الحج والعمرة

فَمَنْ فَعَلَ شيئاً مِنْ هذهِ المحرماتِ فعليهِ الإثمُ والفِدْيَةُ.

الشرح: أنَّ مَنْ فَعَلَ شيئاً من محرماتِ الإحرامِ الثمانيةِ التى ذكرناها فعليه الإثم وعليه الفدية إلا فى النظرِ بشهوة وعقدِ النكاح فلا فديةَ فيهِما كما سبق. والفديةُ شاةٌ أو التَّصُدُّقُ بثلاثةِ ءَاصُعٍ لستَةِ مساكين أو صومُ ثلاثَةِ أيام، فهو مُخَيـَّر بين هذه الأمور الثلاثة. أما فديةُ قتلِ الصيد فهى ما كان شبيهاً له من الأنعام الثلاثة كما مَرَّ. وهو مُخيَّـرٌ بين ذبحِهِ وتوزيعِهِ على الفقراء -أى فقراء الحرم-، أو أن يطعِمَهُم قمحاً بقيمَتِهِ، أو يصومَ عن كلِّ مدٍ يوماً، يُقَدِّر كم يكون قيمة هذا الطعام فيصومُ عن كلِّ مُدٍّ يوماً. يعنى إذا قتلَ المحرِمُ نعامةً مثلاً فإما أن يذبَحَ إبلاً ويوزِعَهُ على فقراءِ الحرَم، وإما أن يُقَدّر كم يساوِى هذا الإبل قمحاً أى كم تكون قيمته قمحاً فيوزعُ هذا القمحَ على الفقراءِ، أو إن شاء يصومُ بَدَلَ كل مد من أمداد القمح هذه يوماً، فلو كان قيمة هذا الجمل ألفا مُدٍ من القمح صام ألفَى يومٍ.

ويزيدُ الجماعُ بالإفسادِ ووجوبِ القضاءِ فوراً وإتمامِ الفاسِدِ. فمَنْ أفسدَ حجَّه بالجماعِ يمضِى فيه ولا يقطَعُهُ، ثم يقضِى فِى السَّنَةِ القَابِلَةِ.

الشرح: أنَّ من جامَعَ فِى الحجِ وهو مُحْرِمٌ قبلَ التَحَلُّلِ الأول فَسَدَ حَجُّهُ. ويجب عليه أن يُكْمِلَ هذا الفاسدَ أى أن يمضِى فيه مع أنه فَسَدَ، وأن يقضِىَ هذا الحج فوراً أى فى السَّنَةِ القابلة إن استطاع. ويجبُ عليه أن يَدْفَعَ كفارةً، والكفارةُ بَدَنَة -أى إبل-، فإن لم يجد فبقرة، وإلا فَسَبْعٌ من الغنم. أما إذا جامع بعد التحلُّلِ الأول وقبلَ التحللِ الثانِى فهنا لَم يَفْسُدْ حجُّهُ لكن عليه إثم ولزمَتْهُ الفدية. والفديةُ هى مثلُ فديَةِ مُقَدِمَاتِ الجماعِ، يعنى شاةً أو التصدُقَ بثلاثَةِ ءَاصُع على ستة مساكين أو صومَ ثلاثة أيام. والتحلُّلُ الأول يحصُلُ بفعل اثنينِ من ثلاثة: طوافِ الفرض، والحلقِ أو التقصيرِ، ورمىِ جَمْرَةِ العَقَبَة. فإذا فعل اثنين من هذه الثلاثة يكونُ تحلَّلَ التحلُّلَ الأول. فلو لَم يجد الذى أفسدَ حجَهُ بالجماع سبعَ شياه فإنه عند ذلك يُوَزِعُ طعاماً على فقراء الحرَم بقيمة البَدَنَة أى الإبل. فإن عَجَزَ صامَ بعَدَدِ الأمدادِ. وهذه الكفارةُ تَلْزَمُهُ كلما أفسدَ حجَّهُ بالجماع، يعنى لو أفسدَ حجَّهُ أولَ سَنَة بالجماع ثم فى السنةِ التالية ذهبَ ليَقْضِىَ فأفسد حجه بالجماع صار عليه كفارة ثانية، ثم فى السنة الثالثة إذا ذهب ليقضِىَ فأفسد حجه بالجماع صار فى ذمته كفارة ثالثة وهكذا، فلو تكرر هذا منه عشرَ مرات كان عليه عشرُ كفارات وقضاءٌ واحد.

ما يجب على المحرم:

يجب على المحرم ما يلي

ويجبُ:

(1) أنْ يُحرِمَ مِنَ المِيقَاتِ. والميقاتُ هو الموضعُ الذِى عَيَّنَهُ رسولُ اللهِ r لِيُحْرَمَ منه، كالأرضِ التِى تُسَمَّى ذا الـحُلَيفَةِ لأهلِ المدينةِ ومَنْ يَمُرُّ بطريقِهِم.

الشرح: أن المؤلف رحمه الله ونفعنا به شرَعَ فى ذكرِ واجباتِ الحج وهى ما ينجَبِرُ بالدم إذا تُرِكَ، ولا يُفْسِدُ تركُهُ الحجَّ وإن كان فيه إثم. فمن واجباتِ الحَجِّ أنْ يُحْرِمَ من الميقات يعنى أن لا يتجاوزَ الميقات من غير إحرام. والمواقيت أماكن عيَّنَهَا رسولُ اللهِ r حتى لا يتجاوَزَهَا مُريدُ الحجِ من غيرِ إحرام. فميقاتُ أهلِ المدينةِ ومَن يَمُرُّ بطريقِ المدينة إلى مكة هو: ذُو الحُلَيفَة، ويقال له اليوم: ءابار علىّ، وميقاتُ أهلِ الشام ومِصر والمغرب ومن يمر بطريقهم: الجُحْفَة أو رابغ، وميقاتُ أهلِ اليمن ومن يمرُّ بطريقهم يَلَمْلَم، وميقاتُ أهلِ العراق ومن يمرُّ بطريقهم: ذاتُ عِرْق، وميقاتُ أهلِ نجد ومَن يمرُّ بطريقهم: قَرْن الثعالب. فمَن جاوزَ إحدى المواقيت مُتوجهاً إلى مكة بقصدِ النُسُك ثم أحرم من بعد الميقات لَزِمَهُ الدَّمُ.

(2) وفىِ الحجِّ مَبيتُ مُزْدَلِفَةَ على قولٍ.

الشرح: أنه يجبُ أنْ يكونَ الحاجُّ فى مزدلفة ولو للحظة بعد منتصَفِ ليلة العيد، يعنى الليلة التى تسبق يوم العيد، سواءٌ كان فى مزدلفة قائماً أو قاعداً أو نائماً. وهذا قولٌ فى المذهب، والقول الثانى: أنه سُنَّة ليس واجباً. فعلَى القول الثانى من تركَه فليس عليه إثم ولا فدية.

(3) ومِنًى على قولٍ ولا يجبَانِ على قولٍ.

الشرح: أنه يجبُ المبيتُ فى مِنَى أغلَبَ الليل، أى فى ليالِى أيامِ التشريق، أى يبيت هناك الليلةَ الأولى والليلةَ الثانية إذا نَفَرَ من مِنًى قبل غروب شمس اليوم الثانى من أيام التشريق وإلا يَـبيتُ ليلةً ثالثة حتى يرمِىَ فى اليوم الثالث. وهذا المبيت أيضاً هو سُـنَّة على قولٍ للإمام الشافعىّ، وعليه فمن ترَكَه فليس ءاثماً ولا عليه فدية.

(4) ورمىُ جَمْرَةِ العَقَبَةِ يومَ النحرِ.

الشرح: أن من واجبات الحج رَمىَ جمرةِ العقبة يومَ العيد بسبْعِ حَصَياتٍ. وجمرَةُ العقبة هى الأقربُ إلى مكة من بين الجمرات الثلاث. ويدخل وقت الرمى بمنتصف ليلِ العيد، ويستمرُ إلى ءاخر أيام التشريق.

(5) ورمىُ الجَمَراتِ الثلاثِ أيامَ التشريقِ.

الشرح: أن الحاج يرمِى ثلاثَ جَمَرَاتٍ فى كلِّ يومٍ من أيام التشريق، يَرمِى كلَّ جمرةٍ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ. فواحدةٌ من الجمرات تَلِى مسجدَ الخَيْف، وواحدة تلى مكة كما ذكرنا وهى جمرة العقبة والوسطى بينهما. ولا بد أن يرمِىَ الشخصُ بنفسِهِ إلا لعذر، وأن يرمِىَ الحصَياتِ مُتَفَرّقَاتٍ. فلو رمى الحصيات معاً دفعة واحدة حُسِبَت جميعها حصاةً واحدة.

(6) وطوافُ الوداعِ على قولٍ فى المذهبِ.

الشرح: أنه بعد أن ينفرَ الحاجُّ من مِنًى (إمّا فى اليوم الثانى من أيام التشريق قبلَ غروبِ الشمس أو إذا غربت عليه الشمس وهو فى منى ففى اليوم الثالث بعد الرمى)، يجب عليه أن يطوف بالكعبة إذا كان يريدُ الرجوعَ إلى وطنه أو إذا أراد أن يقصِد مسافةَ قصرٍ أى يجب عليه أن يطوفَ سَبْعَ مراتٍ بالكعبة. وعلى قولٍ هذا الطوافُ سُنَّةٌ وليس واجباً.

فَتَلَخَصَ من ذلك أن هناك أموراً سِتَّةً هى واجبة فى الحج، من تركَ واحداً منها لم يَفْسُدْ حجُّهُ، لكن عليه دم، كما قال المؤلف رحمه الله:

وهذه الأمورُ الستَّةُ منْ لَم يأتِ بها لا يفسُدُ حجُّهُ إنما يكونُ عليهِ إثمٌ وفديةٌ، بخلافِ الأركانِ التِى مَرَّ ذِكرُهَا فإن الحجَّ لا يَحْصُلُ بدونِهَا، ومَنْ تَرَكَهَا لا يَجْبُرُهُ دَمٌ أَى ذبحُ شَاةٍ.

الشرح: أنّ من ترك واجباً من واجبات الحج فعليه فدية، وهى: ذبح شاة، فإن عجز صام عشرة أيام، ثلاثة فى الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله.

الصيد للمحرم:

ويحرُمُ صيدُ الحَرَميْنِ ونباتُهُما على مُحْرِمٍ وَحَلالٍ. وتَزيدُ مكةُ بوجوبِ الفديةِ. فلا فديةَ فى صيدِ حَرَمِ المدينةِ وقَطعِ نباتِهَا. وحَرَمُ المدينَةِ ما بَينَ جَبَلِ عَيْرٍ وَجَبَلِ ثَوْرٍ.

الشرح: أن مِنْ أحكامِ الحرَمَيْنِ الخاصةِ بهما أنه لا يجوزُ قطعُ نباتِهِمَا، أى لا يجوز قطعُ الشجرِ فيهما ولا قلعُهُ. ولا يجوزُ صيدُ ما فيهما من الصيد، فمن اصطاد فى حرم المدينةِ فعَلَيهِ إثمٌ لكن بلا فدية. وكذا من قَلَعَ نباتَ المدينَةِ أو وادى وَجٍّ فى الطائفِ لما رُوِىَ عن رسولَ اللهِ r فى ذلك. وأما من اصطادَ صيدَ مكة أو قَلَعَ نباتَ مكة فعليه الإثم وعليه الفديةُ أيضاً. وفديةُ الصيد هى ذبحُ واحدٍ من الأنعام الثلاثة الأشبه بالحيوان الذى اصطادَهُ، يذبَحُهُ فِى أرضِ الحرَمِ ويوزعُه لمساكينِ الحرم. وأما قطعُ الشجرةِ التى فى الحرم فإذا كانت كبيرة ففيها بَدَنَة، وإن كانت صغيرةً حَجْمُهَا يُقاربُ سُبُعَ الكبيرة ففيها شاة، فإن كانت أصغر من ذلك ففيها القيمة.

ويحسُنُ أن نختِمَ الكلامَ على الحجِ بذكر سُنّـِيَّـةِ زيارةِ قبرِ رسول الله  ، فإنها سُنَّـةٌ بالإجماع، بل قال بعضُ العلماءِ: هى واجبة. وروى الدارَقطنىُّ أن رسولَ اللهِ r قال: “مَنْ زارَ قَبْرِى وَجَبَت لَه شفاعَتِى”، وهو حديث حَسَنٌ لِغَيْرِهِ. وما ذَكَرَهُ ابنُ تيمية مِنْ أنَّه يَحْرُمُ إنشاءُ السفر لأجل زيارة القبر فلا عبرة به بل هو مخالفٌ لشرعِ اللهِ عزَّ وجلّ، فإنه أساءَ تفسيرَ حديثِ رسولِ اللهِ  : “لا تُشَدُّ الرّحَالُ إلا إلى ثلاثَةِ مَسَاجِدَ”، فقال إنه يَحْرُمُ أن يُنْشِئَ الإنسانُ السَفَرَ لزيارَةِ قبرِ رسولِ الله r فَخَرَقَ الإجماع بذلك. وإنما معنى الحديثِ أنه لا ينبغى أن يُنشِئَ الإنسانُ سفراً إلى مسجدٍ لأجلٍ أن يُصَلّـِىَ فيه إلا إذا كان أحدَ هذه المساجدِ الثلاثة، وذلكَ لأنَّ الصلاةَ لا يُضاعَفُ ثوابُهَا إلا فى هذه المساجد الثلاثة. والذى يزيد الأمرَ وضوحاً الروايةُ الأخرى التى رواها أحمدُ عن رسولِ اللهِ: لا ينبغِى للمَطِىّ أن تُعْمَلَ لمسجدٍ تُبتَغَى الصلاةُ فيه إلا أن يكونَ أحدَ هذه المساجدَ الثلاثة، فهذه الرواية صريحةٌ فى المراد فلا التفات بعد ذلك لشذوذ ابن تيمية ومن تبعه فى بدعته.

 

شاهد أيضاً

التسوية بين الزوجات

ننتقل الآن للكلام على القَسْم بين الزوجات. والتسويةُ فى القسم بالنسبة للمبيت واجبةٌ بين الزوجات. …