الأنوار السنّية في مقالات علماء الأمة المحمّدية

مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي قيض للإسلام أفذاذًا من الرجال يذودون عن حياضه كل مبتدع دجال، ويمتثلون أمر الله عز وجل أحسن امتثال، لهم البشرى في الحياة الدنيا ولهم العقبى وحسن المآل، والصلاة والسلام على سيدنا محمد صاحب الإكرام والإجلال وعلى من اتبعه بإحسان من صحب وءال والتابعين لهم في الحال والمقال والأفعال.
قال الله تعالى: ﴿من المؤمنين رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلاً﴾ [سورة الأحزاب/23].
فإنه يسعدنا أن نضع بين يدي القارئ هذه الرسالة التي تحوي فوائد قررها ثلّة من أعلام الإيلام من الذين كان لهم الفضل في نشر هذا الدين الحنيف وقد انتقينا من مؤلفاتهم مقالات قرروها في مواضيع عدة، وذلك إظهارًا للحق الذي كانوا عليه.
فنسأل الله تعالى أن يعيننا على نشر الخيرات وأن يجعل في هذه الرسالة النفع العميم.

المقالات اللبنانية في تنزيه الله عن المكان والجهة والكمية

الشيخ محمد بن إبراهيم الحسيني [المتوفى سنة 1372هـ] تلقى علومه الأولية في بعض مدارس طرابلس ثم سافر إلى الأزهر وأتم دراسته هناك ثم عاد إلى طرابلس واشتغل بالتدريس وتولى وظيفة ختم البخاري في جامع طينال، تلقى علومه من مفتي طرابلس الشيخ عبد الغني الرافعي والشيخ محمود منقارة، يقول في تفسيره في ص/101 في تفسير قوله تعالى: ﴿وإذا قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقةُ وأنتم تنظرون﴾ [سورة البقرة/56] ما نصه:
ظنوا أنه سبحانه وتعالى مما يشبه الاجسام ويتعلق به الرؤيا تعلقها بها –أي الأجسام- على طريق المقابلة في الجهات والأحياز، ولا ريب في استحالته، وإنما الممكن في شأنه تعالى الرؤيةُ منزهًا عن الكيفيات بالكلية وذلك للمؤمنين في الآخرة.

الشيخ مصطفى وهيب بن إبراهيم البارودي [المتوفى سنة 1373هـ] تولى الإمامة والتدريس في المدرسة القرطاوية في طرابلس زهاء أربعين عامًا، تلقى علومه من الشيخ محمد الحسيني والشيخ محمود نشابة وغيرهم كثير.
وقال في كتابه الفوز الأبدي في الهدي المحمدي ص/73 ما نصه:
إن الله تعالى منزه الذات عن الاختصاص بالأمكنة والجهات، وهذا أصلٌ من أصول العقائد الإيمانية لأنه لو احتاج إلى المكان لكان حادثًا وقد قام الدليل على وجوبِ القدم –له- واستحالةِ العدم –عليه-، ولأن هذه الجهات هو اذلي خلقها وأحدثها اهـ.

قال العلامة الشيخ عبد الله الهرري حفظه الله تعالى:
الحمد لله، جمهور الامة المحمدية مئاتُ الملايين، علماؤهم في الشرق والغرب يعتقدون ويُدرسون أن الله تبارك وتعالى موجودٌ منزهٌ عن الحد والمكان اهـ.

المقالات اللبنانية في التحذير من الردة والألفاظ الكفرية

العلامة الشيخ عبد الباسط الفاخوري البيروتي [المتوفى سنة 1323هـ] قال في كتابه الكفاية لذوي العناية:
الردةُ وهي قطع مُكلف مختار الإسلام ولو امرأة بنية [أي اعتقاد] كُفرٍ أو فعلٍ مُكفّر أو قول مكفّر سواء قاله استهزاء أو اعتقادًا أو عنادًا.
فمن أنواعها: أن يعزم الإنسانُ على الكفر أو يعلقهُ على شئ كأن يعزم بقلبه أو يقول بلسانه إنه بعد سنة يكونُ كافرًا مثلاً، أو اعتقد قِدم هذا العالم [أي اعتقد أن العالم ليس مخلوقًا] أو نفى ما هو ثابتٌ لله تعالى بالإجماع المعلوم من الدين بالضرورة كإنكار علمه وقدرته تعالى أو شك في نبوة نبي مجمع عليها، أو عاب نبيًا أو ملكًا من الملائكة بشئ. أو قال لمسلم: يا كافر أو سخر بأوامر الله تعالى ونواهيه ووعده، أو قال لو أمرني الله بكذا لم أفعله، أو لو أعطاني الجنة ما دخلتُها استخفافًا، أو قال: لو ءاخذني بترك الصلاة مثلاً مع ما بي من المرض أو الشدة فقد ظلمني، أو قال: اليهود خيرٌ من المسلمين. فيكفر ويرتد بواحدة من هذه المذكورات.
حكم المرتد: أنه يبطل نكاحه حالاً إن كانت الردة قبل الدخول بزوجته فإن كانت بعد الدخول يبطل نكاحه بعد انقطاع العدة إن لم يسلم فيها، وتحرم ذبيحته، ولا يصح نكاحه، ولا يرث ولا يورث ويحبط علمه، ويخلد في النار إن مات على ذلك، ولا يُغسل ولا سصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين.
وتجبُ استتابته في الحال فإن تاب وأسلم بأن نطق بالشهادتين وأقر بما أنكره وتبرأ مما اعتقده أو تلفظ به قُبل منه.

العلامة الشيخ مصطفى وهيب البارودي الطرابلسي [المتوفى سنة 1373هـ] قال في كتابه واجب الاهتمام فيما وصى به الإسلام:
ومما وصى الإسلامُ باجتنابه وحذر منه كل ما يفسده ويقطعه وهو الردة والعياذ بالله تعالى وهي ثلاثة أقسام اعتقادات وأفعال وأقوال، وكل قسم منها يتشعب منه شعبٌ كثيرة:
فمن الأول: الشك في الله أو في رسوله أو القرءان أو اليوم الآخر أو الجنة أو النار أو الثواب أو العقاب أو نحو ذلك مما هو مجمعٌ عليه، أو نفي مشروعية مجمع عليه كذلك، أو رسالة أحد من الرسل أو نبوته او نبيًا من الأنبياء المجمع عليهم، أو أنكر حرفًا مجمعًا عليه من القرءان أو زاد حرفًا مجمعًا على نفيه معتقدًا أنه منه، أو كذب رسولاً أو نبيًا أو نقصه أو صغر اسمه [أي بقصد تحقيره]، أو جوز نبوة أحد بعد نبينا صلى الله عليه وسلم، أو أنكر صحبة أبي بكر رضي الله عنه.
والقسم الثاني الأفعال: وهي كل فعل أجمع المسلمون على أنه لا يصدر إلا من كافر وذلك كسجود لصنم.
والقسم الثالث الأقوال وهي كثيرة جدًا منها: كالسخرية باسم من أسمائه تعالى أو أسماء انبيائه أو وعده أو وعيده وهو ممن لا يخفى عليه ذلك، أو قال: أنا بريء من الله أو رسوله أو من القرءان أو الشريعة أو دين الإسلام إن كان كذا، أو قال: أكون قوّادًا إن صليت أو الصلاة لا تصلح لي استخفافًا أو استحلالاً.
وعلى من وقع ومنه شئٌ من ذلك العودُ فورًا إلى الإسلام بالنطق بالشهادتين والإقلاع عما وقع منه ويجب عليه الندم على صدوره والعزمُ أن لا يعود لمثله.

الشيخ عبد الرحمن الحوت البيروتي [المتوفى سنة 1334هـ] قال في كتابه إرشاد العوام ما نصه: الردة والعياذ بالله تعالى هي قطعُ الإسلام من البالغ العاقل.
ومن الأشياء المكفرة: الرضا بالكفر ولو ضمنا كأن يسأله كافرٌ يريدُ الإٍسلام أن يُلقنه كلمة الشهادة فلم يفعل أو يقول له اصبر حتى أفرغ من شُغلي أو غير ذلك.
ومن الأشياء المكفرة: لو سخر باسم من أسماء الله أو بأمره أو وعده أو وعيده.
ومن الاشياء المكفرة: السخرية بالشريعة أو حُكم من أحكامها.
ومن الأشياء المكفرة: شتمُ ملك الموت وهذا يُبتلى به أصحاب المصائب عند الموت نسأل الله العافية وكذلك شتم غيره من الملائكة أو الأنبياء.
ومن الأشياء المكفرة: شتمُ الدين الإسلامي أو سب الدين الواقع الآن بين المتهاونين في الدين التاركين لتعظيم الله بشتمهم لما شرعه الله لأنّ الدين هو ما شرع الله من الأحكام، فالسابُّ للدين سابٌّ لله تعالى لأنه تعالى هو الشارعُ للدين وساب للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه هو المبلغُ للدين.
يترتبُ على هذه الكلمات الخروجُ عن الملة الإسلامية والخلود في النار إذا لم يرجع إلى الإسلام بالنطق بالشهادتين.

قال العلامة الشيخ عبد الله الهرري حفظه الله تعالى:
وأما مسألة بيان المكفرات في الألفاظ الكفرية، نحن لا نحمل مذهبًا جديدًا إنما اتبعنا في ذلك أئمة من المذاهب الأربعة كما يقول الحافظ مرتضى الزبيدي في شرح إحياء علوم الدين فقد ألف أئمة من المذاهب الأربعة في بيان الألفاظ الكفرية اهـ.

منتخبات من تراث علماء سوريا

نزيل الشام ومؤرخها الجليل المحدث ابن عساكر الدمشقي [المتوفى سنة 571هـ] قال في كتابه تبيين كذب المفتري ما نصه:
الحمد لله الذي *** يرجو الخلائقُ منه فضله
خلق السماء كما يشاء بلا دعائم مستقله
لا للتحيز كي تكون لذاته جهة مقلة
صمدٌ تنزه أن تقوم به الحوادث أو تحله

محدث الديار الشامية الأكبر الشيخ بدر الدين الحسني [المتوفى سنة 1354هـ] وقد شرح العقيدة الشيبانية التي جاء فيها:
سأحمد ربي طاعة وتعبدا *** وأنظم عقدًا في العقيدة أوحدا
فلا جهة تحوي الإله ولا له *** مكانٌ تعالى عنهما وتمجدا
إذ الكون مخلوق وربي خالق *** لقد كان قبل الكون وسيدا
وليس كمثل الله شئ ولا له *** شبيه تعالى ربنا أن يحددا

مفتى سوريا الأسبق الشيخ محمد أبو اليسر عابدين [المتوفى سنة 1401هـ] قال في كتابه الإيجاز في ءايات الإعجاز ما نصه: اعلم أنه تقرر في دين الإسلام أن الله تعالى لا مكان له ولا زمان، وهو رب الزمان والمكان، وإنما الأمكنة التي تضاف إليه تعالى إنما تضاف للتشريف لأنه شرفها فيقال بيت الله.

الشيخ عبد الكريم الرفاعي الدمشقي [المتوفى سنة 1393هـ] أحد خواص تلاميذ المحدث الشيخ بدر الدين الحسني
قال في كتابه المعرفة في بيان عقيدة المسلم ما نصه: ويستحيل على الله المماثلة للحوادث والتقيد في الزمان والمكان وأن يكون في جهة، أو أن تكون له جهة.

فوائد نافعة من أرض الحجاز

السيد علوي المالكي [المتوفى سنة 1391هـ] المدرس في المسجد الحرام
قال في مجموع فتاويه ورسائله ما نصه: يحتوي المولد على ثلاثة أشياء:
أولاً: أنه يحتوي على ذكر اسمه عليه الصلاة والسلام ونسبه وكيفية ولادته وما وقع من الآيات وكيفية نشأته وما وقع له من الرحلة للتجارة والإرهاصات الغريبة والأحوال العجيبة وذكر مبدأ بعثته وما لاقاه من الأذى والمحنة في سبيل نشر الدعوة وتبليغ القرءان وذكر هجرته وما وقع له من الغزوات والمواقف والأحوال وذكر وفاته وهل يشك الناظر في ذلك أن سيرة سيد الخلق وسيلة لكمال محبته وواسطة لتمام معرفته.
الثاني: أن المولد سبب للصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم المطلوب منا بقوله تعالى: {يا أيها الذين ءامنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا} وكم للصلاة عليه من فوائد.
الثالث: أنه يحتوي على ذكر أخلاقه الشريفة وسنته الجليلة وءادابه التي أدّبه بها ربه تبارك وتعالى وفي ذلك حث على متابعته وحض على اقتفاء ءاثاره والسير على منهجه والتأسي بآدابه هذا وقد اكتسب العلماء الدعاة إلى الله تعالى في البلاد الحضرمية فرصة اجتماع العامة في مجلس المولد الشريف فقاموا بمذاكرتهم وجعلوا ذلك وسيلة لإرشادهم وفي ذلك نفع عميم وإرشاد للصراط المستقيم.

المحدث الشيخ محمد عربي التباني المالكي [المتوفى سنة 1390هـ] المدرس بمدرسة الفلاح وبالمسجد المكي
قال في كتابه براءة الأشعريين ما نصه: اتفق العقلاء من أهل السنة الشافعية والحنفية والمالكية وفضلاء الحنابلة وغيرهم على أن الله تبارك وتعالى منزه عن الجهة والجسمية والحد والمكان ومشابهة مخلوقاته.

السيد أحمد بن زيني دحلان مفتي مكة [المتوفى سنة 1304هـ] قال في كتابه الفتوحات الإسلامية ما نصه: إن النداء والتوسل ليس في شئ منهما ضرر إلا إذا اعتقد التأثير الحقيقي لمن ناداه أو توسل به، ومتى كان معتقدًا أن التأثير لله لا لغير الله فلا ضرر في ذلك.

منتخبات من تراث علماء مصر

الشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني [المتوفى سنة 1367هـ] قال في كتابه مناهل العرفان في علوم القرءان الذي قرره مجلس الأزهر الاعلى في دراسة تخصص الكليات الأزهرية ما نصه: أما نحن –معاشر المسلمين- فالعمدة عندنا في أمور العقائد هي الأدلة القطعية، التي توافرت على أنه تعالى ليس جسمًا ولا متحيزًا ولا متجزئًا ولا متركبًا، ولا محتاجًا لأحد ولا إلى مكان ولا إلى زمان ولا نحو ذلك. وقد جاء في القرءان بهذا في محكماته.

الشيخ سليم البشري [المتوفى سنة 1335هـ] شيخ الجامع الأزهر
قال ما نصه: اعلم –أيدك الله بتوفيقه وسلك بنا وبك سواء طريقه- أن مذهب الفرقة الناجية وما عليه أجمع السنيون أن الله منزه عن مشابهة الحوادث، مخالف لها في جميع سمات الحدوث، ومن ذلك تنزهه عن الجهة والمكان كما دلت على ذلك البراهين القطعية.

الشيخ يوسف الدجوي [المتوفى سنة 1365هـ] عضو هيئة كبار علماء الأزهر
قال في مجلة الأزهر التي تصدرها مشيخة الأزهر بمصر في تفسير قوله الله تبارك وتعالى: ﴿سبح اسم ربك الأعلى﴾ ما نصه: والأعلى صفة الرب، والمراد بالعلو العلوُّ بالقهر والاقتدار لا بالمكان والجهة، لتنزهه عن ذلك.

الشيخ محمود بن محمد خطاب السبكي [المتوفى سنة 1352هـ] وهو مؤسس الجمعية الشرعية بمصر
قال في كتابه اتحاف الكائنات ما نصه: وأما مذهب السلف والخلف بالنسبة للآيات المتشابهة فقد اتفق الكل على أن الله تعالى منزه عن صفات الحوادث. فليس له عز وجل مكان في العرش ولا في السماء ولا في غيرهما. ولا يتصف بالحلول في شئ من الحوادث ولا بالاتصال بشئ منها، ولا بالتحول والانتقال ونحوهما من صفات الحوادث.

منتخبات من تراث علماء تونس والمغرب

الشيخ محمد الخضر حسين التونسي [المتوفى سنة 1378هـ] شيخ الجامع الأزهر سابقًا
جاء في مجلة الهداية الإسلامية [ج12 م4] والتي كان الشيخ يديرها ما نصه: إن الجسمية تستدعي المحل والمكان، وقد ثبت أن ذلك محال على الله.

محدث الديار المغربية الشيخ عبد الله بن محمد الصديق الغماري [المتوفى سنة 1413هـ] قال في كتابه قصص الأنبياء ما نصه: كان الله ولم يكن شئ غيره فلم يكن زمان ولا مكان ولا قطر ولا أوان. ولا عرش ولا ملك، ولا كوكب ولا فلك ثم أوجد العالم من غير احتياج إليه.

الشيخ محمد الطاهر بن عاشور المالكي [المتوفى سنة 1393هـ] شيخ جامع الزيتونة وفروعه بتونس
قال في تفسيره التحرير والتنوير ما نصه: قوله تعالى: ﴿مَن في السماء﴾ في الموضعين من قبيل المتشابه الذي يعطي ظاهره معنى الحلول في مكان، وذلك لا يليق بالله.

الحافظ المحدث الشيخ أحمد بن محمد بن الصديق الغماري المغربي [المتوفى سنة 1380هـ] قال في كتابه المنح المطلوبة ما نصه: فإن قيل إذا طان الحق سبحانه ليس في جهة فما معنى رفع اليدين بالدعاء نحو السماء؟ فالجواب: أنه محل التعبد، كاستقبال القبلة في الصلاة، وإلصاق الجبهة في الأرض في السجود، مع تنزهه سبحانه عن محل البيت ومحل السجود، فكأن السماء قبلة للدعاء.

بلوغ السعادة بالتمسك بعقيدة الفاتحين والقادة

السلطان صلاح الدين الأيوبي [المتوفى سنة 589هـ] السلطان محمد الثاني الفاتح [المتوفى سنة 886هـ]

* كان السلطان صلاح الدين الأيوبي رحمه الله وجزاه عن المسلمين خيرًا، عالمًا من علماء أهل السنة يحفظ كتاب التنبيه في الفقه الشافعي وكتاب الحماسة وكان حافظًا للقرءان الكريم وقد اهتم رحمه الله بنشر عقيدة الأشاعرة، عقيدة توحيد الله وتنزيهه عن مشابهة خلقه.
يقول السيوطي: فلما ولي صلاح الدين بن أيوب أمرَ المؤذنين في وقت التسبيح أن يعلنوا بذكر العقيدة الأشعرية فواظب المؤذنون على ذكرها كل ليلة.
وقد قام الشيخ الفقيه النحوي محمد بن هبة الله بتأليف رسالة في بيان عقيدة أهل الحق أسماها حدائق الفصول وجواهر الأصول وأهداها للسلطان فأقبل عليها وأمر بتعليمها حتى للصبيان في المكاتب وصارت تعرف فيما بعد بالعقيدة الصلاحية ومما جاء فيها:
وصانع العالم لا يحويه *** قُطر تعالى الله عن تشبيه
قد كان موجودًا بلا مكانا *** وحكمه الآن على ما كانا
سبحانه جلّ عن المكان *** وعز عن تغير الزمان
فقد غلا وزاد في الغلو *** مَن خَصَّهُ بجهة العلو

* ومن الماتريدية السلطان محمد الفاتح الذي كان ينزه الله تبارك وتعالى عن المكان والجهة والكيفية ويعتقد جواز زيارة قبور الأنبياء والصالحين والتبرك بآثارهم والتوسل إلى الله بذواتهم الفاضلى، شأنه في ذلك شأن الكثيرين من الملوك والأمراء. وقد مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا السلطان حين قال: “لتُفتَحَن القسطنطينية ولنعم الأميرُ أميرها ولنعمَ الجيشُ ذلك الجيش” رواه الحاكم.
وفتحت القسطنطينية على يد السلطان محمد الفاتح، وما امتداح النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه لفاتح القسطنطينية ولجيشه إلا بشرى عظيمة للأشاعرة والماتريدية الذين كان الفاتح منهم ويعتقد معتقدهم.

العقيدة المرشدة

بسم الله الرحمن الرحيم
هذا متن العقيدة المرشدة التي أقرأها الشيخ فخر الدين بن عساكر:
اعلم أرشدنا الله وإياكَ أنه يجبُ على كل مكلف أن يعلمَ أن الله عز وجل واحدٌ في ملكه، خلقَ الهالم بأسرهِ العلويَّ والسفليَّ والعرشَ والكرسيَّ، والسمواتِ والأرضَ وما فيهما وما بينهما، جميعُ الخلائقِ مقهورون بقدرته، لا تتحرك ذرةٌ إلا بإذنه، ليسَ معه مُدبِّرٌ في الخلق ولا شريكٌ في الملك، حيٌّ قيومٌ لا تأخذهُ سنةٌ ولا نوم، عالمُ الغيبِ والشهادة، لا يخفى عليه شئٌ في الأرض ولا في السماء، يعلمُ ما في البر والبحر وما تسقط من ورقةٍ إلا يعلمُها ولا حبةٍ في ظلماتِ الأرض ولا رطبٍ ولا يابسٍ إلا في كتابٍ مبين، أحاط بكلِّ شئٍ علمًا وأحصى كلَّ شئٍ عددًا، فعالٌ لِما يُريد، قادرٌ على ما يشاء، له الملكُ وله الغنى وله العزُّ والبقاء، وله الحكمُ والقضاءُ، ولهُ الأسماءُ الحسنى، لا دافعَ لما قضى، ولا مانعَ لما أعطى، يفعلُ في ملكه ما يريدُ، ويحكمُ في خلقهِ بما يشاءُ، لا يرجو ثوابًا ولا يخلفُ عِقابًا، ليسَ عليه حقٌّ –يلزمه- ولا عليه حكمٌ، وكلُّ نعمةٍ منهُ فضلٌ وكل نقمةٍ منه عدل، لا يُسأل عما يفعلُ وهم يُسألون. موجودٌ قبل الخلقِ، ليسَ له قبلٌ ولا بعدٌ، ولا فوقٌ ولا تحت، ولا يمينٌ ولا شمالٌ، ولا أمامٌ ولا خلفٌ، ولا كلٌّ ولا بعضٌ، ولا يقالُ متى كان ولا أينَ كان ولا كيف، كانَ ولا مكان، كوَّنَ الأكوان، ودبر الأزمان، لا يتقيد بالزمان ولا يتخصص بالمكان، ولا يشغلُهُ شأنٌ عن شأن، ولا يلحقُهُ وهمٌ، ولا يكتنفهُ عقلٌ، ولا يتخصص بالذهن، ولا يتمثل في النفس، ولا يتصور في الوهمِ، ولا يتكيَّفُ في العقل، لا تلحقهُ الاوهام والأفكارُ، ﴿ليسَ كمثله شئ وهو السميع البصير﴾ اهـ.
قال الحافظ صلاح الدين العلائي رحمه الله المتوفى سنة 761هـ: وهذه العقيدة المرشدة جرى قائلها على المنهاج القويم، والعقد المستقيم وأصاب فيما نَزَّه به العلي العظيم اهـ، نقل ذلك الإمام تاج الدين السبكي في طبقاته ووافقه في تسميتها بالعقيدة المرشدة وساقها بكاملها، وقال في ءاخرها ما نصه: هذا ءاخر العقيدة وليس فيها ما ينكره سُني اهـ.

منتخبات من تراث علماء الأمة في تحقيق معنى البدعة

المحدث الشيخ عبد الله الغماري المغربي [المتوفى سنة 1413هـ] قال في كتابه إتقان الصنعة في تحقيق معنى البدعة ما نصه: قال الحافظ ابن حجر في الفتح: البدعة أصلها ما أُحدث على غير مثال سابق،
وتطلق في الشرع في مقابل السنة فتكون مذمومة، والتحقيق أنها إن كانت تندرج تحت مستحسن في الشرع فهي حسنة، وإن كانت تندرج تحت مستقبح في الشرع فهي مستقبحة.

العلامة المحدث محمد زاهد الكوثري التركي [المتوفى سنة 1371هـ] قال في مقالاته ما نصه: حُسن البدعة يكون باندراجها تحت تشريع عام يستحسنها، وقبح البدعة بمضادتها لسنّة حسّنها الشرع أو باندراجها تحت حكم قبحه الشرع، وهذا ما عليه جمهور أهل الفقه في الدين على اختلاف مذاهبهم.

الشيخ محمود ياسين الدمشقي [المتوفى سنة 1367هـ] قال في مقال له في مجلة الهداية الإسلامية ما نصه: قال الإمام شهاب الدين أبي شامة في كتابه الباعث على إنكار البدع والحوادث: فالبدع الحسنة متفق على جواز فعلها، والاستحباب لها ورجاء الثواب لمن حسنت نيته فيها، وهي كل مبتدع موافق لقواعد الشريعة غير مخالف لها ولا يلزم من فعله محذور، ومن أحسن ما ابتدع في زماننا ما كان يفعل بمدينة إربل كل عام في اليوم الموافق ليوم مولد النبي صلى الله عليه وسلم من الصدقات والمعروف وإظهار الزينة والسرور.

الشيخ محمد الخضر حسين [المتوفى سنة 1378هـ] شيخ الجامع الأزهر سابقًا
قال في مجلة الهداية الإسلامية [ج11 م2] ما نصه: أما احتفالنا بذكرى مولده فإنّا لم نفعل غير ما فعله حسّان بن ثابت رضي الله عنه حين كان يجلس إليه الناسُ ويُسمعهم مديح رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعر، ولم نفعل غير ما فعل علي بن أبي طالب أو البراء بن عازب أو أنس بن مالك رضي الله عنهم حين يتحدثون عن محاسن رسول الله الخُلقية والخَلقية في جماعة.

الشيخ عبد المجيد المغربي الطرابلسي [المتوفى سنة 1352هـ] قال في كتابه المنهاج في المعراج ما نصه: اعتاد الناس الاحتفال لاستماع قصة مولده الشريف عليه الصلاة والسلام ولنعمت الذكرى بمولد النبي العظيم الذي أخرج الله الخلقَ بهديه من الظلمات إلى النور.

المحدث الشيخ محمد العربي التباني المالكي [المتوفى سنة 1390هـ] المدرس بمدرسة الفلاح والمسجد المكي
قال في كتابه براءة الأشعريين ما نصه: عمل المولد وإن حدث بعد السلف الصالح ليس فيه مخالفة لكتاب الله ولا لسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا لإجماع المسلمين، فلا يقول من له مسكة من عقل ودين بأنه مذموم.

التوسل إلى الله بالصالحين وبذات سيد المرسلين

المحدث الشيخ عبد الله الغماري [المتوفى سنة 1413هـ] قال في رده على ناصر الألباني ما نصه:
إن التوسل جائز في شرعنا *** لا يمتري في حكمه شخصان
إلا الذين توهبوا بجهالة *** وتوسموا بسفاهة بلسان
قد حرموه وبالغوا في ذمه *** من غير أن يأتوا بأي بيان

الشيخ محمد الحامد [المتوفى سنة 1389هـ] خطيب مسجد السلطان في حماه
قال في كتابه ردود على أباطيل ما نصه: يجوز التوسل إلى الله برسله وأنبيائه عليهم الصلاة والسلام وعلى ءالهم وبأوليائه رضوان الله تعالى عليهم، فإنه جائز وسائغ عند أهل الحق بل إنه مستحب إذ هو من أسباب إجابة الدعاء وليس فيه أدنى شبه بشرك لأن الله تعالى هو المدعو وحده ولا شريك له في الخلق والتأثير.

العلامة المحدث الشيخ محمد زاهد الكوثري التركي [المتوفى سنة 1371هـ] قال في مقالاته ما نصه: لا بأس أن نتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم ونستغيث به في حياته وبعد مماته لأن التوسل إنما هو بمنزلته عند الله وهي ثابتة له في الدنيا والآخرة.

المحدث الشيخ محمد العربي التباني المالكي [المتوفى سنة 1390هـ] المدرس بمدرسة الفلاح والمسجد المكي
قال في كتابه براءة الأشعريين ما نصه: اعلم أنه يجوز ويحسن التوسل والاستعانة والتشفع بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه سبحانه وتعالى، وجواز ذلك وحسنه من الأمور المعلومة لكل ذي دين.

الشيخ عبد الكريم المدرس البغدادي [المتوفى سنة 1425هـ] مفتي العراق
قال في كتابه أنوار الإسلام ما نصه: إن مذهب أهل السنة والجماعة صحة التوسل وجوازه بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد وفاته، وكذا بغيره من الأنبياء والمرسلين والأولياء والصالحين، لأنا لا نعتقد تأثيرًا حقيقيًا ولا خلقًا ولا إيجادًا، ولا إعدامًا ولا نفعًا ولا ضرًا إلا لله وحده لا شريك له، فلا نعتقد تأثيرًا حقيقيًا ولا نفعًا ولا ضرًا للنبي صلى الله عليه وسلم، باعتبار الخلق والإيجاد والتأثير الحقيقي ولا لغيره من الأحياء والأموات.

التبرك بالشعرات الشريفة

الأستاذ المحقق أحمد تيمور باشا [المتوفى سنة 1348هـ] قال في مقالته الخاصة بالآثار النبوية ما نصه:
ثبت في الصحيحين بروايات متعددة أن النبي صلى الله عليه وسلم حلق رأسه الشريف في حجة الوداع وقسم شعره، أو أمر أبا طلحة وزوجته أم سليم بقسمته بين الصحابة الرجال والنساء الشعرة والشعرتين. قال العلامة ابن حجر فيه: إن يسن بل يتأكد التبرك بشعره صلى الله عليه وسلم وسائر ءاثاره. وذكر القسطلاني الروايات في ذلك عن الشيخين في كلامه على حجة الوداع من المواهب اللدنية وجاء في شرحها لسيدي محمد الزرقاني أن روايات الشيخين في ذلك من طرق مدارها على محمد بن سيرين عن أنس وأنه صلى الله عليه وسلم قسم شعره بين أصحابه ليكون بركة باقية بينهم وتذكرة لهم، وكأنه أشار بذلك إلى اقتراب الاجل، وخص أبا طلحة بالقسمة التفاتًا إلى هذا المعنى لأنه هو الذي حفر قبره ولحد له وبنى فيه اللبِن.

وفي كتاب الشمائل من المواهب اللدنية المذكورة ما نصه: عن أنس قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم والحلاق يحلقه واطاف به أصحابه فما يريدون أن تقع شعرة إلا في يد رجل. رواه مسلم. وفي الشرح أن ذلك كان في حجة الوداع، ثم قال في المواهب: وعن محمد بن سيرين قال: قلت لعبيدة عندنا من شعر النبي صلى الله عليه وسلم أصبناه من قبل أنس أو من قبل أهل أنس فقال: لأن تكون عندي شعرة منه أحب إلي من الدنيا وما فيها. رواه البخاري.

المهرجانات العظيمة عند وصول الأثر النبوي الشريف إلى طرابلس

الشيخ المؤرخ محمد كامل بابا الطرابلسي رحمه الله [المتوفى سنة 1389هـ] قال في كتابه طرابلس في التاريخ ما نصه:
ومما اتفق وقوعه في طرابلس، أيام السلطان عبد الحميد، أنه كان إلى جانب مدرسة الفرير جامع يسمى التفاحي تهدّم وءال أمره إلى الخراب، فتقرر لدى إدارة الأوقاف إعادة بنائه على أنقاض الجامع المتهدم. واستحسن بعضهم أن يلغوا الاسم القديم ويسمونه الحميدي. فصدرت على أثر ذلك إرادة سلطانية بالموافقة مع إرسال أثر نبوي شريف، وهو شعرة طاهرة من شعر الرسول صلى الله عليه وسلم، الموجودة لدى الأتراك في المخلفات النبوية، ولما وصل الأثر عن طريق البحر، لم يكن البناء قد تم، وذلك في أواخر سنة 1309هـ/1891ر فوضع مؤقتًا في الجامع الكبير المنصوري، إذ هو من الآثار القديمة أيضًا فسعوا سعيًا حثيثًا مع السلطان لأخذ موافقة الآستانة، واخيرًا صدر الأمر بالقبول وكانت قد قامت معالم الزينة والمهرجانات الفخمة عند وصول الأثر الشريف بما لم يعهد له مثيل في تاريخ طرابلس، ابتهجت الناس بالسرور، وقامت الأفراح العظيمة وكانت الزينات منتشرة هنا وهناك وفي كل مكان، وأخذت الأغنياء بتوزيع اللحوم وإعطاء الصدقات على المحتاجين حتى شبعت الفقراء والمساكين، واتسع عليهم العيش وأصبحت الصدقات الكثيرة توزع بصورة عامة، وصارت شرابات الليمون يتناولها الإنسان من أي مخزون أراد، وما كنت تسمع أينا توجهت وحيثما ذهبت إلا تهليلاً وتكبيرًا وصلاة وسلامًا على البشير النذير، وما قامت بعدها إلى هذا التاريخ من أفراح في طرابلس مثلها، ولا ما يقرب منها، تصافت القلوب وتسامح الأخصام والمتشاحنون وتركوا عداواتهم وصفت قلوبهم وتابوا من ذنوبهم ورجعوا إلى ربهم، كانت يومئذ في طرابلس أيام سبعة سعيدة فيها كثير من الخير واليمن والبركة والتوفيق وصفاء القلوب وذهاب الشحناء بين المتخاصمين، وترك أسباب العداوات والبغضاء.

ملاحظة: الشيخ المؤرخ محمد كامل بابا شهد بنفسه وصول الأثر النبوي الشريف والاحتفالات به.

قصيدة في تبيان جواز التبرك

بسم الله الرحمن الرحيم
أبدؤها بقول بسم الله *** تنزه الرحمن عن أشباه
وأحمد الإله ذا الجلال *** لفضله بالهدي والنوال
ثم الصلاة والسلام منا *** على نبيّ للفلاح سنّا
طريقة التبرك الميمونه *** في ذاك أهلُ العلم يتبعونه
فإن رأيتم من أتاكم يدعي *** بأنه غير الهدى لم يتبعِ
وقد أحلّ حرمة ضلالا *** من جهله أو حرّم الحلالا
قولوا له إذْ حرّم التبركا *** بأثر النبي زاد شرُّكا
إن اقتسام الشعر يا مُماري *** رواه مسلم كذا البخاري
وقسمة الاظفار أيضًا تسندُ *** صحيحة كما رواها أحمد
وجبةِ النبي سلْ أسماءا *** اما رأت في مائها الشفاءا؟
هاكَ دليلاً من أبي أيوب *** يمس بالخد ثرى المحبوب
أنعم به ردًا على من أنكرا *** جئتُ رسول الله ليس الحجرا
فمسلمٌ أولاهما رواها *** صحيحةَ الإسناد عن مولاها
وأحمدٌ روى الحديث الثاني *** ردّ الصحابي على مروان
وخالد للجيش في قلنسوه *** قال اطلبوا سبب ذاك ما هوه
وما الذي حرك فيه القلقا *** وإذا أتوا بها رأوها خَلَقا
لأن في الطيات شعرات النبي *** وذاك في اليرموك يروي البيهقي
ومسحُ أحمد لرأس حنظله *** بكفه وداعيًا بالخير له
من جاءه والوجه منه وارمُ *** بمسحة يعود وهو سالم
بركة النبي طاب عرفه *** موضع كفه فكيف كفهُ
الطبراني روى وأحمدُ *** مطولاً عن الثقات يسندُ
وثابتٌ قد كرر التقبيلا *** يدًا وعينًا رأت الرسولا
وأنس عن مثل ذاك ما زجر *** مجوزًا روى أبو يعلى الأثر
يا إخوتي من فضله تبركوا *** تمسكوا بهديه لا تتركوا
أجازه نبينا المعظم *** ففتشوا عن ذيل من يحرم
فإنه أخو الجهول في الغبا *** ومثله يأبى الكريم يصحبا
نظمتها مرشدة عزيزه *** أكرِم بها في الخير من أرجوزه

شاهد أيضاً

صحيح مسلم – الجزء الأول – القسم2

الجزء الأول – القسم2 أبواب مختلفة بَابٌ فِي الرِّيحِ الَّتِي تَكُونُ قُرْبَ الْقِيَامَةِ، تَقْبِضُ مَنْ …