أشراط الساعة (٤) | وفاة النبي ﷺ

المقدمة

الحَمدُ للهِ العَظِيمِ فِي قَدرِهِ، العَزِيزِ فِي قَهرِهِ، العَالِمِ بِحَالِ العَبدِ فِي سِرِّهِ وَجَهرِهِ، الجَائِدِ عَلَى المُجَاهِدِ بِنَصرِهِ، وَعَلَى المُتَوَاضِعِ مِن أَجلِهِ بِرَفعِهِ، يَسمَعُ صَرِيفَ القَلَمِ عِندَ خَطِّ سَطرِهِ، وَيَرَى النَّملَ يَدُبُّ فِي فَيَافِي قَفرِهِ، وَمِن آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَمَاءُ وَالأَرضُ بِأَمرِهِ، أَحمَدُهُ عَلَى القَضَاءِ حُلوِهِ وَمُرِّهِ.

وَأَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ إِقَامَةً لِذِكرِهِ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ المَبعُوثُ بِالبِرِّ إِلَى الخَلقِ فِي بَّرِّهِ وَبَحرِهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَعَلَى صَاحِبِهِ أَبِي بَكرٍ السَّابِقِ بِمَا وَقَرَ مِنَ الإِيمَانِ فِي صَدرِهِ، وَعَلَى عُمَرَ مُعِزِّ الإِسلَامِ بَحَزمِهِ وَقَهرِهِ، وَعَلَى عُثمَانَ ذِي النُّورَينِ الصَّابِرِ مِن أَمرِهِ عَلَى مُرِّهِ، وَعَلَى عَلِيٍّ ابنِ عَمِّهِ وَصِهرِهِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ لَهُم بِإِحسَانٍ مَا جَادَ السَّحَابُ بِقَطرِهِ، وَسَلَّمَ تَسلِيمًا كَثِيرًا، أَمَّا بَعدُ:

وفاة سيدنا رسول الله ﷺ
استَهَلَّتِ السَّنَةُ الحَادِيَةَ عَشرَةَ لِلهِجرَةِ الشَّرِيفَةِ وَقَدِ استَقَرَّ الرِّكَابُ الشَّرِيفُ النَّبَوِيُّ بِالمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ المُطَهَّرَةِ مَرجِعَهُ عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِن حَجَّةِ الوَدَاعِ، وَقَد وَقَعَت فِي هَذِهِ السَّنَةِ أُمُورٌ عِظَامٌ، مِن أَعظَمِهَا خَطبًا وَفَاةُ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَلَكِنَّهُ عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَقَلَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مِن هَذِهِ الدَّارِ الفَانِيَةِ إِلَى النَّعِيمِ الأَبَدِيِّ فِي مَحَلَّةٍ عَالِيَةٍ رَفِيعَةٍ، وَدَرَجَةٍ فِي الجَنَّةِ لَا أَعلَى مِنهَا وَلَا أَسنَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَلآخِرَةُ خَيرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى، وَلَسَوفَ يُعطِيكَ رَبُّكَ فَتَرضَى﴾، وَذَلِكَ بَعدَ مَا أَكمَلَ أَدَاءَ الرِّسَالَةِ الَّتِي أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى بِإِبلَاغِهَا، وَنَصَحَ أُمَّتَهُ، وَدَلَّهُم عَلَى خَيرِ مَا يَعلَمُهُ لَهُم، وَحَذَّرَهُم وَنَهَاهُم عَمَّا فِيهِ مَضَرَّةٌ عَلَيهِم فِي دُنيَاهُم وَأُخرَاهُم.

نَزَلَت سُورَةُ النَّصرِ: ﴿إِذَا جَاءَ نَصرُ اللهِ وَالفَتحُ﴾ فِي أَوسَطِ أَيَّامِ التَّشرِيقِ، فَعَرَفَ رَسُولُ اللهِ ﷺ أَنَّهُ الوَدَاعُ.

قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: هُوَ أَجَلُ رَسُولِ اللهِ ﷺ نُعِيَ إِلَيهِ. فَقَالَ عُمَرُ: لَا أَعلَمُ مِنهَا إِلَّا مَا تَعلَمُ. فَاستَشعَرَتِ النُّفُوسُ بِوَفَاتِهِ عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.

وَقَالَ عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِابنَتِهِ فَاطِمَةَ: «إِنَّ جِبرِيلَ كَانَ يُعَارِضُنِي بِالقُرآنِ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً، وَإِنَّهُ عَارَضَنِي العَامَ مَرَّتَينِ، وَمَا أَرَى ذَلِكَ إِلَّا لِاقتِرَابِ أَجَلِي». وَعِندَمَا وَقَفَ رَسُولُ اللهِ ﷺ عِندَ جَمرَةِ العَقَبَةِ قَالَ لِأَصحَابِهِ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُم فَلَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعدَ عَامِي هَذَا».

وَرَأَى العَبَّاسُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ فِي المَنَامِ كَأَنَّ الأَرضَ تُنزَعُ إِلَى السَّمَاءِ بِأَشطَانٍ شِدَادٍ، فَقَصَّها عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقَالَ: «ذَاكَ وَفَاةُ ابنِ أَخِيكَ»، (وَالأَشطَانُ: الحِبَالُ الشِّدَادُ).

قَالَ أَبُو مُوَيهِبَةَ مَولَى رَسُولِ اللهِ ﷺ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ مِن جَوفِ اللَّيلِ، فَقَالَ: «يَا أَبَا مُوَيهِبَةَ، إِنِّي قَد أُمِرتُ أَن أَستَغفِرَ لِأَهلِ هَذَا البَقِيعِ، فَانطَلِق مَعِي». فَانطَلَقتُ مَعَهُ، فَلَمَّا وَقَفَ بَينَ أَظهُرِهِم قَالَ: «السَّلَامُ عَلَيكُم يَا أَهلَ المَقَابِرِ، لِيَهنِ لَكُم مَا أَصبَحتُم فِيهِ مِمَّا أَصبَحَ النَّاسُ فِيهِ، أَقبَلَتِ الفِتَنُ كَقِطَعِ اللَّيلِ المُظلِمِ يَتبَعُ آخِرُهَا أَوَّلَهَا، الآخِرَةُ شَرٌّ مِنَ الأُولَى».

يعني: هنيئا لكم ما أنتم فيه من النعيم ومن كرامة الله، في وقت توافدت على الناس فيه الفتن كقطع الليل المظلم، فلو تعلمون ما نجاكم الله منه من تلك الفتن، مع ما أصبحتم فيه من نعمة الله: لعلمتم عظيم فضل الله عليكم، واصطفاءه إياكم؛ حيث أصبحتم بفضله في هذا النعيم، في حين أصبح الناس والفتن تقبل عليهم كقطع الليل المظلم، يتبع أولها آخرها.

يقول أبو مُوَيهِبَةَ: ثُمَّ أَقبَلَ عَلَيَّ فَقَالَ: «يَا أَبَا مُوَيهِبَةَ، إِنِّي قَد أُوتِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الدُّنيَا ثُمَّ الجَنَّةَ، فَخُيِّرتُ بَينَ ذَلِكَ وَبَينَ لِقَاءِ رَبِّي وَالجَنَّةِ». قَالَ: قُلتُ: بِأَبِي أَنتَ وَأُمِّي، فَخُذ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الدُّنيَا ثُمَّ الجَنَّةَ. قَالَ: «لَا وَاللهِ يَا أَبَا مُوَيهِبَةَ، لَقَدِ اختَرتُ لِقَاءَ رَبِّي وَالجَنَّةَ». ثُمَّ استَغفَرَ لِأَهلِ البَقِيعِ ثُمَّ انصَرَفَ، فَبُدِئَ بِرَسُولِ اللهِ وَجَعُهُ الَّذِي قَبَضَهُ اللهُ فِيهِ.

قَالَ عُقبَةُ بنُ عَامِرٍ: خرج رسول الله ﷺ إلى قتلى أحد فصلى عليهم [أي دعا لهم] بعد ثمان سنين، ثُمَّ صَعِدَ المِنبَرَ كَالمُوَدِّعِ لِلأَحيَاءِ وَالأَموَاتِ. فَقَالَ: «إِنِّي فَرَطُكُم عَلَى الحَوضِ، وَإِنَّ عَرْضَهُ كَمَا بَينَ أَيلَةَ إِلَى الجُحفَةِ، إِنِّي لَستُ أَخشَى عَلَيكُم أَن تُشرِكُوا بَعدِي، وَلكِنِّي أَخشَى عَلَيكُمُ الدُّنيَا أَن تَنَافَسُوا فِيهَا وَتَقتَتِلُوا فَتَهلِكُوا كَمَا هَلَكَ مَن كَانَ قَبلَكُم». قَالَ عُقبَةُ: فَكَانَت آخِرَ مَا رَأَيتُ رَسُولَ اللهِ عَلَى المِنبَرِ.اهـ

مرض النبي ﷺ
وكان رَسُولُ اللهِ ﷺ يَسأَلُ فِي مَرَضِهِ الَّذِى مَاتَ فِيهِ «أَينَ أَنَا غَدًا أَينَ أَنَا غَدًا؟». يُرِيدُ يَومَ عَائِشَةَ، فَأَذِنَ لَهُ أَزوَاجُهُ يَكُونُ حَيثُ شَاءَ، فَكَانَ فِي بَيتِ عَائِشَةَ حَتَّى مَاتَ عِندَهَا. قَالَت عَائِشَةُ فَمَاتَ فِي اليَومِ الَّذِى كَانَ يَدُورُ عَلَىَّ فِيهِ فِي بَيتِي فَقَبَضَهُ اللهُ، وَإِنَّ رَأسَهُ لَبَينَ نَحرِى وَسَحرِي، وَخَالَطَ رِيقُهُ رِيقِي.

قَالَت فَاطِمَةُ بِنتُ اليَمَانِ أُختُ حُذَيفَةَ بنِ اليَمَانِ: أَتَينَا رَسُولَ اللهِ ﷺ نَعُودُهُ في نِساءٍ، فَإِذَا سِقَاءٌ مُعَلَّقٌ نَحوَهُ يَقطُرُ مَاؤُهُ عَلَيهِ مِمَّا يَجِدُهُ مِن حَرِّ الحُمَّى، فَقُلنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، لَو دَعَوتَ اللهَ فَشَفَاكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّ مِن أَشَدِّ النَّاسِ بَلاءً الأنبِيَاءَ، ثمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُم، ثمَّ الَّذينَ يَلُونَهُم». قَالَت عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنهَا: رَأَيتُ رَسُولَ اللهِ وَهُوَ يَمُوتُ وَعِندَهُ قَدَحٌ فِيهِ مَاءٌ. فَيُدخِلُ يَدَهُ فِي القَدَحِ، ثُمَّ يَمسَحُ وَجهَهُ بِالمَاءِ، ثُمَّ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى سَكَرَاتِ المَوتِ».

قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ: «أَفِيضُوا عَلَيَّ مِن سَبعِ قِرَبٍ مِن سَبعِ آبَارٍ شَتَّى، حَتَّى أَخرُجَ فَأَعهَدَ إِلَى النَّاسِ» فَفَعَلُوا، فَخَرَجَ فَجَلَسَ عَلَى المِنبَرِ، فَكَانَ أَوَّلَ مَا ذَكَرَ بَعدَ حَمدِ اللهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيهِ ذَكَرَ أَصحَابَ أُحُدٍ فَاستَغفَرَ لَهُم وَدَعَا لَهُم، ثُمَّ قَالَ: «يَا مَعشَرَ المُهَاجِرِينَ، إِنَّكُم أَصبَحتُم تَزِيدُونَ، وَالأَنصَارُ عَلَى هَيئَتِهَا لَا تَزِيدُ، وَإِنَّهُم عَيبَتِي (أَي بِطَانَتِي وَخَاصَّتِي وَمَوضِعُ سِرِّي) الَّتِي أَوَيتُ إِلَيهَا، فَأَكرِمُوا كَرِيمَهُم وَتَجَاوَزُوا عَن مُسِيئِهِم» ثُمَّ قَالَ عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ عَبدًا مِن عِبَادِ اللهِ قَد خَيَّرَهُ اللَّهُ بَينَ الدُّنيَا وَبَينَ مَا عِندَ اللهِ» فَفَهِمَهَا أَبُو بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ مِن بَينِ النَّاسِ فَبَكَى، وَقَالَ: بَل نَحنُ نَفدِيكَ بِأَنفُسِنَا وَأَبنَائِنَا وَأَموَالِنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «عَلَى رِسلِكَ يَا أَبَا بَكرٍ، انظُرُوا إِلَى هَذِهِ الأَبوَابِ الشَّارِعَةِ فِي المَسجِدِ فَسُدُّوهَا إِلَّا مَا كَانَ مِن بَيتِ أَبِي بَكرٍ، فَإِنِّي لَا أَعلَمُ أَحَدًا عِندِي أَفضَلَ فِي الصُّحبَةِ مِنهُ، لَو كُنتُ مُتَّخِذًا مِنَ العِبَادِ خَلِيلًا لَاتَّخَذتُ أَبَا بَكرٍ خَلِيلًا، وَلَكِن صُحبَةٌ وَإِخَاءٌ وَإِيمَانٌ حَتَّى يَجمَعَ اللهُ بَينَنَا عِندَهُ».

قَالَت عَائِشَةُ: ثَقُلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فَقَالَ: «أَصَلَّى النَّاسُ؟» فَقُلنَا: لَا، هُم يَنتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللهِ. فَقَالَ: «ضَعُوا لِي مَاءً فِي المِخضَبِ» فَفَعَلنَا، قَالَت: فَاغتَسَلَ، ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغمِيَ عَلَيهِ، ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ: «أَصَلَّى النَّاسُ؟» قُلنَا: لَا، هُم يَنتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: «ضَعُوا لِي مَاءً فِي المِخضَبِ» فَفَعَلنَا فَاغتَسَلَ، ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغمِيَ عَلَيهِ، ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ: «أَصَلَّى النَّاسُ؟» قُلنَا: لَا، هُم يَنتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَت: وَالنَّاسُ عُكُوفٌ فِي المَسجِدِ يَنتَظِرُونَ رَسُولَ اللهِ ﷺ لِصَلَاةِ العِشَاءِ، فَأَرسَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِلَى أَبِي بَكرٍ بِأَن يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، وَكَانَ أَبُو بَكرٍ رَجُلًا رَقِيقًا، فَقَالَ: يَا عُمَرُ، صَلِّ بِالنَّاسِ. فَقَالَ: أَنتَ أَحَقُّ بِذَلِكَ. فَصَلَّى بِهِم تِلكَ الأَيَّامَ، ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ وَجَدَ خِفَّةً، فَخَرَجَ بَينَ رَجُلَينِ أَحَدُهُمَا العَبَّاسُ لِصَلَاةِ الظُّهرِ، فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكرٍ ذَهَبَ لِيَتَأَخَّرَ، فَأَومَأَ إِلَيهِ أَن لَا يَتَأَخَّرَ، وَأَمرَهُمَا فَأَجلَسَاهُ إِلَى جَنبِهِ، فَجَعَلَ أَبُو بَكرٍ يُصَلِّي قَائِمًا، وَرَسُولُ اللهِ ﷺ يُصَلِّي قَاعِدًا، فَقَالَ عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الحَمدُ للهِ، إنَّهُ لَم يَمُت نَبيٌّ حَتَّى يَؤُمَّهُ رَجُلٌ مِن أُمَّتِهِ». فَلَمَّا فَرَغَ مِن الصّلَاةِ أَقبَلَ عَلَى النّاسِ، فَكَلَّمَهُم رَافِعًا صَوتَهُ حَتّى خَرَجَ صَوتُهُ مِن بَابِ المَسجِدِ، يَقُولُ: «أَيُّهَا النَّاسُ، سُعِّرَتِ النَّارُ، وَأَقبَلَتِ الفِتَنُ كَقِطَعِ اللَّيلِ المُظلِمِ، وَإِنِّي وَاللهِ مَا تَمَسَّكُونَ عَلَيَّ بِشَيءِ، إِنِّي لَم أُحِلَّ إِلَّا مَا أَحَلَّ القُرآنُ، وَلَم أُحَرِّم إِلَّا مَا حَرَّمَ القُرآنُ».

وَقَد أَوصَى المُسلِمِينَ بِالمَحَبَّةِ وَالِاتِّحَادِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ، المُهَاجِرِينَ مِنهُم وَالأَنصَارَ، وَهُوَ فِي أَشَدِّ حَالَاتِ المَرَضِ، وَنَهَاهُم عَنِ التَّقَاطُعِ.

آخر لحظاته ﷺ في الدنيا
قَالَ أَنَسُ بنُ مَالِكٍ: كَشَفَ رَسُولُ اللهِ ﷺ سِترَ الحُجرَةِ يَنظُرُ إِلَينَا وَهُوَ قَائِمٌ كَأَنَّ وَجهَهُ وَرَقَةُ مُصحَفٍ (قَالَ النَّوَوِيُّ: عِبَارَةٌ عَنِ الجَمَالِ البَارِعِ، وَحُسنِ البَشَرَةِ، وَصَفَاءِ الوَجهِ وَاستِنَارَتِهِ، وَفِي المُصحَفِ ثَلَاثُ لُغَاتٍ: ضَمُّ المِيمِ وَكَسرُهَا وَفَتحُهَا) ثُمَّ تَبَسَّمَ رَسُولُ اللهِ ضَاحِكًا (قَالَ النَّوَوِيُّ: سَبَبُ تَبَسُّمِهِ ﷺ فَرَحُهُ بِمَا رَأَى مِنِ اجتِمَاعِهِم عَلَى الصَّلَاةِ، وَاتِّبَاعِهِم لِإِمَامِهِم، وَإِقَامَتِهِم شَرِيعَتَهُ، وَاتِّفَاقِ كَلِمَتِهِم، وَاجتِمَاعِ قُلُوبِهِم، وَلِهَذَا استَنَارَ وَجهُهُ ﷺ، عَلَى عَادَتِهِ إِذَا رَأَى أَو سَمِعَ مَا يَسُرُّهُ يَستَنِيرُ وَجهُهُ) فَبُهِشنَا (يُقَالُ لِلإِنسَانِ إِذَا نَظَرَ إِلَى الشَّيءِ فَأَعجَبَهُ واشتهاه وَأَسرَعَ نَحوَهُ: قَد بَهَشَ إِلَيهِ) وَنَحنُ فِي الصَّلاةِ مِنَ الفَرَحِ بِخُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، قَالَ: وَنَكَصَ (أَي رَجَعَ إِلَى وَرَائِهِ قَهقَرَى) أَبُو بَكرٍ عَلَى عَقِبَيهِ لِيَصِلَ الصَّفَّ (أَي لِيَصِلَ إِلَى الصَّفِّ) وَظَنَّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ خَارِجٌ إِلَى الصَّلاةِ. فَأَشَارَ إِلَيهِم رَسُولُ اللهِ ﷺ بِيَدِهِ أَن أَتِمُّوا صَلاتَكُم. قَالَ: ثُمَّ دَخَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَأَرخَى السِّترَ. قَالَ: فَتُوُفِّيَ مِن يَومِهِ ﷺ.

وَكَانَت عَامَّةُ وَصِيَّةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ حِينَ حَضَرَهُ المَوتُ: «الصَّلَاةَ وَمَا مَلَكَت أَيمَانُكُم».

ولَمَّا ثَقُلَ النَّبِيُّ ﷺ جَعَلَ يَتَغَشَّاهُ الكَربُ (أي الغَمُّ)، فَقَالَت فَاطِمَةُ: وَاكَربَ أَبَتَاه. فَقَالَ لَهَا: «لَيسَ عَلَى أَبِيكِ كَربٌ بَعدَ اليَومِ». وَكَانَ النَّبِيُّ يَتَعَوَّذُ بِهؤُلَاءِ الكَلِمَاتِ «أَذهِبِ البَاسَ، رَبَّ النَّاسِ، وَاشفِ أَنتَ الشَّافِي، لَا شِفَاءَ إِلَّا شِفَاؤُكَ، شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا». قَالَت عَائِشَةُ: فَلَمَّا ثَقُلَ النَّبِيُّ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ أَخَذتُ بِيَدِهِ، فَجَعَلتُ أَمسَحُهُ وَأَقُولُهَا.اهـ

وَقَالَت رَضِيَ اللهُ عَنهَا: أُغمِيَ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ وَهُوَ فِي حِجرِي، فَجَعَلتُ أَمسَحُ وَجهَهُ وَأَدعُو لَهُ بِالشِّفَاءِ، فَقَالَ: «بَل أَسأَلُ اللهَ الرَّفِيقَ (وَالرَّفِيقُ هَاهُنَا جَمَاعَةٌ يَسكُنُونَ أَعلَى عِلِّيِينَ) الأَعلَى الأَسعَدَ مَعَ جِبرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسرَافِيلَ عَلَيهِمُ السَّلَامُ». وَكانَ بَينَ يَدَيهِ ﷺ رِكوَةٌ (دَلوٌ صَغِيرٌ) أَو عُلبَةٌ (قَدَحٌ مِن خَشَبٍ) فِيهَا مَاءٌ، فَجَعَلَ يُدخِلُ يَدَهُ فِي المَاءِ، فَيَمسَحُ بِهَا وَجهَهُ، ثُمَّ يَقُولُ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، إِنَّ لِلمَوتِ لَسَكَرَاتٍ»، ثُمَّ نَصَبَ أُصبُعَهُ اليُسرَى وَجَعَلَ يَقُولُ: «فِي الرَّفِيقِ الأَعلَى، فِي الرَّفِيقِ الأَعلَى»، حَتَّى قُبِضَ وَمَالَت يَدُهُ فِي المَاءِ. وَكَانَ عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَدِ استَعمَلَ السِّوَاكَ قَبلَ وَفَاتِهِ.

وتُوُفِّيَ فِي ارتِفَاعِ الضُّحَى وَانتِصَافِ النَّهَارِ يَومَ الِاثنَينِ. فَلَم يَزَل يُغمَى عَلَيهِ سَاعَةً ثُمَّ يُفِيقُ، ثُمَّ يُشَخِّصُ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ. وَقَد حَضَرَتهُ المَلَائِكَةُ وَهُوَ عَلَى فِرَاشِ المَوتِ ﷺ وَكَانَ يَقُولُ: ادنُ مِنِّي يَا جِبرِيلُ، ادنُ مِنِّي يَا جِبرِيلُ.اهـ قَالَت عَائِشَةُ: لَمَّا خَرَجَت نَفسُهُ لَم أَجِد قَطُّ رِيحًا أَطيَبَ مِنهَا.اهـ

وَقَالَت عَائِشَةُ: ثُمَّ أَقبَلَ بِوَجهِهِ إِلَيَّ حَتَّى إِذَا كَانَ فَاهُ فِي ثُغرَةِ نَحرِي سَالَ مِن فِيهِ نُقطَةٌ بَارِدَةٌ اقشَعَرَّ مِنهَا جِلدِي، وَثَارَ رِيحُ المِسكِ فِي وَجهِي، وَمَالَ رَأسُهُ فَظَنَنتُ أَنَّهُ غُشِيَ عَلَيهِ، فَأَخَذتُهُ فَنَوَّمتُهُ عَلَى الفِرَاشِ وَغَطَّيتُ وَجهَهُ.اهـ وَقَالَت أَيضًا: وَضَعتُ يَدِي عَلَى صَدرِ النَّبِيِّ ﷺ يَومَ مَاتَ فَمَرَّ بِي جُمَعٌ آكُلُ وَأَتَوَضَّأُ مَا تَذهَبُ رِيحُ المِسكِ مِن يَدِي.

بكاء الصحابة عليه ﷺ
قَالَ ابنُ عُمَرَ: لَمَّا قُبِضَ ﷺ سُجِّيَ بِثَوبٍ، وَقَعَدنَا حَولَهُ نَبكِي، فَأَتَاهُم آتٍ يَسمَعُونَ حِسَّهُ وَلَا يَرَونَ شَخصَهُ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيكُم يَا أَهلَ البَيتِ وَرَحمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، فَرَدَدنَا عَلَيهِ السَّلَامَ فَقَالَ: ﴿كُلُّ نَفسٍ ذَائِقَةُ المَوتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّونَ أُجُورَكُم يَومَ القِيَامَةِ فَمَن زُحزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدخِلَ الجَنَّةَ فَقَد فَازَ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنيَا إِلَّا مَتَاعُ الغُرُورِ﴾، وَقَالَ: إِنَّ فِي اللهِ خَلَفًا مِن كُلِّ هَالِكٍ، وَعَزَاءً عَن كُلِّ مُصِيبَةٍ، وَدَركًا مِن كُلِّ فَائِتٍ، فَبِاللهِ فَثِقُوا، وَإِيَّاهُ فَارجُوا، فَإِنَّ المُصَابَ مَن حُرِمَ الثَّوَابَ، فَظَنَّنَا أَنَّهُ جِبرِيلُ جَاءَ يُعَزِّينَا، فَقَالَ عَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ: هَذَا الخَضِرُ يُعَزِّيكُم عَن نَبِيِّكُم.

فَأَقبَلَ أَبُو بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ حِينَ بَلَغَهُ الخَبَرُ إِلَى بَيتِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهَا، فَكَشَفَ عَن وَجهِ رَسُولِ اللهِ، فَجَثَا يُقَبِّلُهُ وَيَبكِي، فَوَضَع فَمَهُ بَيْن عيْنَيْه، ووَضَعَ يديْه على صُدْغَيه، وقال: «وَانَبِيَّاهُ، وَاخَليلاهُ، وَاصَفِيَّاهُ». ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ: أَيُّهَا الحَالِفُ، لعمر عَلَى رِسلِكَ، فَلَمَّا تَكَلَّمَ أَبُو بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ جَلَسَ عُمَرُ، فَحَمِدَ اللهَ أَبُو بَكرٍ وَأَثنَى عَلَيهِ ثُمَّ قَالَ: «أَلَا مَن كَانَ يَعبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَد مَاتَ، وَمَن كَانَ يَعبُدُ اللهَ فَإِنَّ اللهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، وَقَد قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ﴾، وَقَالَ: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَد خَلَت مِن قَبلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَاتَ أَو قُتِلَ انقَلَبتُم عَلَى أَعقَابِكُم وَمَن يَنقَلِب عَلَى عَقِبَيهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيئًا وَسَيَجزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ﴾»، فَنَشَجَ النَّاسُ يَبكُونَ، فَكَانَ أَجزَعَ النَّاسِ كُلِّهِم عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، فَلَمَّا سَمِعَ قَولَ أَبِي بَكرٍ قَالَ: فَوَاللهِ لَكَأَنِّي لَم أَتلُ هَذِهِ الآيَةَ قَطُّ، وَهَا هُوَ بِلَالٌ رَضِيَ اللهُ عَنهُ كَانَ يُؤَذِّنُ بَعدَ وَفَاتِهِ ﷺ وَقَبلَ دَفنِهِ، فَإِذَا قَالَ: أَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ ارتَجَّ المَسجِدُ بِالبُكَاءِ وَالنَّحِيبِ، وَكَانَت وَفَاتُهُ ﷺ يَومَ الِاثنَينِ فِي شَهرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ سَنَةَ إِحدَى عَشرَةَ مِنَ الهِجرَةِ قَمَرِيَّةً بِلَا خِلَافٍ.

وَيَبكِي الصَّحَابَةُ قَبلَ مَوتِ النَّبِيِّ ﷺ لَمَّا بَدَت عَلَيهِ عَلَامَاتُ الوَفَاةِ وَأَمَارَاتُهُا. وَبَكَى الأَنصَارُ حِينَ حَجَبَهُم مَرَضُهُ عَن رُؤيَتِهِ ﷺ، وَبَكَت فَاطِمَةُ وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنهُمَا وَسَائِرُ المُسلِمِينَ.

وَبَكَى أَبُو بَكرٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنهُ وَهُوَ يُقَبِّلُ النَّبِيَّ ﷺ، وَسَالَت دُمُوعُ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنهُمَا كَاللُّؤلُؤِ كُلَّمَا تَذَكَّرَ النَّبِيَّ ﷺ، وَحِينَ تَسمَعُ أُمُّ الفَضلِ وَلَدَهَا عَبدَ اللهِ بنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُم يَقرَأُ: ﴿وَالمُرسَلَاتِ عُرفًا﴾ تَقُولُ وَقَد هَيَّجَتهَا الذِّكرَيَات: «يَا بُنَيَّ؛ وَاللهِ لَقَد ذَكَّرتَنِي بِقِرَاءَتِكَ هَذِهِ السُّورَةَ؛ إِنَّهَا لآخِرُ مَا سَمِعتُ مِن رَسُولِ اللهِ ﷺ يَقرَأُ بِهَا فِي المَغرِبِ»، وَبَكَت أُمُّ أَيمَنَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنهَا لَمَّا زَارَهَا الصَّاحِبَانِ، وَهَيَّجَتهُمَا عَلَى البُكَاءِ، وَلَا زَالَت تَنتظِمُ حَبَّاتُ اللُّؤلُؤِ عَلَى وُجُوهِ العَابِدِينَ كُلَّمَا تَذَكَّرُوا النَّبِيَّ ﷺ.

وَبَعدَ سَنَةٍ ثَقِيلَةِ الخَطَوَاتِ، خَلَت فِيهَا الدُّرُوبُ مِن حَبِيبِنَا مُحَمَّدٍ ﷺ؛ فَلَا أُحُدٌ يَشرُفُ بِهِ وَلَا العَقِيقُ وَلَا العَوَالِي الغَالِيَاتُ.

تَقُولُ عُيُونُ العَابِدِينَ وَأَفئِدَتُهُم: بِأَبِي أَنتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللهِ، فَكَيفَ كَانَ حَالُ الأَصحَابِ وَهُم يَمُرُّونَ بِالبِقَاعِ وَالمَوَاطِنِ الَّتِي عَاشُوا مَعَهُ ﷺ فِيهَا، وَنَزَلَ الوَحيُ فِيهَا، وَدَارَت رَحَى الحَقِّ تَدرُسُ مَعَالِمَ الشِّركِ فِيهَا، كَيفَ كَانَ كُلُّ ذَلِكَ؟! وَكَيفَ مَضَتِ الأَيَّامُ الثِّقَالُ عَلَى الغَالِيَةِ فَاطِمَةَ الزَّهرَاءِ شُهُورًا سِتَّةً وَهِيَ تَنتظِرُ الوُصولَ إِلَيهِ ﷺ؟! مَا هَوَّنَهَا عَلَيهَا غَيرُ تِلكَ البِشَارَةِ: أَنَّهَا أَوَّلُ أَهلِهِ لُحُوقًا بِهِ ﷺ، وَإِنَّمَا كَانَ الصَّبرُ بِانتِظَارِ الاجتِمَاعِ بِمُحَمَّدٍﷺ.

وَتُلَخِّصُ كَلِمَاتُ الصَّحَابَةِ عِندَ الوَفَاةِ الحِكَايَةَ كُلَّهَا، فَإِنَّمَا يَطِيبُ المَوتُ بِاجتِمَاعِ الأَحِبَةِ: مُحَمَّدٍ وَحِزبِهِ، فَقَد كَانَ آخِرَ كَلَامِ عَمَّارِ بنِ يَاسِرٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنهُمَا: «اليَومَ نَلقَى الأَحِبَّةَ: مُحَمَّدًا وَحِزبَهُ».

وَهَاكَ قِصَّةَ ابنِ عَبَّاس رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنهُمَا مَعَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنهَا وَهِيَ تَجُودُ بِنَفسِهَا وَتَمُوتُ، يَروِيهَا مَولَاهَا ذَكوَانُ قَالَ: استَأذَنَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنهُمَا عَلَى عَائِشَةَ وَهِيَ تَمُوتُ وَعِندَهَا ابنُ أَخِيهَا عَبدُ اللهِ بنُ عَبدِ الرَّحمَنِ، فَقَالَ: هَذَا ابنُ عَبَّاسٍ يَستَأذِنُ عَلَيكِ وَهُوَ مِن خَيرِ بَنِيكِ، قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنهُمَا: أَبشِرِي يَا أُمَّ المُؤمِنِينَ، فَوَاللهِ مَا بَينَكِ وَبَينَ أَن يَذهَبَ عَنكِ كُلُّ أَذَىً وَنَصَبٍ وَتَلقَيِ الأَحِبَّةَ: مُحَمَّدًا وَحِزبَهُ .. إِلَّا أَن تُفَارِقَ رُوحُكِ جَسَدَكِ.

إِذًا هُنَاكَ المُلتَقَى … عِندَ الحَبِيبِ المُصطَفَى

فِي دَارِ خُلدٍ مَا بِهَا … إِلَّا السَّعَادَةُ وَالرِّضَا

وَلَمّا تُوُفّيَ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَدُفِنَ وَرَجَعَ المُهَاجِرُونَ وَالأَنصَارُ إلَى رِحَالِهِم وَرَجَعَت فَاطِمَةُ إلَى بَيتِهَا اجتَمَعَ إلَيهَا نِسَاؤُهَا، فَقَالَت:

اغبَرَّ آفَاقُ السَّمَاءِ وَكُوِّرَت … شَمسُ النَّهَارِ وَأَظلَمَ العَصرَانِ

فَالأَرضُ مِن بَعدِ النَّبِيِّ كَئِيبَةٌ … أَسَفًا عَلَيهِ كَثِيرَةَ الرَّجَفَانِ

فَليَبكِهِ شَرقُ البِلَادِ وَغَربُهَا … وَلتَبكِهِ مُضَرٌ وَكُلُّ يَمَانِ

وَليَبكِهِ الطَّودُ المُعَظَّمُ جَوُّهُ … وَالبَيتُ ذُو الأَستَارِ وَالأَركَانِ

يَا خَاتَمَ الرّسُلِ المُبَارَكِ ضَوءُهُ … صَلَّى عَلَيكَ مُنَزِّلُ القُرآنِ

ولكن النبي ﷺ حي في قبره…..

وَرُوِيَ عَن أَبِي حَازِمٍ قَالَ: سَمِعتُ سَعِيدَ بنَ المُسَيَّبِ يَقُولُ: لَقَد رَأَيتُنِي لَيَالِيَ الحَرَّةِ وَمَا فِي المَسجِدِ أَحَدٌ مِن خَلقِ اللَّهِ غَيرِي، وَمَا يَأتِي وَقتُ صَلَاةٍ إِلَّا سَمِعَت أُذُنَايَ الأَذَانَ مِنَ القَبرِ، ثُمَّ تَقَدَّمتُ، فَأَقَمتُ، فَصَلَّيتُ، وَمَا فِي المَسجِدِ أَحَدٌ غَيرِي.

وَكَانَ مَنصُورُ بنُ عَبدِ اللهِ الأَصبَهَانِيُّ يَقُولُ: سَمِعتُ أَبَا الخَيرِ الأَقطَعَ يَقُولُ: دَخَلتُ مَدِينَةَ الرَّسُولِ ﷺ وَأَنَا بِفَاقَةٍ، فَأَقَمتُ خَمسَةَ أَيَّامٍ مَا ذُقتُ ذَوَاقًا، فَتَقَدَّمتُ إِلَى القَبرِ وَسَلَّمتُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ وَعَلَى أَبِي بَكرٍ وَعُمَرَ، وَقُلتُ: أَنَا ضَيفُكَ اللَّيَلَةَ يَا رَسُولَ اللهِ، وَتَنَحَّيتُ وَنِمتُ خَلفَ المِنبَرِ، فَرَأَيتُ النَّبِيَّ ﷺ فِي المَنَامِ، وَأَبُو بَكرٍ عَن يَمِينِهِ، وَعُمَرُ عَن يَسَارِهِ، وَعَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ بَينَ يَدَيهِ، فَحَرَّكَنِي عَلِيٌّ وَقَالَ لِي: قُم، قَد جَاءَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، قَالَ: فَقُمتُ إِلَيهِ، وَقَبَّلتُ بَينَ عَينَيهِ، فَدَفَعَ إِلَيَّ رَغِيفًا فَأَكَلتُ نِصفَهُ، وَانتَبَهتُ فَإِذَا فِي يَدِي نِصفُ رَغِيفٍ.

وَرُوِيَ عَن مُصعَبِ بنِ ثَابِتِ بنِ عَبدِ اللهِ بنِ الزُّبَيرِ، وَكَانَ مُصعَبٌ يُصَلِّي فِي اليَومِ وَاللَّيلِ أَلفَ رَكعَةٍ وَيَصُومُ الدَّهرَ، قَالَ: بِتُّ لَيلَةً فِي المَسجِدِ بَعدَ مَا خَرَجَ النَّاسُ مِنهُ، فَإِذَا رَجُلٌ قَد جَاءَ إِلَى قَبرِ النَّبِيِّ ﷺ، ثُمَّ أَسنَدَ ظَهرَهُ إِلَى الجِدَارِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعلَمُ أَنِّي كُنتُ أُمسِي صَائِمًا ثُمَّ أَمسَيتُ وَلَم أَفطِر عَلَى شَيءٍ، وَإِنِّي أَمسَيتُ أَشتَهِي الثَّرِيدَ فَأَطعِمنِيهِ مِن عِندِكَ، قَالَ: فَنَظَرتُ إِلَى شخصٍ دَخَلَ مِن خَوخَةِ المَنَارَةِ لَيسَ فِي خَلقِ وَصَفَاءِ النَّاسِ، مَعَهُ قَصعَةٌ، فَأَهوَى بِهَا إِلَى الرَّجُلِ فَوَضَعَهَا بَينَ يَدَيهِ، وَجَلَسَ الرَّجُلُ يَأكُلُ وَخَصَّنِي، فَقَالَ: هَلُمَّ، فَجِئتُهُ، فَظَنَنتُ أَنَّهَا مِنَ الجَنَّةِ فَأَحبَبتُ أَن آكُلَ مِنهَا، فَأَكَلتُ مِنهَا لُقمةً فَأَكَلتُ طَعَامًا لا يُشبِهُ طَعَامَ أَهلِ الدُّنيَا، ثُمَّ احتَشَمتُ [أي استحييت] فَقُمتُ فَرَجَعتُ لِمَجلِسِي، فَلَمَّا فَرَغَ مِن أَكلِهِ أَخَذَ الوَصِيفُ [أي الرجل] القَصعَةَ ثُمَّ أَهوَى رَاجِعًا مِن حَيثُ جَاءَ، وَقَامَ الرَّجُلُ مُنصَرِفًا، فَاتَّبَعتُهُ لأَعرِفَهُ فَلا أَدرِي أَينَ سَلَكَ.

وَأَنشَدَ بَعضُ زُوَّارِ قَبرِ رَسُولِ اللهِ ﷺ:

أَتَيتُكَ زَائِرًا وَوَدِدتُ أَنِّي *** جَعَلتُ سَوَادَ عَينِي أَمتَطِيهِ

وَمَا لِي لا أَسِيرُ عَلَى الأَمَاقِي *** إِلَى قَبرٍ رَسُولُ اللهِ فِيهِ

[مَأَقُ العَينِ: طَرَفُهَا مِمَّا يَلِي الأَنفَ، وَهُوَ مَجرَى الدَّمعِ مِنَ العَينِ، أَو مُقَدَّمُهَا أَو مُؤَخَّرُهَا، وَقَالَ ابنُ مَنظُورٍ فِي لِسَانِ العَرَبِ: أَمَقُ العَينِ كَمُوقِهَا]

السؤال الفقهي
إذا انقطع دم النفاس عن المرأة قبل أربعين يوما هل تكون طهرت وعليها الاغتسال للصلاة؟
تنبيه مهم جدا

انتَشَرَ بَينَ بَعضِ النَّاسِ أَنَّهُ إِذَا وَلَدَتِ امرَأَةٌ يَقُولُونَ لَهَا أَنتِ لَا تُصَلِّينَ لِمُدَّةِ أَربَعِينَ يَومًا أَو لَا تُقبَلُ صَلَاتُكِ لِمُدَّةِ أَربَعِينَ يَومًا أَو نَحوَ ذَلِكَ، وَهَذَا لَيسَ دَقِيقًا، بَلِ الصَّوَابُ أَن يُقَالَ لَهَا أَنتِ مَمنُوعَةٌ مِنَ الصَّلَاةِ وَلَا يَجُوزُ لَكِ أَن تُصَلِّي حَتَّى يَنقَطِعَ دَمُ النِّفَاسِ عَنكِ فَتَغتَسِلِي لِرَفعِ الحَدَثِ وَلَو كَانَ ذَلِكَ أَقَلَّ مِن أَربَعِينَ يَومًا، فَقَد يَنزِلُ دَمُ النِّفَاسِ زَمَنًا يَسِيرًا وَقَد يَنزِلُ مُدَّةَ عَشَرَةِ أَيَّامٍ مَثَلًا أَو أَقَلَّ أَو أَكثَرَ مِن ذَلِكَ، فَليُنتَبَه مِن مِثلِ هَذَا القَولِ.

مختارات من الأدعية والأذكار
مَا يَقُولُ مَن ضَاعَ لَهُ شَيءٌ
عَن عُمَرَ بنِ كَثِيرِ بنِ أَفلَحَ قَالَ: كَانَ ابنُ عُمَرَ يَقُولُ لِلرَّجُلِ إِذَا أَضَلَّ شَيئًا: «قُلِ: اللهم رَبَّ الضَّالَّةِ، هَادِيَ الضَّالَّةِ، تَهدِي مِنَ الضَّلَالَةِ، رُدَّ عَلَيَّ ضَالَّتِي بِقُدرَتِكَ وَسُلطَانِكَ مِن عَطَائِكَ وَفَضلِكَ». رَوَاهُ البَيهَقِيُّ فِي الدَّعَوَاتِ.

وَرُوِيَ أَنَّ مَن ضَاعَ لَهُ شَيءٌ يَقرَأُ سُورَةَ الضُّحَى، وَأَنَّهُ يَقُولُ: اللهم يَا جَامِعَ النَّاسِ لِيَومٍ لَا رَيبَ فِيهِ اجمَعنِي مَعَ ضَالَّتِي.

الدعاء الختامي
الحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِي رَسُولِ اللهِ،

الحَمدُ للهِ الَّذِي تَوَاضَعَ كُلُّ شَيءٍ لِعَظَمَتِهِ وَذَلَّ كُلُّ شَيءٍ لِعِزَّتِهِ وَخَضَعَ كُلُّ شَيءٍ لِمُلكِهِ وَاستَسلَمَ كُلُّ شَيءٍ لِقُدرَتِهِ وَتَصَاغَرَ كُلُّ شَيءٍ لِكِبرِيَائِهِ،

اللهم إِنَّا نَسأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الأَمرِ وَالعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشدِ وَنَسأَلُكَ شُكرَ نِعمَتِكَ وَحُسنَ عِبَادَتِكَ وَنَسأَلُكَ قَلبًا خَاشِعًا سَلِيمًا وَلِسَانًا صَادِقًا وَعَمَلًا مُتَقَبَّلًا وَنَسأَلُكَ مِن خَيرِ مَا تَعلَمُ وَنَعُوذُ بِكَ مِن شَرِّ مَا تَعلَمُ وَنَستَغفِرُكَ لِمَا تَعلَمُ فَإِنَّكَ تَعلَمُ وَلَا نَعلَمُ وَأَنتَ عَلَّامُ الغُيُوبِ،

اللهم اغفِر لَنَا مَا قَدَّمنَا وَمَا أَخَّرنَا وَمَا أَسرَرنَا وَمَا أَعلَنَّا وَمَا أَنتَ أَعلَمُ بِهِ مِنَّا فَإِنَّكَ أَنتَ المُقَدِّمُ وَأَنتَ المُؤَخِّرُ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ وَعَلَى كُلِّ غَيبٍ شَهِيدٌ،

اللهم بِعِلمِكَ الغَيبَ وَقُدرَتِكَ عَلَى الخَلقِ أَحيِنَا مَا كَانَتِ الحَيَاةُ خَيرًا لَنَا وَتَوَفَّنَا مَا كَانَتِ الوَفَاةُ خَيرًا لَنَا وَنَسأَلُكَ خَشيَتَكَ فِي الغَيبِ وَالشَّهَادَةِ وَكَلِمَةَ العَدلِ فِي الرِّضَا وَالغَضَبِ وَالقَصدَ فِي الغِنَى وَالفَقرِ،

اللهم زَيِّنَا بِزِينَةِ الإِيمَانِ وَاجعَلنَا هُدَاةً مُهتَدِينَ،

اللهم اجعَلنَا مِن أَولِيَائِكَ المُتَّقِينَ وَحِزبِكَ المُفلِحِينَ وَعِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَاستَعمِلنَا لِمَرضَاتِكَ عَنَّا،

اللهم مَن أَرَادَ بِفِلَسطِينَ أَو بِأَهلِهَا السُّوءَ فَاجعَل دَائِرَةَ السَّوءِ تَدُورُ عَلَيهِ يَا رَبَّ العَالَمِينَ. اللهم كُن لِأَهلِ غَزَّةَ عَونًا وَنَصِيرًا، وَبَدِّل خَوفَهُم أَمنًا. اللهم ارزُق إِخوَانَنَا فِي فِلَسطِينَ الصُّمُودَ وَالقُوَّةَ فِي وَجهِ الطُّغيَانِ وَانصُرهُم. اللهم أَنجِ المُستَضعَفِينَ مِنَ المُؤمِنِينَ. اللهم وَرُدَّ إِلَينَا المَسجِدَ الأَقصَى رَدًّا جَمِيلًا.

اللهم إِنَّا نَبرَأُ مِن حَولِنَا وَقُوَّتِنَا وَتَدبِيرِنَا إِلَى حَولِكَ وَقُوَّتِكَ وَتَدبِيرِكَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ لَا يُعجِزُكَ شَيءٌ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ.

رَبَّنَا ءَاتِنَا فِي الدُّنيَا حَسَنَةً، وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ،

اللهم أَعِنَّا عَلَى ذِكرِكَ وَشُكرِكَ وَحُسنِ عِبَادَتِكَ، اللهم أَعِنَّا عَلَى ذِكرِكَ وَشُكرِكَ وَحُسنِ عِبَادَتِكَ، اللهم أَعِنَّا عَلَى ذِكرِكَ وَشُكرِكَ وَحُسنِ عِبَادَتِكَ

اللهم أَعِنَّا عَلَى الصِّيَامِ وَالقِيَامِ وَتَقَبَّل مِنَّا يَا رَبَّ العَالَمِينَ، اللهم اجعَلنَا مِن عُتَقَاءِ هَذَا الشَّهرِ الكَرِيمِ وَمِنَ المَقبُولِينَ يَا أَكرَمَ الأَكرَمِينَ، اللهم أَعتِقنَا فِيهِ مِنَ النِّيرَانِ يَا اللهُ يَا اللهُ يَا اللهُ، اللهم أَرِنَا لَيلَةَ القَدرِ المُبَارَكَةَ يَا رَبَّ العَالَمِينَ وَارزُقنَا فِيهَا دَعوَةً مُجَابَةً بِجَاهِ سَيِّدِ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ يَا اللهُ. اللهم ارزُقنَا حُسنَ الخِتَامِ وَالمَوتَ عَلَى دِينِكَ دِينِ الإِسلَامِ وَرُؤيَةَ سَيِّدِ الأَنَامِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ ﷺ.

اللهم إِنَّا دَعَونَاكَ فَاستَجِب لَنَا دُعَاءَنَا وَاغفِرِ اللهم لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسرَافَنَا فِي أَمرِنَا وَمَا أَنتَ أَعلَمُ بِهِ مِنَّا وَارزُق كُلَّ مَن حَضَرَ وَاستَمَعَ لِلدَّرسِ سُؤلَهُ مِنَ الخَيرِ وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ وَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ وَسَلِّم تَسلِيمًا كَثِيرًا إِلَى يَومِ الدِّينِ.

وَآخِرُ دَعوَانَا أَنِ الحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ

 

شاهد أيضاً

شرح دعاء “اللهم إني أسألك من الخير كله” ودلالاته في طلب الجنة والوقاية من النار

المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم الحمدُ لله الذي أنزلَ على عبده الكتاب ولم يجعل لهُ …