُوا فَتَحَصَّلُوا
عَلَى نِعْمَةٍ فِي نَسْلِهِمْ هِيَ بَاقِيَهْ
وَمَا لِي تَدْبِيرٌ لِنَفْسِــــــــي لَا وَلَا
لِنَسْلِيَ لَكِنْ نِعْمَةُ اللَّــــــهِ كَافِيَهْ
كَمَا عَالَنِي دَهْرِي كَذَاكَ يَعُولُ مَنْ
أُخَلِّفُهُ فِي عِيشَةٍ هِيَ رَاضِـــيَهْ
وَمِنْهُمْ أُنَاسٌ وَفَّرَ اللَّهُ حَظَّــــــــهُمْ
لِخَيْرِهِمْ فِي جَنَّةٍ هِيَ عَالِـــــيَهْ
وَقَوْلِي رَبِّي آتِنَـــا حَسَنَتَيْهِمَـــــــا
وَثَالِثَــــةً عَنَّا جَهَنَّمَ وَاقِيَــــــــهْ
قال تقي الدين السبكي: “نَظَمْتُهَا يَوْمَ الِاثْنَيْنِ سَابِعَ شَوَّالٍ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ بِسَبَبِ أَنِّي تَفَكَّرْت فِي حَالِي وَحَالِ أَوْلَادِي وَلِي فِي الْقَضَاءِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً لَمْ يَحْصُل لَهُمْ مَا يَبْقَى لَهُمْ مِنْ بَعْدِي، وَأَقَمْت قَبْلَ ذَلِكَ بِمِصْرَ نَحْوًا مِنْ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً مُتَمَكِّنًا مِنْ أَنْ أُحَصِّلَ لَهُمْ رَوَاتِبَ كَثِيرَةً لَمْ أُحَصِّلْ لَهُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي مِصْرَ لَمْ يَتْرُكْ لِأَوْلَادِهِ شَيْئًا وَلَا حَصَّلَ لَهُمْ بَعْدَهُ شَيْئًا، وَنَفْسِي تَطْلُبُ الْخَيْرَ لِأَوْلَادِي فِي حَيَاتِي وَبَعْدَ مَمَاتِي فَتَوَكَّلْت عَلَى اللَّهِ وَأَحَلْتُهُمْ عَلَى فَضْلِهِ كَمَا تَفَضَّلَ عَلَيَّ، وَنَظَّمْت هَذِهِ الْأَبْيَاتِ وَأَشَرْت فِي الْبَيْتِ الْأَخِيرِ إلَى قَوْله تَعَالَى: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ أَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى ذَلِكَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا”.
تنبيهٌ:
وليس معنى قوله: ﴿وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ أنّه يجوز عليه أن يقع في النار، لا، فهذا لا يجوز ولا يليق بالأنبياء. والنبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو بهذا الدعاء ليعلمنا وليس لأنّه يقع فيه، فهو أثبت الناس قلبًا على دين الله عزّ وجلّ، وأبعد الناس عن أن يصيبه عذاب بالنار.
حديث: اللهم إني أسألك الهدى والتقى
وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى)).
الشرح
عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي اللَّه عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم كَانَ يَقُولُ: ((اللَّهُمَّ (أي يا الله) إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى (أَيِ الْهِدَايَةَ الْكَامِلَةَ،وَالْهِدَايَةُ عَلَى وَجْهَيْنِ؛
أَحَدُهُمَا: إِبَانَةُ الْحَقِّ وَالدُّعَاءُ إِلَيْهِ، وَنَصْبُ الأَدِلَّةِ عَلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَصِحُّ إِضَافَةُ الْهِدَايَةِ إِلَى الرُّسُلِ وَإِلَى كُلِّ دَاعٍ لِلَّهِ.
فَالأَنْبِيَاءُ بِهَذَا الْمَعْنَى هُدَاةٌ لِأَنَّهُمْ دَلُّوا النَّاسَ عَلَى الْخَيْرِ وَبَيَّنُوا لِلنَّاسِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ، وَحَذَّرُوا النَّاسَ مِمَّا لا يُحِبُّهُ اللَّهُ. فَالأَنْبِيَاءُ وَظِيفَتُهُمُ الَّتِي هِيَ فَرْضٌ عَلَيْهِمْ أَنْ يُؤَدُّوهَا الْبَيَانُ وَالدِّلالَةُ وَالإِرْشَادُ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ مَنْ كَانَ اللَّهُ شَاءَ لَهُ الِاهْتَدَاءَ يَهْتَدِي بِقَوْلِ هَؤُلاءِ الأَنْبِيَاءِ بِالأَخْذِ بِدَعْوَتِهِمْ وَنَصِيحَتِهِمْ، وَمَنْ لَمْ يَشَإِ اللَّهُ أَنْ يَهْتَدِيَ لا يَهْتَدِي مَهْمَا رَأَوْا مِنَ الْمُعْجِزَاتِ، هَذَا أَبُو جَهْلٍ رَأَى انْشِقَاقَ الْقَمَرِ وَغَيْرُهُ مِنْ صَنَادِيدِ الْكُفْرِ وَلَمْ يَهْتَدِ مِنْهُمْ إِلَّا الَّذِي شَاءَ اللَّهُ لَهُ أَنْ يَهْتَدِيَ وَلِذَلِكَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ قَالَ:
رَبِّ إِنَّ الْهُدَى هُدَاكَ وَءَايَاتُكُ
نُورٌ تَهْدِي بِهَـــــا مَنْ تَشَاءُ
مَعْنَاهُ الآيَاتُ لا تَهْدِي بِذَاتِهَا إِنَّمَا يَهْتَدِي بِهَا مَنْ شَاءَ اللَّهُ لَهُمُ الْهِدَايَةَ، وَالَّذِينَ لَمْ يَشَإِ اللَّهُ لَهُمُ الْهِدَايَةَ فَلا الْمُعْجِزَاتُ تُؤَثِّرُ فِيهِمْ وَلا الْعِبَرُ الَّتِي حَصَلَتْ لِمَنْ قَبْلَهُمْ مِمَّنْ كَذَّبُوا الأَنْبِيَاءَ، فَالدُّعَاءُ إِلَى الْحَقِّ يُقَالُ لَهُ هِدَايَةٌ، وَكَذَلِكَ نَصْبُ الأَدِلَّةِ عَلَيْهِ.
ومن الهداية المنسوبة للأنبياء كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [سُورَةَ الشُّورَى/52] أَيْ يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ تَدُلُّ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَتُبَيِّنُ لِلْخَلْقِ طَرِيقَ الْهِدَايَةِ طَرِيقَ الْهُدَى، لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنْتَ تَخْلُقُ الِاهْتِدَاءَ فِي قُلُوبِ النَّاسِ، فَالرَّسُولُ لا يَمْلِكُ الْقُلُوبَ فَهُوَ يَقُولُ لَهُمْ ءَامِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، هَذَا يُقَالُ لَهُ هِدَايَةٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْهِدَايَةَ هُنَا لَيْسَتْ بِمَعْنَى خَلْقِ الِاهْتِدَاءِ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ أَنَّ أَبَا طَالِبٍ مَاتَ كَافِرًا، أَلَيْسَ الرَّسُولُ كَانَ يُحِبُّ لِأَبِي طَالِبٍ أَنْ يَهْتَدِيَ وَمَعَ ذَلِكَ أَبُو طَالِبٍ مَاتَ كَافِرًا، مَعَ أَنَّهُ كَانَ يُحِبُّ الرَّسُولَ وَيُدَافِعُ عَنْهُ وَلَكِنَّهُ مَا رَضِيَ أَنْ يَنْطِقَ بِالشَّهَادَتَيْنِ، لَمَّا كَانَ عَلَى فِرَاشِ الْمَوْتِ حِينَ دَخَلَ عَلَيْهِ الرَّسُولُ فَقَالَ لَهُ: ((يَا عَمُّ قُلْ: لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. أَشْهَدْ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ)) فَلَمْ يَفْعَلْ، وَقَالَ: إِنِّي عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَقَدْ كَانَ قَالَ قَبْلَ ذَلِكَ: لَوْلا أَنْ تُعَيِّرَنِي بِهَا قُرَيْشٌ لَأَقْرَرْتُ بِهَا عَيْنَكَ، ثُمَّ لَمَّا مَاتَ جَاءَ عَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ إِلَى الرَّسُولِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ عَمَّكَ الشَّيْخَ الضَّالَّ قَدْ مَاتَ قَالَ: ((اذْهَبْ فَوَارِهِ)) جَهِّزْهُ لِلدَّفْنِ، وَالرَّسُولُ مَا خَرَجَ فِي جِنَازَتِهِ، فَلَوْ كَانَ يُحِبُّهُ لِشَخْصِهِ كَانَ خَرَجَ فِي جِنَازَتِهِ، وَهَذَا دَلِيلٌ لَنَا عَلَى أَنَّهُ مَا كَانَ يُحِبُّ شَخْصَهُ بَلْ كَانَ كَارِهًا لَهُ مِنْ حَيْثُ كُفْرُهُ.
وَلا يَجُوزُ اعْتِقَادُ أَنَّ نَبِيًّا مِنَ الأَنْبِيَاءِ يُحِبُّ وَاحِدًا مِنَ الْكُفَّارِ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ [سورة آل عمران/ الآية 32] وَأَنْبِيَاءُ اللَّهِ لا يُحِبُّونَ الْكَافِرِينَ لِأَنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّهُمْ، إِنَّمَا كَانَ يُحِبُّ اهْتِدَاءَهُ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [سورة القصص/ الآية 56]، أَيْ يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ لا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَخْلُقَ الِاهْتِدَاءَ فِي قَلْبِ مَنْ أَحْبَبْتَ اهْتِدَاءَهُ، فَمَنْ أَحْبَبْتَ اهْتِدَاءَهُ لا تَهْدِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ لا يَهْتَدِيَ، ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ أَيْ مَنْ شَاءَ اللَّهُ لَهُ الْهِدَايَةَ فِي الأَزَلِ يَهْتَدِي.
وأما قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى﴾ [سورة فصلت/ الآية 17] أَيْ بَيَّنَّا لَهُمُ الْحَقَّ وَدَلَلْنَاهُمْ عَلَيْهِ، وَثَمُودُ قَبِيلَةٌ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ قَبْلَ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَهُمْ قَوْمُ نَبِيِّ اللَّهِ صَالِحٍ، وَمَسَاكِنُهُمْ بَعْدَ الْمَدِينَةِ بِثَلاثِمِائَةِ كِيلُو مِتْرٍ تَقْرِيبًا إِلَى جِهَةِ الشَّامِ، فَثَمُودُ بَيَّنَ اللَّهُ لَهُمْ طَرِيقَ الْخَيْرِ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ صَالِحًا فَبَيَّنَ لَهُمْ طَرِيقَ الْهُدَى طَرِيقَ الإِسْلامِ فَكَذَّبُوهُ، وَكَفَرُوا بِنَبِيِّهِمْ فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ، فَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ﴾ دَلَلْنَاهُمْ عَلَى الْحَقِّ ﴿فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى﴾ أَيْ كَذَّبُوا نَبِيَّهُمْ فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بِطُغْيَانِهِمْ، أَمَرَ جِبْرِيلَ فَصَاحَ بِهِمْ فَهَلَكُوا ﴿فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى﴾ أَيِ اخْتَارُوا الضَّلالَ وَلَمْ يَقْبَلُوا الإِيـمَانَ.
مِنْ جِهَةِ هِدَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ، أَيْ خَلْقِ الِاهْتِدَاءِ فِي قُلُوبِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا﴾ [سورة الأنعام/ الآية 125] وَالإِضْلالُ خَلْقُ الضَّلالِ فِي قُلُوبِ أَهْلِ الضَّلالِ. فَالْعِبَادُ مَشِيئَتُهُمْ تَابِعَةٌ لِمَشِيئَةِ اللَّهِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ [سورة الإنسان/ الآية 30].
فالْهِدَايَةُ بِمَعْنَى خَلْقِ الِاهْتِدَاءِ خَاصَّةٌ بِاللَّهِ تَعَالَى، فَالَّذِي يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يُحَبِّبُ الإِسْلامَ إِلَيْهِ، وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا فَلا يُحَبِّبُ الإِسْلامَ إِلَيْهِ. وَالإِضْلالُ مَعْنَاهُ خَلْقُ الضَّلالِ فِي قُلُوبِ الْكَافِرِينَ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ يَخْلُقُ الِاهْتِدَاءَ فِي قُلُوبِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَضْلًا مِنْهُ وَكَرَمًا، وَيَخْلُقُ الضَّلالَةَ فِي قُلُوبِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ عَدْلًا مِنْهُ لا ظُلْمًا.
وَهَذِهِ الآيَةُ فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ عَقِيدَةِ الْمُعْتَزِلَةِ حَيْثُ قَالُوا: يَجِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يَفْعَلَ مَا هُوَ الأَصْلَحُ لِلْعِبَادِ. فَعَلَى قَوْلِهِمْ اللَّهُ لَيْسَ حَكِيمًا حَيْثُ إِنَّهُ لَمْ يَجْعَلْهم كُلَّهُمْ مُؤْمِنِينَ.
زَعَمَتْ المعْتَزِلَةُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى اللهِ تَعَالَى أَنْ يَفْعَلَ الأَصْلَحَ لِلعَبْدِ والعياذُ بِاللّه تَعَالَى، فَجَعَلُوا اللهَ مَغْلُوبًا عَلَى أَمْرِهِ، ثُمَّ لَوْ كَانَ الأَمْرُ كَمَا قَالِتِ المعْتَزِلَةُ بِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى اللهِ فَعَلُ الأَصْلَحِ، فَمَاذَا هُمْ فَاعِلُونَ بُقُولِهِ تَعَالَى: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ﴾ [سورة القصص/ الآية 68]، وَقَوْلِهِ: ﴿وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ [سورة البقرة/ الآية 105] وَقَوْلِهِ: ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ﴾ [سورة البقرة/ الآية 269]، وَقَوْلِهِ أَيْضًا: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [سورة آل عمران/ الآية 33]، وَذَكَرَ فِي هَذِهِ الآيَاتِ تَخْصِيصَهُ بِالرَّحْمَةِ مَنْ يَشَاءُ فِي الآخِرَةِ وإيتاءَه الحِكْمَةَ وَالنُّبُوَّةَ مَنْ يَشَاءُ وَاصْطِفَاءَهُ مِنَ العِبَادِ مَنْ يَشَاءُ رُسُلًا وَهُوَ وَارِدٌ عَلَى سَبِيلِ التمدُّحِ، فَلَوْ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ فِعْلُ الأَصْلَحِ لِلعَبْدِ لِبَطَلَ التمدُّحُ ولثبتَتْ عَلَيْهِ مغلوبيةٌ وَمَحْكُومِيَّةٌ لِغَيْرِهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَيْسَ فِي اخْتِيَارِ أَكْثَرِ العِبَادِ الكُفْرَ بَعْدَ أَنْ أَمَرَهُمْ بِالإِيمَانِ مغلوبيةٌ لِغَيْرِهِ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ – حَاشَا للهِ – فَهُوَ أَمَرَهُمْ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ شَاءَ للسعيدِ مِنْهُمُ السَّعَادَةَ وللشقيِّ مِنْهُمُ الشقاوةَ، فَلَا عَجْزَ وَلَا نَقِيصَةَ فِي حَقِّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وقد قال النسفي في العقيدة النسفية: وما هو الأصلح للعبد فليس بواجب على الله. فهذا ردّ على المعتزلة لأنهم قالوا واجب على الله أن يفعل بالعبد ما هو الأصلح له، وأما أهل السنة فقالوا إن الله يفعل ما يشاء ولا يحكمه في فعله حاكم وإلا لَمَا خلق الله الكافر الفقير المعذّب في الدنيا والآخرة، ولما كان له سبحانه منّة على العباد واستحقاقُ شكر في الهداية وإفاضة أنواع الخيرات لكونه إنّما يؤدى الواجب.
وقد ذكر تاج الدين السبكي في طبقاته وغيره عن أبي الحسن الأشعري أنه ناظر أبا علي الجبائي فقال له الأشعري: ما قولك في ثلاثة مؤمن وكافر وصبي؟
فقال الجبائي: المؤمن من أهل الدرجات، والكافر من أهل الهلكات، والصبي من أهل النجاة.
فقال الأشعري: فإن أراد الصبي أن يرقى إلى أهل الدرجات هل يمكن؟ فقال الجبائي: لا، يقال له إنّ المؤمن إنّما نال هذه الدرجة بالطاعة وليس لك مثلها.
فقال الأشعري: فإن قال – أي الصبي – التقصير ليس مني، فلو أحييتني كنت عملت من الطاعات كعمل المؤمن!
قال الجبائي: يقول له الله كنتُ أعلم أنك لو بقيت لعصيت ولعوقبت فراعيت مصلحتك وأمتك قبل أن تنتهي إلى سن التكليف.
فقال له الأشعري رضي الله عنه: فلو قال الكافر يا ربّ علمتَ حاله كما علمت حالي فهلا راعيت مصلحتي مثلَه!!! فانقطع الجنائي اهـ
لذلك قال عُلَماءُ أَهْلِ السُّنَّةِ: “الأَحْكامُ الشَّرْعِيّة لا يَسْتَقِلُّ العَقْلُ بِمَعْرِفَتِها“.
لا يوجد حُكُم شَرْعِيّ يُعْرَفُ بِالعَقْلِ وَحْدَهُ. الأَحْكامُ الشَّرْعِيّة مِنَ التَّحْليلِ وَالتَّحْريمِ، هذا حَلال، هذا حَرام، هذا واجِب، هذا مَنْدُوب، هذا مَكْرُوه، هذا مُباح – ما يَسْتَوِي فِيهِ الفِعْلُ والتَّرْك -، هذه الأَشْياء لا تُعْرَفُ بِالعَقْلِ وَحْدَهُ “لا يَسْتَقِلُّ العَقْلُ بِمَعْرِفَتِها“.
لماذا؟؟ لأَنَّ اللهَ لا يَجِبُ عَلَيْهِ شَىء، فَهُوَ يُحِلُّ ما يَشاء وَيُحَرِّمُ ما يَشاء. عُقُولُنا لَيسَت حاكِمَةً عَلَى اللهِ تباركَ وتعالى وَلا آراؤُنا حاكِمَةٌ عَلَى اللهِ تباركَ وتعالى، بَلِ اللهُ يُحِلُّ ما يَشاء وَيُحَرِّمُ ما يَشاء.
ءادَم عَلَيْهِ السلام، كانَ يَجُوزُ لِأَوْلادِهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ الذَّكَرُ مِنْهُم الأُنْثَى مِنْ بَطْنٍ ءاخَر، غَيرِ البَطن الذي وُلِدَ مِنْهُ. فِى شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصلاةُ والسّلام هذا حَرام.
سَيِّدُنا موسَى عليه السلام، قَوْمُهُ، اللهُ أَمَرَهُم أَنْ يَقْتُلَ أَحَدُهُمُ الآخَر! ﴿فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [سورة البقرة/ الآية 54] وَبَعْضُ الْمُفَسِّرين فَسَّرَها أَنْ يقْتُلَ الواحِدُ مِنْهُم نَفْسَهُ. هؤلاء الذينَ عَبَدُوا العِجْل، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى الإِسلام. وَفِى شَرْعِنا، التَّوْبَة لَيْسَت كَذلِك. ليسَتِ التَّوْبَة بِأَنْ يُقْتَل.
إِذًا أُمُورُ الشّرِيعَة، أُمُورُ المصالِح، لا تُعْرَفُ بالرَّأي إِنَّما تُعْرَفُ بِالتَّعَلُّم؛ يَتَعَلَّم الواحِد أَنَّ هذا حَلال وهذا حَرام، لذلِكَ قال أهل العلم: “إِذا إِنْسان قالَ الخَمْرُ حَلال فَهُوَ كافِر إِلّا إِذا كانَ نَحْوَ قَرِيبِ عَهْدٍ بِالإِسْلام” لِماذا؟؟ لأَنَّهُ لَمْ يَسْمَع بِحُرْمَةِ الخَمْر “إِلّا إِذا كانَ نَحْوَ قَريبِ عَهْدٍ بِإِسْلام” أَيْ وَلَم يَسْمَع أَنَّ المسْلِمِينَ فِى دِينِهِم الخَمْرُ حَرام. لِماذا؟؟ لأَنَّ هذا لا يُدْرَكُ بالعَقْل وَحْدَهُ. العَقْل يَدُلُّنا عَلَى صِدْقِ الرَّسُول، نَعَم! العَقْل يَدُلُّنا عَلَى صِدْقِهِ بِما جاءَ بِهِ. لكن ما هي الشَّرِيعَة التي جاءَ بِها؟؟ هذا يُعْرَفُ بالتَّعَلُّم. لا يَسْتَقِلُّ العَقْلُ بِمَعْرِفَتِهِ.
فأَهْلُ السنّة يَقُولون: لا يَجِبُ عَلَى اللهِ تعالَى شىء. كَيفَ يَجِبُ عَلَيْهِ شىء وَهُوَ الإِلٰه؟؟! لكن القَدَرِيّة يَقُولون يَجِبُ عَلَى الله أَنْ يَفْعَلَ للعِباد ما هُوَ أَصْلَح لَهُم. لَوْ شاءَ الله تعالى لَعَذَّبَ الطائِر، لَوْ شاءَ لَأَدْخَلَ العاصِي الجَنّة. لكِنَّهُ سبْحانَهُ حَكَمَ أَنَّ الكافِرَ يُدْخِلُهُ النار وَأَنَّ المؤمِنَ الطّائِعَ جَزاءُهُ الجَنَّة، فَلا تَتَبَدَّلُ مَشِيئَةُ الله لكِن هذا فَضْلٌ مِنْهُ عَزَّ وَجَلّ وليسَ واجِبًا عَلَيْهِ لأَنَّهُ لا يَجِبُ عَلَيْهِ شىء سبحانه، يَفْعَلُ ما يشاء وَيحكُمُ كما يُرِيد، وهذا معنى قوله تعالى: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [سورة الروم/ الآية 47]، أي وعدًا منه سبحانه، فهو لا يجب عليه شيء.
نسأَلُهُ عَزَّ وَجَلّ أَنْ يَرفَعَنا وَيَرْفَعَ بِنا وَأَنْ يُحْسِنَ خِتامنا بِجاهِ النبي صلى الله عليه وسلم.
وَالتُّقَى (أي التقوى الشاملة) وَالْعفافَ (قال الحافظ النووي: “أَمَّا الْعَفَافُ وَالْعِفَّةُ فَهُوَ التنزّه عمّا لا يباح وَالْكَفُّ عَنْهُ”. وقيل: التَّعَفُّفُ هُوَ التَّنَزُّهُ عَنِ السُّؤَالِ. وقيل: العفاف بِالْفَتْحِ أَيِ الْكَفَافَ، وَقِيلَ: الْعِفَّةُ عَنِ الْمَعَاصِي، يُقَالُ: عَفَّ عَنِ الْحَرَامِ يَعِفُّ عَفًّا وَعِفَّةً وَعَفَافًا أَيْ كَفَّ، كَذَا فِي الصِّحَاحِ، وَنُقِلَ عَنْ أَبِي الْفُتُوحِ النَّيْسَابُورِيِّ أَنَّهُ قَالَ: الْعَفَافُ إِصْلَاحُ النَّفْسِ وَالْقَلْبِ) والْغِنَى (قال النووي: “وَالْغِنَى هُنَا فِى هَذَا الْحَدِيثِ هُوَ غِنَى النَّفْسِ”. وقيل: أَيْ غِنَى الْقَلْبِ أَوِ الِاسْتِغْنَاءِ عَمَّا فِي أَيْدِ النَّاسِ.
وفي هذا الحديث الشريف شرف هذه الخصال، وفيه الخضوع واللجوء للكريم الوهاب في سائر الأحوال.
والنبي صلى الله عليه وسلم يسأل ربَّه الهدى أي على معنى الثبات على الهدى كما نقول في القرآن ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [سورة الفاتحة/ الآية 6] أي ثبّتنا على الصّراط المستقيم. فالنبي يذكر دعاءً أو ذكرًا معينًا أحيانًا ويراد منه التعليم لأمّته صلى الله عليه وسلم، وإلا فهو أهدى الناس وأتقى الناس وأعفّ الناس وأغناهم قلبًا صلى الله عليه وسلم).
والله تعالى أعلم وأحكم