أشراط الساعة (٥) | خُرُوجُ دَجَّالِينَ كَذَّابِينَ كُلُّهُم يَدَّعِي أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ

المقدمة

الحَمدُ للهِ الحَيِّ القَيُّومِ، البَاقِي يَدُومُ، رَفَعَ السَّمَاءَ وَزَيَّنَهَا بِالنُّجُومِ، وَأَمسَكَ الأَرضَ بِجِبَالٍ فِي التُّخُومِ، صَوَّرَ بِقُدرَتِهِ هَذِهِ الجُسُومَ، ثُمَّ أَمَاتَهَا وَمَحَا الرُّسُومَ، ثُمَّ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَإِذَا المَيِّتُ يَقُومُ، فَفَرِيقٌ إِلَى دَارِ النَّعِيمِ وَفَرِيقٌ إِلَى نَارِ السَّمُومِ، تُفتَحُ أَبوَابُهَا فِي وُجُوهِهِم لِكُلِّ بَابٍ مِنهُم جُزءٌ مَقسُومٌ، وَتُوصَدُ عَلَيهِم فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ فِيهَا لِلهُمُومِ وَالغُمُومِ، يَومَ يَغشَاهُمُ العَذَابُ مِن فَوقِهِم وَمِن تَحتِ أَرجُلِهِم فَمَا مِنهُم مَرحُومٌ.

وَأَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ شَهَادَةَ مَن لِلَنَّجَاةِ يَرُومُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، الَّذِي فَتحَ اللهُ بِدِينِهِ بِلَادَ الفُرسِ وَالرُّومِ، صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ وَمَن تَبِعَهُم بِإِحسَانٍ مَا هَطَلَتِ الغُيُومُ، وَسَلَّمَ تَسلِيمًا، أَمَّا بَعدُ:

نَبدَأُ بِذِكرِ عَلَامَاتِ السَّاعَةِ الَّتِي حَصَلَت بَعدَ وَفَاةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ وَهِيَ كَثِيرَةٌ، وَمِنهَا:

خروج دجالين كذابين كلهم يدعي أنه رسول الله
أَرسَلَ اللهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ بِالتَّوحِيدِ وَالتَّنزِيهِ وَالتَّعظِيمِ للهِ تَعَالَى، فَنَقَلَ مَن آمَنَ بِهِ مِنَ النَّاسِ مِن أَخَسِّ الدَّرَكَاتِ إِلَى أَعَالِي الدَّرَجَاتِ، فَصَارُوا دُعَاةً إِلَى الإِيمَانِ وَمَكَارِمِ الأَخلَاقِ، وَهَكَذَا كَانَت سَنَوَاتُ دَعوَتِهِ الشَّرِيفَةِ ﷺ، وَأَقبَلَت وُفُودُ العَرَبِ إِلَى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ مُسلِمَةً فِي العَامِ التَّاسِعِ مِنَ الهِجرَةِ الشَّرِيفَةِ، حَتَّى سُمِّيَ ذَلِكَ العَامُ بِعَامِ الوُفُودِ، وَلَم يَمُت رَسُولُ اللهِ ﷺ حَتَّى دَانَ أَغلَبُ قَبَائِلِ جَزِيرَةِ العَرَبِ بِدِينِ الإِسلَامِ.

لا نبي بعد رسول الله ﷺ
وَفِي آخِرِ حَيَاةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَقُبَيلَ وَفَاتِهِ بِقَلِيلٍ ظَهَرَ مِن بَعضِ النَّاسِ ضِعَافِ القُلُوبِ مِن بَعضِ القَبَائِلِ أَنَّهُمُ ادَّعَوُا النُّبُوَّةَ، وَزَعَمُوا أَنَّهُم أَنبِيَاءُ يَنزِلُ عَلَيهِم جِبرِيلُ عَلَيهِ السَّلَامُ بِوَحيٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَهَذَا لَا شَكَّ فِي كَذِبِ صَاحِبِهِ وَدَجَلِهِ، فَرَسُولُ اللهِ مُحَمَّدٌ ﷺ أَخبَرَ أَنَّهُ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ فَلَا نَبِيَّ بَعدَهُ، وَالأَدِلَّةُ عَلَى هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا، مِنهَا قَولُهُ تَعَالَى: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِن رِجَالِكُم وَلَكِن رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمًا﴾، وَقَولُهُ ﷺ فِي الحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الشَّيخَانِ وَغَيرُهُمَا: «كَانَت بَنُو إِسرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ [أي تحكمهم] الأَنبِيَاءُ، كُلَّمَا هَلَكَ – أَي مَاتَ – نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ، وَإِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعدِي»، وَقَالَ الحَافِظُ الزَّبِيدِيُّ فِي شَرحِ الإِحيَاءِ: «وَنَعتَقِدُ أَنَّه ﷺ أَرسَلَهُ اللهُ تَعَالَى خَاتِمًا لِلنَّبِيِّينَ، وَهَذَا مِمَّا أَجمَعَ عَلَيهِ أَهلُ السُّنَّةِ وَثبَتَ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ»، ثُمَّ قَالَ: «فَقَدِ اتَّفَقَتِ الأُمَّةُ عَلَى ذَلِكَ وَعَلَى تَكفِيرِ مَنِ ادَّعَى النُّبُوَّةَ بَعدَهُ».اهـ

إخبار النبي ﷺ بخروج كذابين بعده يدعون النبوة
وَأَخبَرَ النَّبِيُّ ﷺ -وَهُوَ الصَّادِقُ المَصدُوقُ- بِخُرُوجِ أُنَاسٍ يَدَّعُونَ النُّبُوَّةَ، وَوَصَفَهُم بِأَنَّهُم كَذَّابُونَ دَجَّالُونَ، فَقَد رَوَى البُخَارِيُّ عَن أَبِي هُرَيرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَقتَتِلَ فِئَتَانِ عَظِيمَتَانِ يَكُونُ بَينَهُمَا مَقتَلَةٌ عَظِيمَةٌ، دَعوَتُهُمَا وَاحِدَةٌ، وَحَتَّى يُبعَثَ ‌دَجَّالُونَ ‌كَذَّابُونَ، ‌قَرِيبٌ مِن ثَلَاثِينَ، كُلُّهُم يَزعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ».

وَرَوَى الإِمَامُ أَحمَدُ عَن جَابِرٍ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «إِنَّ بَينَ يَدَيِ السَّاعَةِ كَذَّابِينَ، مِنهُم صَاحِبُ اليَمَامَةِ، وَصَاحِبُ صَنعَاءَ العَبسِيُّ، وَمِنهُم صَاحِبُ حِميَرَ، وَمِنهُمُ الدَّجَّالُ، وَهُوَ أَعظَمُهُم فِتنَةً». قَالَ جَابِرٌ: «وَبَعضُ أَصحَابِي يَقُولُ: قَرِيبًا مِن ثَلَاثِينَ رَجُلًا».

وَرَوَى أَحمَدُ عَن أَبِي عُثمَانَ الأَصبَحِيِّ قَالَ: سَمِعتُ أَبَا هُرَيرَةَ يَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ يَأتُونَكُم بِبِدَعٍ مِنَ الحديثِ بِمَا لَم تَسمَعُوا أنتُم وَلَا آبَاؤُكُم، فَإِيَّاكُم وَإِيَّاهُم لَا يُضِلُّونَكُمْ وَلَا يَفْتِنُونَكُمْ».

وَفِي صَحِيحِ مُسلِمٍ عَن ثَوبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «وإِنَّه سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي كَذَّابُونَ ثَلَاثُونَ كُلُّهُم يَزعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَأَنَا خَاتَمُ الأَنبِيَاءِ لَا نَبِيَّ بَعدِي». وَفِي رِوَايَةٍ: «ثَلَاثُونَ كَذَّابُونَ أَو أَكثَرُ». فَسُئِلَ ﷺ: مَا آيَتُهُم؟ أَي مَا عَلَامَتُهُم؟ قَالَ: «يَأتُونَكُم بِسُنَّةٍ لَم تَكُونُوا عَلَيهَا يُغَيِّرُونَ بِهَا سُنَّتَكُم، فَإِذَا رَأَيتُمُوهُم فَاجتَنِبُوهُم».

وَأَمَّا ذِكرُهُم أَنَّهُم ثَلَاثُونَ، فَالعَرَبُ تُطلِقُ الرَّقمَ وَلَا تُرِيدُ التَّحدِيدَ وَإِنَّمَا مُرَادُهُم أَنَّهُ لَا يَنقُصُ عَن هَذَا الرَّقمِ، لَا يَنقُصُ عَن هَذَا العَدَدِ.

فتنة المرتدين وثبات الصحابة وبركة أبي بكر على هذه الأمة رضي الله عنه
وَكَانَت فِتنَةُ المُرتَدِّينَ مِن أَبرَزِ الفِتَنِ فِي ذَلِكَ العَصرِ وَقَد وَقَعَت كَمَا أَخبَرَ النَّبِيُّ ﷺ وَظَهَرَ هَؤُلَاءِ الدَّجَّالُونَ الكَذَّابُونَ كُلُّهُم يَزعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ، وَمِن أَشهَرِهِم: مُسَيلِمَةُ الكَذَّابُ الدَّجَّالُ لَعَنَهُ اللهُ فِي اليَمَامَةِ مِن بَنِي حَنِيفَةَ، وَالأَسوَدُ العَنسِيُّ لَعَنَهُ اللهُ فِي اليَمَنِ، وَغَيرُهُمَا الكَثِيرُ مِمَّنِ ادَّعَى النُّبُوَّةَ، وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى مَكَّنَ لِهَذَا الدِّينِ، وَرَدَّ هَؤُلَاءِ المُرتَدِّينَ، عَلَى أَعقَابِهِم خَاسِرِينَ، بِبَرَكَةِ صَبرِ الصَّحَابَةِ الكِرَامِ وَعَلَى رَأسِهِم سَيِّدُنَا أَبُو بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُم أَجمَعِينَ، وَجَزَاهُمُ اللهُ خَيرًا كَثِيرًا.

رَوَى الحَافِظُ ابنُ عَسَاكِرَ عَن صَالِحِ بنِ كَيسَانَ قَالَ: لَمَّا كَانَتِ الرِّدَّةُ قَامَ أَبُو بَكرٍ فِي النَّاسِ فَحَمِدَ اللهَ وَأَثنَى عَلَيهِ، فَكَانَ مِن جُملَةِ مَا قَالَ: وَاللهِ لَا أَدَعُ أَن أُقَاتِلَ عَلَى أَمرِ اللهِ حَتَّى يُنجِزَ اللهُ وَعدَهُ، وَيُوفِيَ لَنَا عَهدَهُ، وَيُقتَلَ مَن قُتِلَ مِنَّا شَهِيدًا مِن أَهلِ الجَنَّةِ، وَيُبقِيَ مَن بَقِيَ مِنَّا خَلِيفَتَهُ وَوَرَثَتَهُ فِي أَرضِهِ، قَضَاءُ اللَّهِ الحَقُّ، وَقَولُهُ الَّذِي لَا خُلفَ لَهُ ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُم وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَستَخلِفَنَّهُم فِي الأَرضِ﴾ [سورة النور:55]. ثُمَّ نَزَلَ رَحِمَهُ اللهُ.

وَقَالَ الحَسَنُ فِي قَولِهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرتَدَّ مِنكُم عَن دِينِهِ فَسَوفَ يَأتِي اللهُ بِقَومٍ يُحِبُّهُم وَيُحِبُّونَهُ﴾ قَالُوا: المُرَادُ بِذَلِكَ أَبُو بَكرٍ وَأَصحَابُهُ فِي قِتَالِهِمُ المُرتَدِّينَ وَمَانِعِي الزَّكَاةِ.

وَقَالَ أَهلُ السِّيَرِ: وَارتَدَّتِ العَرَبُ عِندَ وَفَاةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ إِلَّا أَهلَ المَسجِدَينِ مَكَّةَ وَالمَدِينَةِ، وَارتَدَّت أَسَدٌ وَغَطَفَانُ وَعَلَيهِم طُلَيحَةُ بنُ خُوَيلِدٍ الأَسَدِيُّ الكَاهِنُ، وَارتَدَّت كِندَةُ وَمَن يَلِيهَا وَعَلَيهِمُ الأَشعَثُ بنُ قَيسٍ الكِندِيُّ، وَارتَدَّت مَذحِجٌ وَمَن يَلِيهَا وَعَلَيهِمُ الأَسوَدُ بنُ كَعبٍ العَنسِيُّ الكَاهِنُ، وَارتَدَّت رَبِيعَةُ مَعَ المَعرُورِ بنِ النُّعمَانِ بنِ المُنذِرِ، وَكَانَت بَنُو حَنِيفَةَ مُقِيمَةً عَلَى أَمرِهَا مَعَ مُسَيلِمَةَ بنِ حَبِيبٍ الكَذَّابِ، وَارتَدَّت سُلَيمٌ مَعَ الفُجَاءَةِ، وَارتَدَّت بَنُو تَمِيمٍ مَعَ سَجَاحِ التَّغلِبِيَّةِ الكَاهِنَةِ.اهـ

فتنة مسيلمة الكذاب
وَرَوَى البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا قَالَ: قَدِمَ ‌مُسَيلِمَةُ الكَذَّابُ عَلَى عَهدِ رَسُولِ اللهِ ﷺ فَجَعَلَ يَقُولُ: إِن جَعَلَ لِي مُحَمَّدٌ الأَمرَ مِن بَعدِهِ تَبِعتُهُ، وَقَدِمَهَا فِي بَشَرٍ كَثِيرٍ مِن قَومِهِ، فَأَقبَلَ إِلَيهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَمَعَهُ ثَابِتُ بنُ قَيسِ بنِ شَمَّاسٍ، وَفِي يَدِ رَسُولِ اللهِ ﷺ قِطعَةُ جَرِيدٍ، حَتَّى وَقَفَ عَلَى ‌مُسَيلِمَةَ فِي أَصحَابِهِ فَقَالَ: «لَو سَأَلتَنِي هَذِهِ القِطعَةَ مَا أَعطَيتُكَهَا، وَلَن تَعدُوَ أَمرَ اللهِ فِيكَ، وَلَئِن أَدبَرتَ ليَعقِرَنَّكَ اللهُ، وَإِنِّي لَأَرَاكَ الَّذِي أُرِيتُ فِيكَ مَا رَأَيتُ».

وَفِي رِوَايَةٍ عِندَ البُخَارِيِّ: فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «لَو سَأَلتَنِي هَذَا القَضِيبَ مَا أَعطَيتُكَهُ، وَإِنِّي لَأَرَاكَ الَّذِي أُرِيتُ فِيهِ مَا أُرِيتُ، وَهَذَا ثَابِتُ بنُ قَيسٍ وَسَيُجِيبُكَ عَنِّي، فَانصَرَفَ النَّبِيُّ ﷺ». قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: فَسَأَلتُ عَن قَولِ رَسُولِ اللهِ ﷺ: «إِنَّكَ أُرَى الَّذِي أُرِيتُ فِيهِ مَا رَأَيتُ»، فَأَخبَرَنِي أَبُو هُرَيرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «بَينَمَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيتُ فِي يَدَيَّ سِوَارَينِ مِن ذَهَبٍ، فَأَهَمَّنِي شَأنُهُمَا، فَأُوحِيَ إِلَيَّ فِي المَنَامِ أَنِ انفُخهُمَا، فَنَفَختُهُمَا فَطَارَا، فَأَوَّلتُهُمَا كَذَّابَينِ يَخرُجَانِ بَعدِي، فَكَانَ أَحَدُهُمَا العَنسِيَّ وَالآخَرُ ‌مُسَيلِمَةَ الكَذَّابَ صَاحِبَ اليَمَامَةِ».اهـ

أَمَّا مُسَيلِمَةُ الكَذَّابُ فَهُوَ مِن بَنِي حَنِيفَةَ يَسكُنُونَ نَجدًا مِن أَرضِ الحِجَازِ، ادَّعَى النُّبُوَّةَ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللهِ ﷺ كَمَا فِي حَدِيثِ البُخَارِيِّ الَّذِي ذَكَرتُهُ، وَكَانَ يَذكُرُ لِأَتبَاعِهِ أُمُورًا يَزعُمُ أَنَّهَا وَحيٌ مِنَ اللهِ نَزَلَ بِهَا عَلَيهِ جِبرِيلُ كَمَا نَزَلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَالعِيَاذُ بِاللهِ، وَقَد كَتَبَ مُسَيلِمَةُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: مِن مُسَيلِمَةَ رَسُولِ اللهِ إِلَى ‌مُحَمَّدٍ ‌رَسُولِ ‌اللهِ، أَمَّا بَعدُ، فَقَد أُشرِكتُ فِي الأَرضِ، فَلِي نِصفُ الأَرضِ وَلِقُرَيشٍ نِصفُهَا، غَيرَ أَنَّ قُرَيشًا قَومٌ يَعتَدُونَ، قَالَ: فَقَدِمَ بِكِتَابِهِ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ رَجُلَانِ، فَلَمَّا قُرِئَ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ الكِتَابُ قَالَ لِلرَّسُولَينِ: «لَولَا أَنَّكُمَا رَسُولَانِ لَقَتَلتُكُمَا»، ثُمَّ دَعَا بِعَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ فَقَالَ: «اكتُب: بِسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ، مِن ‌مُحَمَّدٍ ‌رَسُولِ ‌اللهِ ‌إِلَى ‌مُسَيلِمَةَ ‌الكَذَّابِ، السَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى، أَمَّا بَعدُ: ﴿إِنَّ الأَرضَ للهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِن عِبَادِهِ وَالعَاقِبَةُ لِلمُتَّقِينَ﴾.اهـ

وَلَمَّا تَبِعَتهُ كَثِيرٌ مِنَ العَرَبِ وَارتَدَّت بَعَثَ أَبُو بَكرٍ خَالِدَ بنَ الوَلِيدِ إِلَى اليَمَامَةِ فَقَاتَلَ بَنِي حَنِيفَةَ، وَاستُشهِدَ خَلقٌ كَثِيرٌ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ، وَانهَزَمَ مُسَيلِمَةُ وَمَن بَقِيَ مَعَهُ، فَأَدرَكَهُ وَحشِيُّ بنُ حَربٍ فَقَتَلَهُ، وَوَحشِيٌّ هَذَا هُوَ الَّذِي قَتَلَ حَمزَةَ بنَ عَبدِ المُطَّلِبِ يَومَ أُحُدٍ وَوَحشِيٌّ يَومَئِذٍ كَافِرٌ، وَقَالَ عِندَ قَتلِهِ لِمُسَيلِمَةَ: يَا مَعشَرَ العَرَبِ، إِن كُنتُ قَتَلتُ بِهَذِهِ الحَربَةِ من أَحَبِّ الخَلقِ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَقَد قَتَلتُ بِهَا اليَومَ أَبغَضَ الخَلقِ إِلَى رَسُولِ اللهِ، فَهَذِهِ بِتِلكَ، وَكَانَ خُرُوجُهُ أي مسيلمة لَعَنَهُ اللهُ آخِرَ سَنَةِ عَشرٍ مِن سِنِيِّ الهِجرَةِ قَبلَ حَجَّةِ الوَدَاعِ.

وَقِيلَ إِنَّهُ لَمَّا قَدِمَت وُفُودُ بَنِي حَنِيفَةَ عَلَى الصِّدِّيقِ قَالَ لَهُم: أَسمِعُونَا شَيئًا مِنَ الَّذِي يَزعُمُ مُسَيلِمَةُ أَنَّهُ قُرآنٌ وَنَزَلَ عَلَيهِ. فَقَالُوا: أَوَتَعفِينَا يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللهِ؟ فَقَالَ: إلا أن تسمعوني. فَقَالُوا: كَانَ يَقُولُ: يَا ضِفدَعُ بَنَتَ الضِّفدَعِينِ، نُقِّي كَم تَنِقِّينَ، لَا المَاءَ تُكَدِّرِينَ، وَلَا الشَّارِبَ تَمنَعِينَ، رَأسُكِ فِي المَاءِ وَذَنَبُكِ فِي الطِّينِ. وَكَانَ يَقُولُ: وَالمُبَذِّرَاتِ زَرعًا، وَالحَاصِدَاتِ حَصدًا، وَالذَّارِيَاتِ قَمحًا، وَالطَّاحِنَاتِ طَحنًا، وَالخَابِزَاتِ خَبزًا، وَالثَّارِدَاتِ ثَردًا، وَاللَّاقِمَاتِ لَقمًا، إِهَالَةً وَسَمنًا، لَقَد فُضِّلتُم عَلَى أَهلِ الوَبَرِ، وَمَا سَبَقَكُم أَهلُ المَدَرِ، رَفِيقَكُم فَامنَعُوهُ، وَالمُعتَرَّ فَآوُوهُ، وَالبَاغِيَ فَنَاوِئُوهُ. وَذَكَرُوا أَشيَاءَ مِن هَذِهِ الخُرَافَاتِ الَّتِي يَأنَفُ مِن قَولِهَا الصِّبيَانُ وَهُم يَلعَبُونَ، فَيُقَالُ: إِنَّ الصِّدِّيقَ قَالَ لَهُم: وَيَحَكُمُ! أَينَ كَانَ يُذهَبُ بِعُقُولِكُم؟ وَكَانَ يَقُولُ: وَالفِيلُ، وَمَا أَدرَاكَ مَا الفِيلُ، لَهُ زَلُّومٌ طَوِيلٌ. وَكَانَ يَقُولُ: وَاللَّيلُ الدَّامِسُ، وَالذِّئبُ الهَامِسُ، مَا قَطَعَت أَسَدٌ مِن رَطبٍ وَلَا يَابِسٍ. وَكَانَ يَقُولُ: لَقَد أَنعَمَ اللهُ عَلَى الحُبلَى، أَخرَجَ مِنهَا نَسَمَةً تَسعَى، مِن بَينِ صِفَاقٍ وَحَشَا. وَأَشيَاءُ مِن هَذَا الكَلَامِ السَّخِيفِ الرَّكِيكِ البَارِدِ السَّمِجِ. وَقَد أَورَدَ أَبُو بَكرِ بنُ البَاقِلَّانِيِّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ «إِعجَازِ القُرآنِ» أَشيَاءَ مِن كَلَامِ هَؤُلَاءِ الجَهَلَةِ المُتَنَبِّئِينَ، كَمُسَيلِمَةَ وَطُلَيحَةَ وَالأَسوَدِ وَسَجَاحِ وَغَيرِهِم، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى ضَعفِ عُقُولِهِم وَعُقُولِ مَنِ اتَّبَعَهُم عَلَى ضَلَالِهِم.

وَمِمَّا يُذكَرُ مِن خبَرِهِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ بَعَثَ عَمرَو بنَ العَاصِ عَلَى البَحرَينِ، فَتُوُفِّيَ ﷺ. فَأَتَاهُ كِتَابُ أَبِي بَكرٍ بِوَفَاةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ. قَالَ عَمرٌو: فَأَقبَلتُ حَتَّى مَرَرتُ عَلَى مُسَيلِمَةَ، فَأَعطَانِي الأَمَانَ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ مُحَمَّدًا أُرسِلَ فِي جَسِيمِ الأُمُورِ، وَأُرسِلتُ فِي المُحَقَّرَاتِ. ثم قَالَ: يَا ضِفدَعُ نُقِّي، فَإِنَّكِ نِعمَ مَا تَنُقِّينَ، لَا زَادًا تُنَقِّرِينَ، وَلَا مَاءً تُكَدِّرِينَ. قَالَ: وَاللَّيلِ الأَدهَمِ، وَالذِّئبِ الأَسحَمِ. وقَالَ: وَاللَّيلِ الدَّامِسِ، وَالذِّئبِ الهَامِسِ، مَا حُرمَتُهُ رَطبًا إِلَّا كَحُرمَتِهِ يَابِسٌ، ثم قال لعمرو ما تقول (قَالَ عَمرٌو: أَمَا وَاللهِ إِنَّكَ يا مسيلمة تعلم أني أعلم أنك كَاذِبٌ، وَإِنَّكَ لَتَعلَمُ إِنَّكَ لَمِنَ الكَاذِبِينَ.

وَذَكَرَ عُلَمَاءُ التَّارِيخِ أَنَّهُ كَانَ يَتَشَبَّهُ بِالنَّبِيِّ ﷺ؛ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ بَصَقَ فِي بِئرٍ فَغَزُرَ مَاؤُهَا، فَبَصَقَ فِي بِئرٍ فَغَاضَ مَاؤُهَا بِالكُلِّيَّةِ، وَفِي أُخرَى فَصَارَ مَاؤُهَا أُجَاجًا، وَتَوَضَّأَ صورةً وَسَقَى بِوَضُوئِهِ نَخلًا فَيَبِسَت وَهَلَكَت، وَأُتِيَ بِوِلدَانٍ يُبَرِّكُ عَلَيهِم فَجَعَلَ يَمسَحُ رُؤُوسَهُم، فَمِنهُم مَن قُرِعَ رَأسُهُ، وَمِنهُم مَن لُثِغَ لِسَانُهُ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ دَعَا لِرَجُلٍ أَصَابَهُ وَجَعٌ فِي عَينَيهِ فَمَسَحَهُمَا فَعَمِيَ.

وَرُوِيَ عَن عُمَيرِ بنِ طَلحَةَ، عَن أَبِيهِ أَنَّهُ جَاءَ إِلَى اليَمَامَةِ فَقَالَ: أَينَ مُسَيلِمَةُ؟ قَالُوا: مَه، رَسُولُ اللهِ. فَقَالَ: لَا، حَتَّى أَرَاهُ. فَلَمَّا جَاءَهُ قَالَ: أَنتَ مُسَيلِمَةُ؟ فَقَالَ: نَعَم. قَالَ: مَن يَأتِيكَ؟ قَالَ: رَحمَنٌ. قَالَ: أَفِي نُورٍ أَم فِي ظُلمَةٍ؟ فَقَالَ: فِي ظُلمَةٍ. فَقَالَ: أَشهَدُ أَنَّكَ كَذَّابٌ وَأَنَّ مُحَمَّدًا صَادِقٌ، وَلَكِن كَذَّابُ رَبِيعَةَ أَحَبُّ إِلَينَا مِن صَادِقِ مُضَرَ. وَاتَّبَعَهُ هَذَا الأَعرَابِيُّ الجِلفُ، لَعَنَهُ اللهُ، حَتَّى قُتِلَ مَعَهُ يَومَ عَقرَبَاءَ، لَا رَحِمَهُ اللهُ.

فتنة سَجاح
وَمِمَّنِ ادَّعَى النُّبُوَّةَ كَذَلِكَ سَجَاحِ التَّغلِبِيَّةُ، وَظَهَرَ أَمرُ مُسَيلِمَةَ بِاليَمَامَةِ، وَانتَشَرَ ذِكرُهُ فِي النَّاسِ، وَسَمِعَت بِهِ سَجَاحِ بِنتُ المُنذِرِ، وَقَد كَانَتِ ادَّعَتِ النُّبُوَّةَ وَتَبِعَهَا رِجَالٌ مِن قَومِهَا وَجَمَاعَةٌ مِن بَنِي تَمِيمٍ. قَالَ: وَكَانَ لَهَا مُؤَذِّنٌ يُؤَذِّنُ لَهَا وَيَقُولُ: أَشهَدُ أَنَّ سَجَاح نَبِيَّةُ اللهِ.

قَالَ فَسَارَت سَجَاحُ هَذِهِ إِلَى مُسَيلِمَةَ الكَذَّابِ، فَسَلَّمَت عَلَيهِ بِالنُّبُوَّةِ، وَقَالَت: إِنَّهُ بَلَغَنِي أَمرُكَ وَسَمِعتُ بِنُبُوَّتِكَ، وَقَد أَقبَلتُ إِلَيكَ وَأَحبَبتُ أَن أَتَزَوَّجَ بِكَ. وَلَكِن أَخبِرنِي مَا الَّذِي أُنزِلَ إِلَيكَ مِن رَبِّكَ. فقال مسيلِمَةُ: أُنزِلَ عَلَيَّ مِن رَبِّي: «لا أُقسِمُ بِهذَا البَلَدِ، وَلا تَبرَح هَذَا البَلَدَ، حَتَّى تَكُونَ ذَا مَالٍ وَوَلَدٍ، وَوَفرٍ وَصَفَدٍ، وَخَيلٍ وَعَدَدٍ، إِلَى آخِرِ الأَبَدِ، عَلَى رَغم مِن حَسَدٍ» قَالَ: فَقَالَت سَجَاحِ: إِنَّكَ نَبِيٌّ حَقًّا، وَقَد رَضِيتُ بِكَ وَزَوَّجتُكَ نَفسِي، وَلَكِن أُرِيدُ أَن تَجعَلَ لِي صَدَاقًا يُشبِهُنِي. قَالَ مُسَيلِمَةُ: فَإِنِّي قَد فَعَلتُ ذَلِكَ، ثُمَّ دَعَا بِمُؤَذِّنِهِ فَقَالَ: نَادِ فِي قَومِ هَذِهِ المَرأَةِ: أَلا إِنَّ نَبِيَّكُم مُسَيلِمَةَ قَد رَفَعَ عَنكُم صَلاتَينِ مِنَ الخَمسِ الَّتِي جَاءَ بِهَا مُحَمَّدُ بنُ عَبدِ اللهِ، وَهِيَ صَلاةُ الفَجرِ وَصَلاةُ العِشَاءِ الأَخِيرَةُ. فَقَالَت سَجَاحُ: أَشهَدُ لَقَد جِئتَ بِالصَّوَابِ.

وَلَمَّا مَاتَ رَسُولُ اللهِ ﷺ زَعمَ مسيلِمَةُ أَنَّهُ استَقَلَّ بِالأَمرِ مِن بَعدِهِ، وَاستَخَفَّ قَومَهُ فَأَطَاعُوهُ، وَكَانَ يَقُولُ:

خُذِي الدُّفَّ يَا هَذِهِ وَالعَبِي … وَبُثِّي مَحَاسِنَ هَذَا النَّبِي

تَوَلَّى نَبِيُّ بَنِي هَاشِمٍ … وَقَامَ نَبِيُّ بَنِي يَعرُبِ

فَلَم يُمهِلهُ اللهُ بَعدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى سَلَّطَ اللهُ عَلَيهِ سَيفًا مِن سُيُوفِهِ، وَحَتفًا مِن حُتُوفِهِ، فَبَعَجَ بَطنَهُ، وَفَلَقَ رَأسَهُ، وَعَجَّلَ اللهُ بِرُوحِهِ إِلَى النَّارِ، فَبِئسَ القَرَارُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَمَن أَظلَمُ مِمَّنِ افتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَو قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَم يُوحَ إِلَيهِ شَيءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثلَ مَا أَنزَلَ اللهُ وَلَو تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ المَوتِ وَالمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيدِيهِم أَخرِجُوا أَنفُسَكُمُ اليَومَ تُجزَونَ عَذَابَ الهُونِ بِمَا كُنتُم تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيرَ الحَقِّ وَكُنتُم عَن آيَاتِهِ تَستَكبِرُونَ﴾ [سورة الأنعام:92]. فَمُسَيلِمَةُ وَالأَسوَدُ وَأَمثَالُهُمَا، لَعَنَهُمُ اللَّهُ، أَحَقُّ النَّاسِ دُخُولًا فِي هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ، وَأَولَاهُم بِهَذِهِ العُقُوبَةِ العَظِيمَةِ. أما سجاح رَجَعَت إِلَى الإِسلَامِ وَحَسُنَ إِسلَامُهَا بَعدَ ذَلِكَ، وَمَاتَت فِي خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ بنِ أَبِي سُفيَانَ.

فتنة الأسود العنسي
وَمِمَّن تَنَبَّأَ وَزَعَمَ أَنَّ الوَحيَ يَأتِيهِ الأَسوَدُ العَنسِيُّ وَاسمُهُ عَبهَلَةُ بنُ كَعبٍ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لَمَّا عَادَ مِن حَجَّةِ الوَدَاعِ تَوَعَّكَ فَبَلَغَ ذَلِكَ العَنسِيَّ فَادَّعَى النُّبُوَّةَ، وَكَانَ يَعرِفُ شَيئًا مِنَ الشَّعوَذَةِ وَيَرَى مِنهُ النَّاسُ العَجَائِبَ، فَتَبِعَهُ النَّاسُ، ثُمَّ قَصَدَ صَنعَاءَ وَغَلَبَ عَلَى الطَّائِفِ إِلَى عَدَنٍ إِلَى البَحرَينِ وَاستَفحَلَ أَمرُهُ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ ﷺ كَتَبَ إِلَى مَن بِاليَمَنِ مِنَ المُسلِمِينَ أَنِ اقتُلُوا الأَسوَدَ العَنسِيَّ. فَلَمَّا قَتَلُوهُ خَرَجُوا مُظهِرِينَ شِعَارَ الإِسلَامِ، فَوَثَبَ المُسلِمُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ وَقَتَلُوا خَلقًا مِمَّن كَانَ مَعَهُ، وَرَجَعَ العُمَّالُ إِلَى أَعمَالِهِم وَكَتَبُوا بِذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَوَافَى الرَّسُولُ المَدِينَةَ فَوَجَدَ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَد مَاتَ، قَالَ عَبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ: أَتَانَا الخَبَرُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي اللَّيلَةِ الَّتِي قُتِلَ فِيهَا، فَقَالَ ﷺ: «قُتِلَ العَنسِيُّ» وَفِي صَبِيحَةِ تِلكَ اللَّيلَةِ قُبِضَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَكَانَت مُدَّةُ العَنسِيِّ مِن أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا ثَلَاثَةَ أَشهُرٍ.

وَكَانَ العَنسِيُّ يَدَّعِي النُّبُوَّةَ وَلَا يُنكِرُ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَيُقَالُ لَهُ ذَا الخِمَارِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يُلقِي خِمَارًا دَقِيقًا عَلَى وَجهِهِ وَيُهَمهِمُ فِيهِ وَيَزعُمُ أَنَّ سَحِيقًا وَشَقِيقًا مَلَكَينِ يَأتِيَانِهِ بِالوَحيِ، وَجَعَلَ يَقرَأُ عَلَى النَّاسِ بِزَعمِهِ: وَالمَايِسَاتِ مَيسًا، وَالدَّارِسَاتِ دَرسًا، يَحُجُّونَ عُصَبًا وَفَردًا، عَلَى قَلَائِصَ حُمرٍ وَصُهبٍ. وَكَانَ لَهُ حِمَارٌ يَقُولُ لَهُ اسجُد فَيَسجُدُ وَيَقُولُ اجثُ فَيَجثُو، فَافتُتِنَ النَّاسُ بِخِمَارِهِ وَحِمَارِهِ، وَتَبِعَهُ خَلقٌ كَثِيرٌ. قَالُوا وَوَقَعَ العَنسِيُّ فِي الخَمرِ يَشرَبُهَا وَلَا يُصَلِّي وَلَا يَغتَسِلُ مِن جَنَابَةٍ، وَكَانَ يَزعُمُ أَنَّ سَحِيقًا يَقُولُ لَهُ: لَا غُسلَ عَلَيكَ ، وَكَانَ يَحرُسُهُ أَلفُ رَجُلٍ كُلَّ لَيلَةٍ.

وَمِمَّا حَدَثَ فِي وَقتِ خُرُوجِ هَذَا الخَبِيثِ -مِمَّا يُثَبِّتُ الفُؤَادَ بِأَنَّ الصَّالِحِينَ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ كُثُرٌ بِفَضلِ اللهِ تَعَالَى- مَا حَصَلَ لِأَبِي مُسلِمٍ الخَولَانِيِّ وَكَانَ مِن أَهلِ اليَمَنِ مِمَّن ثَبَتَ عَلَى الإِسلَامِ، فَقَد أَدرَكَ الجَاهِلِيَّةَ وَأَسلَمَ قَبلَ وَفَاةِ النَّبِيِّ ﷺ، وَلَم يَرَ رَسُولَ اللهِ ﷺ، وَقَدِمَ المدينةَ حِينَ قُبِضَ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَاستُخلِفَ أَبُو بَكرٍ، فَهُوَ مَعدُودٌ فِي كِبَارِ التَّابِعِينَ، اسمُهُ عَبدُ اللهِ بنُ ثُوَبٍ، كَانَ فَاضِلًا نَاسِكًا عَابِدًا، وَلَهُ كَرَامَاتٌ وَفَضَائِلُ.

وَمِن نَوَادِرِ أَخبَارِهِ وَكَرَامَاتِهِ أَنَّ الأَسوَدَ العَنسِيَّ لَمَّا تَنَبَّأَ بِاليَمَنِ بَعَثَ إِلَى أَبِي مُسلِمٍ الخَولَانِيِّ، فَلَمَّا جَاءَهُ قَالَ لَهُ: أَتَشهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللهِ؟ قَالَ: مَا أَسمَعُ. قَالَ: أَتَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ؟ قَالَ: نَعَم. قَالَ: أَتَشهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللهِ؟ قَالَ: مَا أَسمَعُ. قَالَ: أَتَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ؟ قَالَ: نَعَم. فَرَدَّدَ ذَلِكَ عَلَيهِ كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ لَهُ مِثلَ ذَلِكَ. فَأَمَرَ بِنَارٍ عَظِيمَةٍ فَأُجِّجَت، ثُمَّ أُلقِيَ فِيهَا أَبُو مُسلِمٍ فَلَم تَضُرَّهُ شَيئًا، فَقِيلَ لَهُ: انفِهِ عَنكَ وَإِلَّا أَفسَدَ عَلَيكَ مَنِ اتَّبَعَكَ. قَالَ: فَأَمَرَهُ بِالرَّحِيلِ، فَأَتَى أَبُو مُسلِمٍ المَدِينَةَ وَقَد قُبِضَ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَاستُخلِفَ أَبُو بَكرٍ، فَأَنَاخَ أَبُو مُسلِمٍ رَاحِلَتَهُ بِبَابِ المَسجِدِ وَدَخَلَ المَسجِدَ وَقَامَ يُصَلِّي إِلَى سَارِيَةٍ، فَبَصُرَ بِهِ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ فَقَامَ إِلَيهِ فَقَالَ: مِمَّنِ الرَّجُلُ؟ قَالَ: مِن أَهلِ اليَمَنِ، قَالَ: مَا فَعَلَ الرَّجُلُ الَّذِي أَحرَقَهُ الكَذَّابُ بِالنَّارِ؟ قَالَ: ذَلِكَ عَبدُ اللهِ بنُ ثُوَبٍ. قَالَ: أَنشُدُكَ بِالله أَنتَ هُوَ؟ قَالَ: اللهم نَعَم. قَالَ: فَاعتَنَقَهُ عُمَرُ وَبَكَى، ثُمَّ ذَهَبَ بِهِ حَتَّى أَجلَسَهُ فِيمَا بَينَهُ وَبَينَ أَبِي بَكرٍ وَقَالَ: الحَمدُ لله الَّذِي لَم يُمِتنِي حَتَّى أَرَانِي فِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ مَن فُعِلَ بِهِ كَمَا فُعِلَ بِإِبرَاهِيمَ خَلِيلِ اللهِ عَلَيهِ السَّلَامُ.اهـ (فَهَذِهِ كَرَامَةٌ لِهَذَا العَبدِ الصَّالِحِ الَّذِي التَزَمَ بِحُدُودِ اللهِ وَأَحَبَّ فِي اللهِ وَأَبغَضَ فِي اللهِ وَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ فِي كُلِّ شَيءٍ، وَبِذَلِكَ وَفَّقَهُ اللهُ فِي القَولِ وَالعَمَلِ وَرَزَقَهُ الأَمنَ وَالطُّمَأنِينَةَ وَأَجرَى اللهُ عَلَى يَدَيهِ هَذِهِ الكَرَامَةَ، قَالَ تَعَالَى: ﴿أَلَا إِنَّ أَولِيَاءَ اللهِ لاَ خَوفٌ عَلَيهِم وَلاَ هُم يَحزَنُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ، لَهُمُ البُشرَى فِي الحَيَاةِ الدُّنيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الفَوزُ العَظِيمُ﴾. وَهَذَا يُبَيِّنُ لَنَا أَنَّ اللهَ خَالِقُ الأَسبَابِ وَالمُسَبَّبَاتِ وَخَالِقُ كُلِّ مَا دَخَلَ فِي الوُجُودِ).

ومن كراماته ما أخبر الحسن قال: أجاز لنا عبد الله بن عثمان بن بنان، ثنا علي بن محمد الواعظ، حدثني جعفر بن مسكين، عن محمد بن عمرو، عن محمد بن الحسين، حدثني عمرو بن جرير البجلي، عن بكر بن خُنَيْس، عن رجل سماه قال:

كان بيد أبي مسلم الخولاني سبحة يسبح بها. قال: فنام والسبحة في يده. قال: فاستدارت السبحة فالتفَّت على ذراعه وجعلت تسبح، قال: فالتفَتَ أبو مسلم والسبحة تدور في ذراعه وهي تقول: سبحانك يا منبت النبات، ويا دائم الثبات.

قال: فقال: هلُمِّي يا أمَّ مسلم فانظري إلى أعجب الأعاجيب، قال: فجاءت أم مسلم والسبحة تدور وتسبِّح فلما جلستْ سكنَت.

ذكرها أبو القاسم هبة الله بن الحسن الطبري اللاَّلكائي المتوفى سنة ٤١٨هـ في كتابه ((كرامات الأولياء)) وأبو القاسم ابن عساكر: علي بن هبة الله المتوفى سنة ٥٧١هـ

فتنة طليحة الأسَدي وتوبته
وَكَذَلِكَ كَانَ طُلَيحَةُ بنُ خُوَيلِدٍ الأَسَدِيِّ مِنَ الَّذِينَ ادَّعَوُا النُّبُوَّةَ بَعدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ ﷺ، وَكَانَ مَعَهُ جَمعٌ كَثِيرٌ مِنَ الأَعرَابِ، وَقَتَلَ طُلَيحَةُ أُنَاسًا مِن أَفَاضِلِ الأَنصَارِ، وَقَد قَالَ خَالِدُ بنُ الوَلِيدِ لِبَعضِ أَصحَابِ طُلَيحَةَ مِمَّن أَسلَمَ وَحَسُنَ إِسلَامُهُ: أَخبِرنَا عَمَّا كَانَ يَقُولُ لَكُم طُلَيحَةُ وَيَزعُمُ أَنَّهُ مِنَ الوَحيِ. فَقَالَ: إِنَّهُ كَانَ يَقُولُ: وَالحَمَامِ وَاليَمَامِ، وَالصُّرَدِ الصَّوَّامِ، قَد صُمنَ قَبلَكُم بِأَعوَامٍ، لَيَبلُغَنَّ مُلكُنَا العِرَاقَ وَالشَّامَ. إِلَى غَيرِ ذَلِكَ مِنَ الخُرَافَاتِ وَالهَذَيَانَاتِ السَّمِجَةِ.

فَوَجَّهَ أَبُو بَكرٍ خَالِدَ بنَ الوَلِيدِ إِلَى طُلَيحَةَ الأَسَدِيِّ وَقَومِهِ، فَقَاتَلَ خَالِدٌ قَبِيلَتَهُ قِتَالًا شَدِيدًا وَأَفنَى أَكثَرَهُم، وَهَرَبَ طُلَيحَةُ بنُ خُوَيلِدٍ خَوفًا مِن خَالِدِ بنِ الوَلِيدِ، وَنَدِمَ عَلَى ضَلَالِهِ وَغَيِّهِ وَفَسَادِ حَالِهِ، وَرَجَعَ إِلَى الإِسلَامِ وَهُوَ هَارِبٌ فِي الصَّحرَاءِ، وَأَرسَلَ لِأَبِي بَكرٍ يَلتَمِسُهُ العَفوَ وَأَن يَقبَلَهُ عِندَهُ، وَأَرسَلَ لَهُ بِأَبيَاتٍ تُبَيِّنُ تَوبَتَهُ، فَرَقَّ أَبُو بَكرٍ لَهُ رِقَّةً شَدِيدَةً، وَعَلِمَ أَنَّهُ نَدِمَ عَلَى مَا كَانَ مِنهُ، وَقَد رَجَعَ فَشَهِدَ القِتَالَ مَعَ خَالِدٍ، وَكَتَبَ الصِّدِّيقُ إِلَى خَالِدٍ أَنِ استَشِرهُ فِي الحَربِ وَلَا تُؤَمِّرهُ، يَعنِي مُعَامَلَتَهُ لَهُ بِنَقِيضِ مَا كَانَ قَصَدَهُ مِنَ الرِّيَاسَةِ فِي البَاطِلِ، وَهَذَا مِن فِقهِ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ وَأَرضَاهُ، إِلَى أَن تُوُفِّيَ أَبُو بَكرٍ وَاستُخلِفَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا، فَقَدِمَ عَلَيهِ طُلَيحَةُ مُسلِمًا تَائِبًا، فَلَمَّا رَآهُ عُمَرُ قَطَبَ فِي وَجهِهِ ثُمَّ قَالَ: «يَا طُلَيحَةُ، كَيفَ تَرجُو النَّجَاةَ مِنَ النَّارِ وَقَتَلتَ ثَابِتَ بنَ أَرقَمَ الأَنصَارِيَّ وَعُكَّاشَةَ بنَ مِحصَنٍ الأَسَدِيَّ»، فقَالَ طُلَيحَةُ: «يَا أَمِيرَ المُؤمِنِينَ، ذَلِكُمَا رَجُلَانِ أَكرَمَهُمَا اللهُ بِالجَنَّةِ وَسَاقَ إِلَيهِمَا الشَّهَادَةَ عَلَى يَدَيَّ، وَلَم يَقتُلنِي بِأَيدِيهِمَا فَأَكُونَ فِي النَّارِ»، فَأُعجِبَ عُمَرُ بِمَقَالَتِهِ فَقَرَّبَهُ وَأَدنَاهُ، وَأَقَامَ طُلَيحَةُ عِندَهُ إِلَى أَن تَحَرَّكَتِ الفُرسُ بَعدَ ذَلِكَ، فَوَجَّهَ بِهِ مَعَ سَعدِ بنِ أَبِي وَقَّاصٍ، فَقَاتَلَ بِالعِرَاقِ قِتَالًا شَدِيدًا، وَقَاتَلَ أَيضَا بِنَهَاوَندَ وَاليَرمُوكِ، وَلَم يَزَل يَنصُرُ دِينَ الإِسلَامِ حَتَّى تُوُفِّيَ. (العِبرَةُ مِن هَذَا أَنَّ الأَعمَالَ بِخَوَاتِيمِهَا، وَأَنَّ الشَّخصَ لَو أَذنَبَ ذَنبًا عَظِيمًا يَقدِرُ أَن يَرجِعَ وَيَنصَلِحَ حَالُهُ إِذَا صَدَقَ التَّوبَةَ، وَلَكِنَّ الفَسَادَ الأَعظَمَ أَن تَأخُذَ المُذنِبَ العِزَّةُ بِالإِثمِ فَيَبقَى ثَابِتًا عَلَى إِثمِهِ وَفَسَادِهِ إِلَى المَوتِ وَالعِيَاذُ بِاللهِ تَعَالَى، وَالأَعمَالُ بِخَوَاتِيمِهَا كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيثِ).

السؤال الفقهي
ما حكم صيام الصبى الذي لم يبلغ؟
لا يَجِبُ عَلَى الصَّبِىِّ الَّذِي لَم يَبلُغ، وَلَكِن يَجِبُ عَلَى وَلِيِّهِ:

أَن يَأمُرَهُ بِهِ إِن أَكمَلَ سَبعَ سِنِينَ هِجرِيَّة.

وَأَن يَضرِبَهُ عَلَى تَركِهِ إِذَا بَلَغَ عَشرَ سِنِينَ هِجرِيَّة وَتَرَكَهُ وَهُوَ يُطِيقُهُ.

وَلا يَجِبُ عَلَيهِ القَضَاءُ إِن أَفطَرَ لَكِن يَجِبُ عَلَى الوَلِىِّ أَمرُهُ بِالقَضَاءِ إِن أَطَاقَهُ.

وَآخِرُ دَعوَانَا أَنِ الحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ

 

شاهد أيضاً

شرح دعاء “اللهم إني أسألك من الخير كله” ودلالاته في طلب الجنة والوقاية من النار

المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم الحمدُ لله الذي أنزلَ على عبده الكتاب ولم يجعل لهُ …