أشراط الساعة: بين التحذير والاستعداد

المقدمة

الحَمدُ للهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ، العَظِيمِ الجَبَّارِ، فَهُوَ سَمِيعٌ وَسَمعُهُ لَا كَالأَسمَاعِ، بَصِيرٌ وَبَصَرُهُ لَا كَالأَبصَارِ، قَادِرٌ مُرِيدٌ حَكِيمٌ عَلِيمٌ بِالأَسرَارِ، صِفَاتُهُ كَذَاتِهِ وَالمُشَبِّهَةُ فُجَّارٌ، هُوَ سُبحَانَهُ الَّذِي خَلَقَنَا فِي هَذِهِ الدُّنيَا وَجَعَلَهَا دَارًا لِلبَلوَى وَالِاختِبَارِ، وَأَعَدَّ لِبَعضِ عِبَادِهِ الجَنَّةَ وَلِبَعضٍ جَعَلَ لَهُمُ النَّارَ، فَعَظُمَ لِذَلِكَ الخَطَرُ، وَطَالَ لِذَلِكَ الحُزنُ لِمَن عَقِلَ وَادَّكَرَ، وَجَعَلَ نِهَايَتَهَا السَّاعَةَ وَالسَّاعَةُ أَدهَى وَأَمَرُّ،

فَإِلَى اللهِ أَرغَبُ فِي التَّوفِيقِ، وَإِيَّاهُ أَسأَلُ العَفوَ عَنِ الذُّنُوبِ، وَبِهِ أَستَعِينُ فِي كُلِّ الأُمُورِ، هُوَ الَّذِي جَعَلَ الدُّنيَا دَارَ عُبُورٍ وَاعتِبَارٍ، يَفتَقِرُ مَلَّاحُ سَفِينَتِهَا إِلَى حَذَقٍ وَاصطِبَارٍ، وَلَم يَرضَهَا لِأَولِيَائِهِ فَجَعَلَ لَهُم غَيرَ هَذِهِ الدَّارِ، وَبَالَغَ فِي ذَمِّهَا وَيَكفِي مَا فِيهَا مِنَ الأَكدَارِ، وَهَل مَتَاعُ الدُّنيَا إِلَّا عَارِيَةٌ تُعَارُ؟! أَسَمِعتُم عُيُوبَ العَاجِلَةِ؟! أَوَأُنَبِّئُكُم بِخَيرٍ مِن ذَلِكُم؟ ﴿لِلَّذِينَ اتَّقَوا عِندَ رَبِّهِم جَنَّاتٌ تَجرِى مِن تَحتِهَا الأَنهَارُ﴾.

وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ أَفضَلُ الأَنبِيَاءِ الأَطهَارِ، صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَعَلَى أَبِي بَكرٍ رَفِيقِهِ فِي الغَارِ، وَعَلَى عُمَرَ قَامِعِ الكُفَّارِ، وَعَلَى عُثمَانَ شَهِيدِ الدَّارِ، وَعَلَى عَلِيٍّ القَائِمِ بِالأَسحَارِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ وَأَخُصُّ بِالذِّكرِ الجَمِيلِ مِنهُمُ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارَ، وَمَن سَارَ عَلَى دَربِهِم إِلَى يَومِ القَرَارِ، أَمَّا بَعدُ:

اغتنام الأوقات بالطاعة ولا سيما في رمضان
يَقُولُ اللهُ تَعَالَى فِي القُرآنِ العَظِيمِ: ﴿وَلَقَد أَرسَلنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَن أَخرِج قَومَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرهُم بِأَيَّامِ اللهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾، وَهَا هِيَ الأَيَّامُ قَدِ استَدَارَت وَالأَزمَانُ قَد قُطِعَت وَتَعَاقَبَتِ اللَّيَالِي وَجَاءَ أَشرَفُ الأَشهُرِ شَهرُ رَمَضَانَ، شَهرُ القُرآنِ، شَهرُ التَّرَاوِيحِ، شَهرُ الصِّيَامِ، شَهرُ لَيلَةِ القَدرِ، شَهرُ جِهَادِ النَّفسِ وَالهَوَى، شَهرُ العِلمِ وَالعُلَمَاءِ، هَذَا الشَّهرُ الَّذِي لَو أَرَدنَا بَسطَ الكَلَامِ فِي فَضَائِلِهِ لَطَالَتِ المَجَالِسُ وَكَلَّتِ الأَقلَامُ، وَكَثُرَتِ الكَلِمَاتُ، وَلَا أَبلَغَ فِي وَصفِهِ مِمَّا نَقرَأُهُ فِي كِتَابِ اللهِ حَيثُ قَالَ سُبحَانَهُ: ﴿شَهرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ القُرآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الهُدَى وَالفُرقَانِ﴾.

فَيَنبَغِي لِمَن عَرَفَ فَضلَ هَذَا الشَّهرِ أَن يَتَعَرَّضَ لِنَفَحَاتِ الخَيرِ وَالبَرَكَاتِ الَّتِي لَا يَعلَمُهَا أَكثَرُ النَّاسِ، بَل وَيَغفُلُونَ عَنهَا، وَيَنبَغِي أَن لَا يُضَيِّعَ المُؤمِنُ مِنهُ لَحظَةً، وَأَن لَا يَشغَلَ سَاعَةً مِن سَاعَاتِهِ إِلَّا بِطَاعَةٍ لِمَولَاهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَد رَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «افعَلُوا الخَيرَ دَهرَكُم، وَتَعَرَّضُوا ‌لِنَفَحَاتِ ‌رَحمَةِ ‌اللهِ، فَإِنَّ لِلَّهِ نَفَحَاتٍ مِن رَحمَتِهِ يُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ مِن عِبَادِهِ، وَسَلُوا اللهَ أَن يَستُرَ عَورَاتِكُم، وَأَن يُؤَمِّنَ رَوعَاتِكُم».

فَأَيَّامُ العُمُرِ تَتَقَلَّبُ، وَلَحَظَاتُهُ تَضِيعُ، إِلَّا مَا شَغَلتَهُ فِي طَاعَةِ رَبِّكَ عَزَّ وَجَلَّ، فَقَد رَوَى التِّرمِذِيُّ بِإِسنَادٍ حَسَنٍ عَن أَبِي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «أَلَا إِنَّ الدُّنيَا مَلعُونَةٌ، ‌مَلعُونٌ ‌مَا ‌فِيهَا، إِلَّا ذِكرَ اللهِ تَعَالَى، وَمَا وَالَاهُ [أَي مَا أَعَانَ عَلَيهِ]، وَعَالِمًا وَمُتَعَلِّمًا»،

وَإِذَا نَظَرتُم إِلَى شُهُورِ العَامِ فَلَن تَجِدُوا أَعظَمَ مِن شَهرِكُم هَذَا وَلَا تَجِدُونَ أَعَزَّ مِن لَحَظَاتِهِ، وَالعَزِيزُ لَا تَشغَلهُ إِلَّا بِالعَزِيزِ.

رُوِيَ عَن عِيسَى عَلَيهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ هَذَا اللَّيلَ وَالنَّهَارَ خِزَانَتَانِ، فَانظُرُوا مَا تَضَعُونَ فِيهِمَا.

فَالأَيَّامُ خَزَائِنُ لِلنَّاسِ مُمتَلِئَةٌ بِمَا خَزَنُوهُ فِيهَا مِن خَيرٍ وَشَرٍّ، وَفِي يَومِ القِيَامَةِ تُفتَحُ هَذِهِ الخَزَائِنُ لِأَهلِهَا، فَالمُتَّقُونَ يَجِدُونَ فِي خَزَائِنِهِمُ العِزَّ وَالكَرَامَةَ، وَالمُذنِبُونَ يَجِدُونَ فِي خَزَائِنِهِمُ الحَسرَةَ وَالنَّدَامَةَ، فَهَنِيئًا لَكُم مَعَاشِرَ المُؤمِنِينَ الصَّائِمِينَ التَّالِينَ لِكِتَابِ اللهِ المُتَعَلِّمِينَ لِأَحكَامِ الشَّرعِ الحَنِيفِ، هَنِيئًا لَكُمُ البِشَارَةُ وَالفَضلُ الَّذِي جَعَلَهُ اللهُ لَكُم، هَنِيئًا لَكُم أَيُّهَا العُمَّارُ لِلمَسَاجِدِ، طُوبَى لِمَن كَانَ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ فِي رَكبِ القَائِمِ السَّاجِدِ.

قَالَ يَعقُوبُ بنُ يُوسُفَ الحَنَفِيُّ: بَلَغَنَا أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ لِأَولِيَائِهِ يَومَ القِيَامَةِ: يَا أَولِيَائِي! طَالَمَا كُنتُم فِي الدُّنيَا قَد قَلَصَت شِفَاهُكُم عَنِ الأَشرِبَةِ وَغَارَت أَعيُنُكُم وَخَفَقَت بُطُونُكُم! كُونُوا اليَومَ فِي نَعِيمِكُم، وَتَعَاطَوُا الكَأسَ فِيمَا بَينَكُم، وَكُلُوا وَاشرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسلَفتُم فِي الأَيَّامِ الخَالِيَةِ. اهـ

نَعَم، هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُقَالُ لَهُم يَومَ القِيَامَةِ مَا أَخبَرَ اللهُ عَنهُ فِي القُرآنِ الكَرِيمِ: ﴿كُلُوا وَاشرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسلَفتُم فِي الأَيَّامِ الخَالِيَةِ﴾، قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيرُهُ: نَزَلَت فِي الصَّائِمِينَ، أَي كُلُوا وَاشرَبُوا بَدَلَ مَا أَمسَكتُم عَنِ الأَكلِ وَالشُّربِ لِوَجهِ اللهِ تَعَالَى.

وَرَوَى ابنُ أَبِي الدُّنيَا عَنِ الحَسَنِ البِصرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: “تَقُولُ الحَورَاءُ -أَيِ الوَاحِدَةُ مِنَ الحُورِ العِينِ فِي الجَنَّةِ- لِوَلِيِّ اللهِ وَهُوَ مُتَّكِئٌ مَعَهَا عَلَى نَهَرِ العَسَلِ تُعطِيهِ الكَأسَ مِن شَرَابِ الجَنَّةِ: يَا نِعمَ هَذِهِ العِيشَة؛ أَتَدرِي يَا حَبِيبَ اللهِ مَتَى زَوَّجَنِيكَ مَولَايَ؟ (أَي بِسَبَبِ أَيِّ عَمَلٍ عَمِلتَهُ) فَيَقُولُ: لَا أَدرِي، فَتَقُولُ: كُنتَ فِي يَومٍ صَائِفٍ بَعِيدِ الطَّرَفَينِ (أَي كَانَ يَومًا طَوِيلًا)، وَأَنتَ فِي ظَمَأِ هَاجِرَةٍ مِن جَهدِ العَطَشِ، فَبَاهَى بِكَ المَلَائِكَةَ، وَقَالَ: انظُرُوا إِلَى عَبدِي، تَرَكَ زَوجَتَهُ، ‌وَشَهوَتَهُ ‌وَلَذَّتَهُ، ‌وَطَعَامَهُ ‌وَشَرَابَهُ مِن أَجلِي رَغبَةً فِيمَا عِندِي، أُشهِدُكُم أَنِّي قَد غَفَرتُ لَهُ، فَغَفَرَ لَكَ يَومَئِذٍ وَزَوَّجنِيكَ”.

الحث على الزهد في الدنيا
عَرَفَ الصَّالِحُونَ هَذِهِ الفَضَائِلَ، فَضَائِلَ الصِّيَامِ، وَفَضَائِلَ رَمَضَانَ، فَهَبُّوا لِذَلِكَ دُونَ تَرَدُّدٍ وَلَا تَعَلُّقٍ بِهَذِهِ الدُّنيَا الفَانِيَةِ، فَلَيسَتِ العِبرَةُ بِكَثرَةِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، بَلِ الأَحسَنُ التَّقلِيلُ مِن ذَلِكَ، رُوِيَ عَنِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أَنَّهُ «كَانَت لَهُ كُلَّ يَومٍ إِحدَى عَشرَةَ لُقمَةً».

وَرُوِيَ عَن مُحَمَّدِ بنِ قَيسٍ قَالَ: قَدِمَ نَاسٌ عَلَى حَفصَةَ بِنتِ عُمَرَ فَقَالُوا: إِنَّ أَمِيرَ المُؤمِنِينَ قَد بَدَا عِلبَاءُ رَقَبَتِهِ (هِيَ العَصَبَةُ المُمتَدَّةُ فِي العُنُقِ) مِنَ الهُزَالِ، فَلَو قُلتِ لَهُ أَن يَأكُلَ طَعَامًا هُوَ أَليَنُ مِن طَعَامِهِ، وَيَلبَسَ ثِيَابًا أَليَنَ مِن ثِيَابِهِ، فَقَد رَأَينَا إِزَارَهُ مُرَقَّعًا بِرُقَعٍ غَيرِ لَونِ ثَوبِهِ، وَيَتَّخِذَ فِرَاشًا أَليَنَ مِن فِرَاشِهِ، فَقَد أَوسَعَ اللَّهُ عَلَى المُسلِمِينَ، فَيَكُونَ ذَلِكَ أَقوَى لَهُ عَلَى أَمرِهِم، فَبَعَثُوا إِلَيهِ حَفصَةَ، فَذَكَرَت ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: «أَخبِرِينِي بِأَليَنِ فِرَاشٍ فَرَشتِيهِ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَطُّ؟» قَالَت: عَبَاءَةٌ أُثَنِّيهَا لَهُ بِاثنَينِ، فَلَمَّا غَلَظَت عَلَيهِ جَعَلتُهَا لَهُ بِأَربَعَةٍ قَالَ: «فَأَخبِرِينِي بِأَجوَدِ ثَوبٍ لَبِسَهُ؟» قَالَت: نَمِرَةٌ صَنَعنَاهَا لَهُ، فَرَآهَا إِنسَانٌ قَالَ: اكسُنِيهَا، فَأَعطَاهَا إِيَّاهُ، قَالَ «وَاللَّهِ إِنِّي لَأَشتَهِي الطَّعَامَ، وَلَكِنَّ صَاحِبَيَّ (يَقصِدُ رَسُولَ اللهِ وَأَبَا بَكرٍ) سَلَكَا طَرِيقًا، فَأَخَافُ اختِلَافَهُمَا فَيُخَالَفُ بِي».

وَقَالَ عُثمَانُ أَبُو إِبرَاهِيمَ وَهُوَ مِن جُلَسَاءِ مَالِكِ بنِ دِينَارٍ: سَمِعتُ مَالِكًا قَالَ لِرَجُلٍ مِن إِخوَانِهِ: «إِنِّي لَأَشتَهِي رَغِيفًا لَيِّنًا ثَخِينًا بِلَبَنٍ رَائِبٍ» قَالَ: فَانطَلَقَ، فَجَاءَهُ بِهِ، فَجَعَلَ يَنظُرُ إِلَيهِمَا، ثُمَّ قَالَ: «إِنِّي اشتَهَيتُكَ مُنذُ أَربَعِينَ سَنَةً فَغَلَبتُكَ، أَفَأَرَدتَ أَن تَغلِبَنِي الآنَ؟ ارفَعهُ عَنِّي» وَأَبَى أَن يَأكُلَهُ.اهـ

وَرَأَى بَعضُهُم بِشرَ بنَ الحَارِثِ المَعرُوفَ بِبِشرٍ الحَافِي فِي المَنَامِ بَعدَ مَوتِهِ وَبَينَ يَدَيهِ مَائِدَةٌ وَهُوَ يَأكُلُ وَيُقَالُ لَهُ (تُنَادِيهِ المَلَائِكَةُ): كُل يَا مَن لَم يَأكُل! وَاشرَب يَا مَن لَم يَشرَب!

وَاجتَازَ بَعضُ العَارِفِينَ بِمُنَادٍ يُنَادِي عَلَى السَّحُورِ فِي رَمَضَانَ: يَا مَا خَبَّأنَا لِلصَّائِمِينَ! فَتَنَبَّهَ بِهَذِهِ الكَلِمَةِ وَأَكثَرَ مِنَ الصِّيَامِ.اهـ

هَؤُلَاءِ عَرَفُوا أَنَّ مَن تَرَكَ للهِ فِي الدُّنيَا طَعَامًا وَشَرَابًا وَشَهوَةً مُدَّةً يَسِيرَةً عَوَّضَهُ اللهُ عِندَهُ طَعَامًا وَشَرَابًا لَا يَنفَدُ وَأَزوَاجًا لَا يَمُتنَ أَبَدًا.

وَقَد قَالَ بَعضُ الفُقَهَاءِ: شَهرُ رَمَضَانَ فِيهِ يُزَوَّجُ الصَّائِمُونَ (أَي مِنَ الحُورِ العِينِ فِي الآخِرَةِ جَزَاءً لَهُم عَلَى صِيَامِهِم).

كَانَ بَعضُ الصَّالِحِينَ كَثِيرَ التَّهَجُّدِ وَالصِّيَامِ، فَصَلَّى لَيلَةً فِي المَسجِدِ وَدَعَا، فَغَلَبَتهُ عَينَاهُ، فَرَأَى فِي مَنَامِهِ جَمَاعَةً عَلِمَ أَنَّهُم لَيسُوا مِنَ الآدَمِيِّينَ، بِأَيدِيهِم أَطبَاقٌ عَلَيهَا أَرغِفَةٌ بِبَيَاضِ الثَّلجِ، فَوقَ كُلِّ رَغِيفٍ دُرٌّ أَمثَالُ الرُّمَّانِ. فَقَالُوا: كُل. فَقَالَ: إِنِّي أُرِيدُ الصَّومَ. قَالُوا لَهُ: يَأمُرُكَ صَاحِبُ هَذَا البَيتِ أَن تَأكُلَ. قَالَ: فَأَكَلتُ، وَجَعَلتُ آخُذُ ذَلِكَ الدُّرَّ لِأَحتَمِلَهُ. فَقَالُوا لِي: دَعهُ نَغرِسْهُ لَكَ شَجَرًا يُنبِتُ لَكَ خَيرًا مِن هَذَا. قَالَ: أَينَ؟ قَالُوا: فِي دَارٍ لَا تَخرَبُ وَثَمَرٍ لَا يَتَغَيَّرُ وَمُلكٍ لَا يَنقَطِعُ وَثِيَابٍ لَا تَبلَى، فِيهَا رِضوَانٌ وَقُرَّةُ أَعيُنٍ، أَزوَاجٌ رَضِيَّاتٌ مَرضِيَّاتٌ رَاضِيَاتٌ، لَا يَغِرنَ وَلَا يُغَرنَ، فَعَلَيكَ بِالِانكِمَاشِ فِيمَا أَنتَ؛ فَإِنَّمَا هِيَ غَفوَةٌ حَتَّى تَرتَحِلَ فَتَنزِلَ الدَّارَ. فَمَا مَكَثَ بَعدَ هَذِهِ الرُّؤيَا إِلَّا جُمُعَتَينِ حَتَّى تُوُفِّيَ، فَرَآهُ لَيلَةَ وَفَاتِهِ فِي المَنَامِ بَعضُ أَصحَابِهِ الَّذِينَ حَدَّثَهُم بِرُؤيَاهُ وَهُوَ يَقُولُ: أَلَا تَعجَبُ مِن شَجَرٍ غُرِسَ لِي فِي يَومِ حَدَّثتُكَ وَقَد حَمَلَ؟! فَقَالَ لَهُ: مَا حَمَلَ؟! قَالَ: لَا تَسأَل، لَا يَقدِرُ أَحَدٌ عَلَى صِفَتِهِ. لَم يُرَ مِثلُ الكَرِيمِ إِذَا حَلَّ بِهِ مُطِيعٌ. اهـ

وَقَد قَالَ بَعضُ الوُعَّاظِ: يَا قَومِ! أَلَا خَاطِبٌ فِي هَذَا الشَّهرِ إِلَى الرَّحمَنِ؟! أَلَا رَاغِبٌ فِيمَا أَعَدَّهُ اللهُ تَعَالَى لِلطَّائِعِينَ فِي الجِنَانِ؟! أَلَا طَالِبٌ لِمَا أَخبَرَ بِهِ مِنَ النَّعِيمِ المُقِيمِ مَعَ أَنَّهُ لَيسَ الخَبَرُ كَالعِيَانِ؟

مَن يُرِد مُلكَ الجِنَانِ … فَليَدَع عَنهُ التَّوَانِي

وَليَقُم فِي ظُلمَةِ اللَيـ … ـلِ إِلَى نُورِ القُرَانِ

وَليَصِل صَومًا بِصَومٍ … إِنَّ هَذَا العَيشَ فَانِي

مَن صَامَ عَن شَهَوَاتِهِ فِي الدُّنيَا؛ أَدرَكَهَا غَدًا فِي الجَنَّةِ.

إِخوَانِي: تَفَكَّرُوا لِمَاذَا خُلِقتُم، وَامتَثِلُوا أَمرَ الإِلَهِ فَقَد أَمَرَ عِبَادَهُ بِالعِبَادَةِ، وَالتَفِتُوا عَن أَسبَابِ الشَّقَاءِ إِلَى أَسبَابِ السَّعَادَةِ، وَاعلَمُوا أَنَّكُم فِي نَقصٍ مِنَ الأَعمَارِ لَا فِي زِيَادَةٍ.

أَيُّهَا الغَافِلُ عَن فَضِيلَةِ هَذَا الشَّهرِ اعرِف زَمَانَكَ، يَا كَثِيرَ الحَدِيثِ فِيمَا يُؤذِيكَ احفَظ لِسَانَكَ، يَا مَسؤُولًا عَن أَعمَالِهِ اعقِل شَانَكَ، يَا مُتَلَوِّثًا بِالزَّلَلِ اغسِل بِالتَّوبَةِ مَا شَانَكَ، يَا مَكتُوبًا عَلَيهِ كُلُّ قَبِيحٍ تَصَفَّح دِيوَانَكَ.

وَقَد عَرَفَ هَذِهِ العِبَرَ سَلَفُنَا الصَّالِحُ فَتَجَهَّزُوا وَجَهَّزُوا وَمَضَوا إِلَى طَرِيقِ الآخِرَةِ وَعَلِمُوا أَنَّ مَن صَدَقَ اللهَ بِالعِبَادَةِ أَعَانَهُ اللهُ عَلَيهَا،

فَقَدِ اعتَكَفَ أَبُو مُحَمَّدٍ الجُرَيرِيُّ فِي الحَرَمِ سَنَةً لَم يَمُدَّ رِجلَهُ وَلَم يَضطَجِع، فَقِيلَ لَهُ: كَيفَ قَدَرتَ عَلَى هَذَا؟ فَقَالَ: عَلِمَ صِدقَ بَاطِنِي فَأَعَانَنِي عَلَى ظَاهِرِي.

إِخوَانِي: كَم مُؤَمِّلٍ إِدرَاكَ شَهرٍ مَا أَدرَكَهُ، فَاجَأَهُ المَوتُ بَغتَةً فَأَهلَكَهُ، أَيُّهَا المُجتَهِدُ هَذَا رَبِيعُ جِدِّكَ، أَيُّهَا الطَّالِبُ هَذِهِ أَوقَاتُ عِبَادَتِكَ، تَيَقَّظ أَيُّهَا الغَافِلُ مِن سِنَةِ البَطَالَةِ، ابتَعِد أَيُّهَا الجَاهِلُ عن شُبَهِ الضَّلَالَةِ، اغتَنِم سَلَامَتَكَ فِي شَهرِكَ، قَبلَ أَن تُرتَهَنَ فِي قَبرِكَ، قَبلَ انقِرَاضِ مُدَّتِكَ، وَعُثُورِ قَدَمِكَ، وَظُهُورِ نَدَمِكَ، فَإِنَّ العُمُرَ سَاعَاتٌ تَذهَبُ، وَأَوقَاتٌ تُنهَبُ، وَكُلُّهَا مَعدُودٌ عَلَيكَ، وَالمَوتُ يَدنُو كُلَّ لَحظَةٍ إِلَيكَ.

كَانَ السَّرِيُّ السَّقَطِيُّ يَقُولُ: السَّنَةُ شَجَرَةٌ، وَالشُّهُورُ فُرُوعُهَا، وَالأَيَّامُ أَغصَانُهَا، وَالسَّاعَاتُ أَورَاقُهَا، وَأَنفَاسُ العِبَادِ ثَمَرَتُهَا، فَشَهرُ رَجَبٍ أَيَّامُ تَورِيقِهَا، وَشَعبَانُ أَيَّامُ تَفرِيعِهَا، وَرَمَضَانُ أَيَّامُ قَطفِهَا، وَالمُؤمِنُونَ قُطَّافُهَا.

هَذِهِ الأَشهُرُ الثَّلَاثُ المُعَظَّمَةُ كَالجَمَرَاتِ الثَّلَاثِ، فَرَجَبٌ كَأَوَّلِ جَمرَةٍ تُحمَى بِهَا العَزَائِمُ، وَشَعبَانُ كَالثَّانِيَةِ تَذُوبُ فِيهَا مِيَاهُ العُيُونِ، وَرَمَضَانُ كَالثَّالِثَةِ تُورِقُ فِيهَا أَشجَارُ المُجَاهَدَاتِ… وَأَيُّ شَجَرَةٍ لَم تُورِق فِي الرَّبِيعِ… قُطِعَت لِلحَطَبِ!…

فَيَا مَن قَد ذَهَبَت عَنهُ هَذِهِ الأَشهُرُ وَمَا تَغَيَّرَ… أَحسَنَ اللَّهُ عَزَاءَكَ!… تَاللَّهِ لَو قِيلَ لأَهلِ القُبُورِ تَمَنَّوا… لَتَمَنَّوا يَومًا مِن رَمَضَانَ.

آنَ الرَّحِيلُ وَدَنَا السَّفَرُ، وَعِندَ المَمَاتِ يَأتِيكَ الخَبَرُ، كُلَّمَا خَرَجتَ مِن ذُنُوبٍ دَخَلتَ فِي أُخَرَ، يَا قَلِيلَ الصَّفَا إِلَى كَم هَذَا الكَدَرُ، أَنتَ فِي رَمَضَانَ كَمَا كُنتَ فِي صَفَرٍ، إِذَا خَسِرتَ فِي هَذَا الشَّهرِ فَمَتَى تَربَحُ، وَإِذَا لَم تُسَافِر فِيهِ نَحوَ الفَوَائِدِ فَمَتَى تَبرَحُ.

رَوَى ابنُ عَسَاكِرَ عَن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: “لَو أَذِنَ اللهُ لِلسَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ أَن تَتَكَلَّمَا لَبَشَّرَتَا مَن صَامَ رَمَضَانَ بِالجَنَّةِ“.

يَا إِخوَتِي جَاءَ شَهرُ الصِّيَامِ، وَهُوَ يُوَافِي مَرَّةً كُلَّ عَامٍ، فَعَظِّم حُرمَتَهُ فَإِنَّهُ أَولَى شُهُورِ العَامِ بِالِاحتِرَامِ، صُومُوا وَصُونُوا الصَّومَ عَن كُلِّ مَا يُفسِدُهُ مِن عَمَلٍ أَو كَلَامٍ، وَاجتَنِبُوا الغِيبَةَ فِي صَومِكُم وَالفُحشَ وَالكِبرَ وَأَكلَ الحَرَامِ، وَسَبِّحُوا مَولَاكُم وَاقرَؤُوا كِتَابَهُ فَهُوَ شِفَاءُ السَّقَامِ، ثُمَّ إِذَا أَفطَرتُم فَاحمَدُوا اللهَ عَلَى الشُّربِ وَأَكلِ الطَّعَامِ، وَلَا تَتَوَانَوا فِي التَّرَاوِيحِ وَفِي صَومِكُم وَفِي مَجَالِسِ العِلمِ وَالقِيَامِ، وَنَزِّهُوا لَيلَهُ عَنِ الدَّنَايَا وَارتِكَابِ الآثَامِ، لَعَلَّكُم إِن قُمتُم بِالَّذِي قُلتُ لَكُم تَحظَوا بِدَارِ السَّلَامِ.

اغتنام أوقات رمضان في طلب العلم ونشره
أَحبَابِي: لَقَد عَوَّدنَاكُم فِي جَمعِيَّتِكُمُ المُبَارَكَةِ هَذِهِ كُلَّ سَنَةٍ أَن نَخُصَّ شَهرَ رَمَضَانَ المُبَارَكَ بِعُنوَانِ خَيرٍ وَبَرَكَةٍ وَعَوَّدنَاكُم أَن تَشغَلُوا لَيَالِيَ رَمَضَانَ وَأَيَّامَهُ بِمَجَالِسِ العِلمِ وَتَعَلُّمِ أَبوَابِ الشَّرِيعَةِ وَعُلُومِهَا، فَإِنَّ مِن أَفضَلِ مَا نَشغَلُ أَوقَاتَنَا بِهِ فِي هَذَا الشَّهرِ العَظِيمِ مَجَالِسَ عِلمِ الدِّينِ وَمُذَاكَرَةَ مَسَائِلِ الشَّرِيعَةِ وَالتَّفَكُّرَ فِي أَحوَالِ نَبِيِّنَا ﷺ كَيفَ كَانَ فِي رَمَضَانَ وَفِي غَيرِهِ وَفِي حَالِ مَن قَبلَنَا كَيفَ صَامُوا وَقَامُوا وَعَمِلُوا وَقَدَّمُوا لِآخِرَتِهِم وَزَهِدُوا فِي هَذِهِ الدُّنيَا وَنَظَرُوا إِلَى نَعِيمِ رَبِّهِم عَزَّ وَجَلَّ، وَهَذَا مِن بَابِ الِاشتِغَالِ بِعِبَادَةٍ هِيَ مِن أَعظَمِ العِبَادَاتِ وَهِيَ الِاشتِغَالُ بِعِلمِ الدِّينِ، فَإِنَّ فِي العِلمِ شَرَفًا وَمَكَانَةً لَا يَعلَمُهَا إِلَّا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، كَفَى العِلمَ شَرَفًا وَفَخرًا أَنَّ اللهَ مَنَحَهُ لِأَنبِيَائِهِ وَجَعَلَهُ مِيرَاثَهُم، وَأَعطَاهُ لِأَولِيَائِهِ وَجَعَلَهُ وَسِيلَةً إِلَى الحَيَاةِ وَالنَّعِيمِ الأَبَدِيِّ فِي جَنَّةٍ عَرضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرضُ، وَجَعَلَهُ سَبَبًا لِلفَوزِ بِالسَّعَادَةِ السَّرمَدِيَّةِ، وَجَعَلَ العُلَمَاءَ قُرَنَاءَ المَلَائِكَةِ المُقَرَّبِينَ فِي الإِقرَارِ بِرُبُوبِيَّتِهِ وَالِاختِصَاصِ بِمَعرِفَتِهِ، حَيثُ قَالَ سُبحَانَهُ: ﴿شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إلهَ إِلَّا هُوَ وَالمَلَائِكَةُ وَأُولُو العِلمِ قَائِمًا بِالقِسطِ﴾.

فَالعِلمُ أََشرَفُ مَا وُرِثَ عَن أَشرَفِ مَورُوثٍ. وَلَيسَ يَجهَلُ فَضلَ العِلمِ إلَّا أَهلُ الجَهلِ؛ لِأَنَّ فَضلَ العِلمِ إنَّمَا يُعرَفُ بِالعِلمِ، وَهَذَا أَبلَغُ فِي فَضلِهِ؛ لِأَنَّ فَضلَهُ لَا يُعلَمُ إلَّا بِهِ. فَلَمَّا عَدِمَ الجُهَّالُ العِلمَ الَّذِي بِهِ يَتَوَصَّلُونَ إِلَى فَضلِ العِلمِ جَهِلُوا فَضلَهُ، وَاستَرذَلُوا أَهلَهُ، وَتَوَهَّمُوا أَنَّ مَا تَمِيلُ إلَيهِ نُفُوسُهُم مِن الأَموَالِ المُقتَنَاةِ وَالطُّرَفِ المُشتَهَاةِ أَولَى أَن يَكُونَ إقبَالُهُم عَلَيهَا وَأَحرَى أَن يَكُونَ اشتِغَالُهُم بِهَا.

وَقَد قِيلَ: العَالِمُ يَعرِفُ الجَاهِلَ لِأَنَّهُ كَانَ جَاهِلًا، وَالجَاهِلُ لَا يَعرِفُ العَالِمَ لِأَنَّهُ لَم يَكُن عَالِمًا. وَهَذَا صَحِيحٌ، وَلِأَجلِهِ انصَرَفُوا عَن العِلمِ وَأَهلِهِ انصِرَافَ الزَّاهِدِينَ، وَانحَرَفُوا عَنهُ وَعَنهُمُ انحِرَافَ المُعَانِدِينَ؛ لِأَنَّ مَن جَهِلَ شَيئًا عَادَاهُ غَالِبًا.

وَقَالَ بَعضُ العُلَمَاءِ: المُتَعَمِّقُ فِي العِلمِ كَالسَّابِحِ فِي البَحرِ لَيسَ يَرَى أَرضًا، وَلَا يَعرِف طُولًا وَلَا عَرضًا.

وَقِيلَ لِبَعضِ العُلمَاءِ: أَمَا تَشبَعُ مِن هَذِهِ العُلُومِ؟ فَقَالَ: استَفرَغنَا فِيهَا المَجهُودَ، فَلَم نَبلُغ مِنهَا المَحدُودَ، فَنَحنُ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: إذَا قَطَعنَا عِلمًا بَدَا عِلمُ.

وَإِذَا لَم يَكُن إلَى مَعرِفَةِ جَمِيعِ العُلُومِ سَبِيلٌ يَنبَغِي صَرفُ الِاهتِمَامِ إلَى مَعرِفَةِ أَهَمِّهَا وَالعِنَايَةِ بِأَولَاهَا وَأَفضَلِهَا. وَأَولَى العُلُومِ وَأَفضَلُهَا عِلمُ الدِّينِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ بِمَعرِفَتِهِ يَرشُدُونَ، وَبِجَهلِهِ يَضِلُّونَ، إِذ لَا يَصِحُّ أَدَاءُ عِبَادَةٍ جَهِلَ فَاعِلُهَا صِفَاتِ أَدَائِهَا، وَلَم يَعلَم شُرُوطَ إجزَائِهَا.

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «طَلَبُ العِلمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسلِمٍ».

وَقَد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لِيَحمِلْ هَذَا العِلمَ مِن كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ، يَنفُونَ عَنهُ تَحرِيفَ الغَالِينَ، وَانتِحَالَ المُبطِلِينَ، وَتَأوِيلَ الجَاهِلِينَ».

وَرُوِيَ عَن النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «عَلَيَّ بِخُلَفَائِي»، قَالُوا: وَمَن خُلَفَاؤُك؟ قَالَ: «الَّذِينَ يُحيُونَ سُنَّتِي وَيُعَلِّمُونَهَا عِبَادَ اللهِ».

وَرُبَّمَا امتَنَعَ بَعضُ النَّاسِ مِن طَلَبِ العِلمِ لِكِبَرِ سِنِّهِ وَاستِحيَائِهِ مِن تَقصِيرِهِ فِي صِغَرِهِ أَن يَتَعَلَّمَ فِي كِبَرِهِ، فَرَضِيَ بِالجَهلِ أَن يَكُونَ مَوصُوفًا بِهِ، وَآثَرَهُ عَلَى العِلمِ أَن يَصِيرَ مُبتَدِئًا بِهِ، وَهَذَا مِن خِدَعِ الجَهلِ وَغُرُورِ الكَسَلِ؛ لِأَنَّ العِلمَ إذَا كَانَ فَضِيلَةً فَرَغبَةُ ذَوِي الأَسنَانِ فِيهِ أَولَى. وَالِابتِدَاءُ بِالفَضِيلَةِ فَضِيلَةٌ. وَلَأَن يَكُونَ شَيخًا مُتَعَلِّمًا أَولَى مِن أَن يَكُونَ شَيخًا جَاهِلًا.

حُكِيَ أَنَّ بَعضَ الحُكَمَاءِ رَأَى شَيخًا كَبِيرًا يُحِبُّ النَّظَرَ فِي العِلمِ وَيَستَحِي فَقَالَ لَهُ: يَا هَذَا أَتَستَحِي أَن تَكُونَ فِي آخِرِ عُمُرِك أَفضَلَ مِمَّا كُنتَ فِي أَوَّلِهِ.

وَذُكِرَ أَنَّ منصور بنَ المَهدِيِّ دَخَلَ عَلَى المَأمُونِ وَعِندَهُ جَمَاعَةٌ يَتَكَلَّمُونَ فِي الفِقهِ، فَقَالَ: يَا عَمِّ، مَا عِندَك فِيمَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ؟، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ المُؤمِنِينَ، شَغَلُونَا فِي الصِّغَرِ وَاشتَغَلنَا فِي الكِبَرِ. فَقَالَ: لِمَ لَا تتَعَلَّمُهُ اليَومَ؟ قَالَ: أَوَ يَحسُنُ بِمِثلِي طَلَبُ العِلمِ؟ قَالَ: نَعَم. وَاللهِ لَأَن تَمُوتَ طَالِبًا لِلعِلمِ خَيرٌ مِن أَن تَعِيشَ قَانِعًا بِالجَهلِ. قَالَ: وَإِلَى مَتَى يَحسُنُ بِي طَلَبُ العِلمِ؟ قَالَ: مَا حَسُنَت بِك الحَيَاةُ.

وَرُوِيَ عَن النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «كُونُوا عُلَمَاءَ صَالِحِينَ، فَإِن لَم تَكُونُوا عُلَمَاءَ صَالِحِينَ فَجَالِسُوا العُلَمَاءَ وَاسمَعُوا عِلمًا يَدُلُّكُم عَلَى الهُدَى وَيَرُدُّكُم عَن الرَّدَى».

وَرُوي عَن أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «التَّفَقُّهُ فِي الدِّينِ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسلِمٍ، أَلَا فَتَعَلَّمُوا وَعَلِّمُوا وَتَفَقَّهُوا، وَلَا تَمُوتُوا جُهَّالًا».

تذكرة وترغيب في العمل للآخرة
إِخوَانِي: فَلنَجعَل هَذِهِ الوَصَايَا نُصبَ أَعيُنِنَا فِي هَذَا الشَّهرِ الكَرِيمِ المُبَارَكِ سَيِّدِ الشُّهُورِ رَمَضَانَ، كَمَا قَالَ عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَلَا فَتَعَلَّمُوا وَعَلِّمُوا وَتَفَقَّهُوا وَلَا تَمُوتُوا جُهَّالًا»، فَهُبُّوا إِلَى مَجَالِسِ العِلمِ، وَليَكُن شَهرُ رَمَضَانَ انطِلَاقَةَ خَيرٍ وَبَرَكَةٍ وَفَضلٍ عَظِيمٍ إِلَى الآخِرَةِ البَاقِيَةِ عَلَى دَربِ الصَّالِحِينَ مِن سَلَفِ هَذِهِ الأُمَّةِ وَخَلَفِهَا، فَقَد كَانُوا فِي رَمَضَانَ يُخَرِّجُونَ العُلَمَاءَ وَالفُقَهَاءَ وَالأُدَبَاءَ وَالبُلَغَاءَ، وَهَذَا يَحصُلُ بِكَثرَةِ حُضُورِ مَجَالِسِ العِلمِ، وَإِنَّنَا إِذ عَرَفنَا كُلَّ هَذَا وَتَرَبَّينَا عَلَيهِ فِي كَنَفِ شَيخِنَا رَحِمَهُ اللهُ لَا نَفتَأُ وَلَا نَترُكُ تَذكِيرَكُم بِهِ فِي كُلِّ شُهُورِ العَامِ وَلَا سِيَّمَا فِي رَمَضَانَ، نَعَم، فَلَا تَترُكُوا يَا أَحبَابَ رَسُولِ اللهِ مَجَالسَ العِلمِ وَلَا تُقَدِّمُوا عَلَيهَا الدُّنيَا وَمَا يُسَمَّى بِالسَّهَرَاتِ الرَّمَضَانِيَّةِ وَمَجَالِسِ الغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَإِضَاعَةِ الأَوقَاتِ، وَاجلِب وَلَدَكَ وَزَوجَتَكَ لِمَجَالِسِ العِلمِ وَهُبُّوا لَهَا دُونَ مُذَكِّرٍ وَلَا مُنَبِّهٍ عَلَى فَضلِهَا، فَهَذَا المَيدَانُ وَهَذَا أَوَانُ الشِّدَّةِ فِي الخَيرِ فَاشتَدُّوا، وَتَذَكَّرُوا قَولَ رَبِّ العِزَّةِ فِي القُرآنِ الكَرِيمِ: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغفِرَةٍ مِن رَبِّكُم وَجَنَّةٍ عَرضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرضُ أُعِدَّت لِلمُتَّقِينَ﴾، وَقَولِهِ تَعَالَى: ﴿وَلِكُلٍّ وِجهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاستَبِقُوا الخَيرَاتِ﴾، فَإِنَّكُم إِذَا فَعَلتُم ذَلِكَ وَشَغَلتُم شَهرَكُم بِمَجَالِسِ العِلمِ وَلَم تَترُكُوا يَومًا إِلَّا وَفِيهِ مَجلِسُ عِلمٍ أَو مَجلِسَانِ، مِن تَفسِيرٍ أَو تَجوِيدٍ أَو إِقرَاءِ قُرآنٍ أَو وَعظٍ أَو فِقهٍ أَو تَوحِيدٍ، فتذكروا أَنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجرَ مَن أَحسَنَ عَمَلًا، وَأَنَّ اللهَ سُبحَانَهُ أَكرَمُ الأَكرَمِينَ، هُوَ الَّذِي يُعطِي عَلَى القَلِيلِ كَثِيرًا، فَكَيفَ إِذَا قَدَّمتَ الكَثِيرَ؟، وَإِنَّهُ لَو كُشِفَ لَنَا مَا فِي مَجَالِسِ العِلمِ مِنَ الخَيرِ وَالفَضلِ وَالبَرَكَةِ لَمَا تَرَكنَا مَجلِسَ عِلمٍ إِعطَاءً وَلَا تَلَقِّيًا، وَإِنَّهَا سَتَنكَشِفُ لَنَا جَمِيعًا، هَذِهِ الفَضَائِلُ وَأَثَرُهَا سَيَنكَشِفُ لِلمُشتَغِلِينَ بِهَا، لَكِن مَتَى؟ عِندَ رُؤيَةِ مَلَكِ المَوتِ، نَعَم عِندَ خُرُوجِ الرُّوحِ مِنَ الجِسمِ، سَنَعلَمُ بَرَكَةَ هَذِهِ المَجَالِسِ وَنَعلَمُ فَضلَ حُضُورِهَا، وَنَعلَمُ مَدَى الخَيرَاتِ الَّتِي خَصَّهَا اللهُ بِهَا، وَسَيَنكَشِفُ لَنَا أَسرَارُ قَولِ الصَّادِقِ المَصدُوقِ ﷺ حَيثُ قَالَ: «فَمَن يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيرًا يُفَقِّههُ فِي الدِّينِ». وَوَقتَهَا يَفرَحُ مَن جَاهَدَ نَفسَهُ وَقَاوَمَ شَهَوَاتِ النَّفسِ وَبَحَثَ عَن مَجَالِسِ عِلمِ أَهلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ فَاستَفَادَ مِن هُنَا خَيرًا وَمِن هُنَاكَ فَضلًا وَمِن غَيرِهِ بَرَكَةً وَنَفحَةَ خَيرٍ.

التقديم لأشراط الساعة
أيام الدنيا قليلة فينبغي اغتنامها في طاعة الله

أَحبَابِي: التِمَاسًا وَتَعَرُّضًا لِكُلِّ هَذِهِ الفَضَائِلِ الَّتِي أُذَكِّرُكُم بِهَا، انتَقَيتُ لَكُم فِي شَهرِ رَمَضَانَ هَذَا، الكَلَامَ عَنِ الفِتَنِ وَأَشرَاطِ السَّاعَةِ، كَثُرَ الكَلَامُ عَلَيهِ وَالسُّؤَالُ عَنهُ وَلَا سِيَّمَا فِي هَذِهِ الأَيَّامِ، أَمرٌ يُذَكِّرُنَا بِالآخِرَةِ وَيُعَرِّفُنَا بِطَبِيعَةِ الدُّنيَا وَأَنَّهَا زَائِلَةٌ وَأَنَّهَا دَارُ مُرُورٍ وَعُبُورٍ لَا دَارُ سُكُونٍ وَاطمِئنَانٍ، لَا يَنجُو فِيهَا إِلَّا المُوَفَّقُونَ وَأَعقَلُ النَّاسِ فِيهَا الزُّهَّادُ، فَقَد رُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: لَو أَوصَى شَخصٌ بِمَالِهِ إِلَى ‌أَعقَلِ ‌النَّاسِ صُرِفَ إِلَّى ‌الزُّهَّادِ فَلَيتَ شِعرِي مَن أَحَقُّ بِالعُلَمَاءِ بِزِيَادَةِ العَقلِ وَكَمَالِهِ.اهـ وَالأَمرُ كَمَا قَالَ القَائِلُ:

إِنَّ لِلَّهِ عِبَادًا فُطُنًا … طَلَّقُوا الدُّنيَا وَخَافُوا الفِتَنَا

نَظَرُوا فِيهَا فَلَمَّا عَلِمُوا … أَنَّهَا لَيسَت لِحَيٍّ وَطَنًا

جَعَلُوهَا لُجَّةً وَاتَّخَذُوا … صَالِحَ الأَعمَالِ فِيهَا سُفُنَا

أَحبَابِي: لَقَد قَالَ اللهُ تَعَالَى لِيَحيَى عَلَيهِ السَّلَامُ: ﴿يَا يَحيَى خُذِ الكِتَابَ بِقُوَّةٍ﴾، أَي: بِجِدٍّ وَاجتِهَادٍ وَمُوَاظَبَةٍ.اهـ فَإِذَا كَانَ هَذَا الكَلَامُ لِنَبِيٍّ مِن أَنبِيَاءِ اللهِ الكِرَامِ، فَكَيفَ بِنَا، فَنَحنُ بِحَاجَةٍ فِي زَمَانِ الشِّدَّةِ أَن نَشتَدَّ فِي العِبَادَةِ وَأَن نُقبِلَ عَلَى الآخِرَةِ، وَلَا سِيَّمَا أَنَّ أَيَّامَ الدُّنيَا قِصَارٌ، وَمَا سَنَذكُرُهُ فِي هَذَا الشَّهرِ الكَرِيمِ المُبَارَكِ يُذَكِّرُنَا بِمُرُورِ أَغلَبِ الدُّنيَا وَانقِضَاءِ أَيَّامِهَا وَزَوَالِهَا وَانقِضَاءِ أَغلَبِ عَلَامَاتِهَا كَمَا سَأُثبِتُ ذَلِكَ بِإِذنِ اللهِ خِلَالَ هَذِهِ المَجَالِسِ فِي هَذَا الشَّهرِ الكَرِيمِ، فَإِنَّ الدُّنيَا ‌دَارُ نَفَادٍ لَا مَحَلُّ ‌إخلَادٍ، وَمَركَبُ عُبُورٍ لَا مَنزِلُ حُبُورٍ، ومَشرَعُ انفصَامٍ لَا مَوطِنُ دَوَامٍ، فَهِيَ كُلُّهَا قَلِيلٌ وَمَا بَقِيَ مِنهَا إِلَّا القَلِيلُ، وَالعُمُرُ قَلِيلٌ وَمَا بَقِيَ مِنهُ إِلَّا القَلِيلُ، وَمَهمَا كَثُرَ الَّذِي حُزتَهُ مِنهَا فَإِنَّهُ قَلِيلٌ، فَتَزَوَّد مِنَ القَلِيلِ لِلكَثِيرِ الَّذِي أَنتَ مُقبِلٌ عَلَيهِ فِي الآخِرَةِ البَاقِيَةِ، فَإِذَا كُنتَ فِي قَلِيلٍ وَبَقِيَ مِنَ القَلِيلِ قَلِيلٌ، فَمَا أَقبَحَ -بَعدَ كُلِّ هَذَا- التَّضيِيعَ وَالتَّسوِيفَ وَالتَّأخِيرَ.

قَالَ ابنُ الجَوزِيِّ: بَلَغَنَا عَن خَالِدٍ الوَرَّاقِ أَنَّهُ قَالَ: كَانَت لِي جَارِيَةٌ شَدِيدَةُ الِاجتِهَادِ فَدَخَلتُ عَلَيهَا يَومًا فَأَخبَرتُهَا بِرَحمَةِ اللهِ وَقَبُولِهِ يَسِيرَ العَمَلِ. فَبَكَت ثُمَّ قَالَت يَا سيدي إِنِّي لَأُؤَمِّلُ مِنَ اللهِ تَعَالَى آمَالًا لَو حَمَّلتُهَا الجِبَالَ لَأَشفَقَت مِن حَملِهَا كَمَا ضَعُفَت عَن حَملِ الأَمَانَةِ، وَإِنِّي لَأَعلَمُ أَنَّ فِي كَرَمِ اللهِ مُستَغَاثًا لِكُلِّ مُذنِبٍ، وَلَكِن كَيفَ لِي بِحَسرَةِ السِّبَاقِ؟ قَالَ: قُلتُ: وَمَا حَسرَةُ السِّبَاقِ؟ قَالَت: غَدَاةَ الحَشرِ إِذَا بُعثِرَ مَا فِي القُبُورِ وَرَكِبَ الأَبرَارُ نَجَائِبَ الأَعمَالِ فَاستَبَقُوا إِلَى الصِّرَاطِ. والله لَا يَسبِقُ مُقَصِّرٌ مُجتَهِدًا أَبَدًا، وَلَو حَبَا المُجِدُّ حَبوًا. أَم كَيفَ لِي بِمَوتِ الحُزنِ وَالكَمَدِ إِذَا رَأَيتُ القَومَ يَتَرَاكَضُونَ وَقَد رُفِعَت أَعلَامُ المُحسِنِينَ وَجَازَ الصِّرَاطَ المُشتَاقُونَ وَوَصَلَ إِلَى جَنَّةِ اللهِ المُحِبُّونَ وَخُلِّفتُ مَعَ المُسِيئِينَ المُذنِبِينَ؟ ثُمَّ بَكَت وَقَالَت: يَا خَالِدُ انظُر لَا يَقطَعكَ قَاطِعٌ عَن سُرعَةِ المُبَادَرَةِ بِالأَعمَالِ فَإِنَّهُ لَيسَ بَينَ الدَّارَينِ دَارٌ يُدرِكُ فِيهَا الخُدَّامُ مَا فَاتَهُم مِنَ الخِدمَةِ، فَوَيلٌ لِمَن قَصَّر عَن خِدمَةِ سَيِّدِهِ وَمَعَهُ الآمَالُ، فَهَلَّا كَانَتِ الأَعمَالُ تُوقِظُهُ إِذَا نَامَ الغَافِلُونَ؟

أَحبَابِي: إِنَّ النَّاظِرَ لِلعِبَرِ الَّتِي جَاءَت فِي كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ ﷺ يَعلَمُ عِلمَ اليَقِينِ أَنَّ الدُّنيَا قَلِيلَةُ الأَيَّامِ مَهمَا كَثُرَت فِي نَظَرِ بَعضِ النَّاسِ، وَهِيَ قَصِيرَةٌ مَهمَا طَالَت، وَرُوِيَ مِن حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لَمَّا بَعَثَ اللَّهُ نُوحًا إِلَى قَومِهِ بَعَثَهُ وَهُوَ ابنُ خَمسِينَ وَمِائَتِي سَنَةٍ، فَلَبِثَ فِي قَومِهِ أَلفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمسِينَ عَامًا، وَبَقِيَ بَعدَ الطُّوفَانِ خَمسِينَ وَمِائَتَي سَنَةٍ، فَلَمَّا أَتَاهُ مَلَكُ المَوتِ قَالَ: يَا ‌نُوحُ، يَا أَكبَرَ الأَنبِيَاءِ وَيَا طَوِيلَ العُمُرِ وَيَا مُجَابَ الدَّعوَةِ، كَيفَ رَأَيتَ الدُّنيَا؟، قَالَ: مِثلَ رَجُلٍ بُنِيَ لَهُ بَيتٌ لَهُ بَابَانِ فَدَخَلَ مِن وَاحِدٍ وَخَرَجَ مِنَ الآخَرِ» وَقَد قِيلَ: دَخَلَ مِن أَحَدِهِمَا وَجَلَسَ هُنَيهَةً ثُمَّ خَرَجَ مِنَ البَابِ الآخَرِ.

وَقَالَ ابنُ الوَردِيِّ: بَنَى ‌نُوحٌ بَيتًا مِن قَصَبٍ، فَقِيلَ لَهُ: لَو بَنَيتَ غَيرَ هَذَا، فَقَالَ: هَذَا كَثِيرٌ لِمَن يَمُوتُ، وَقَالَ أَبُو المُهَاجِرِ: لَبِثَ ‌نُوحٌ فِي قَومِهِ أَلفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمسِينَ عَامًا فِي بَيتٍ مِن شَعرٍ، فَقِيلَ لَهُ: يَا نَبِيَّ اللهِ ابنِ بَيتًا فَقَالَ: أَمُوتُ اليَومَ أَو أَمُوتُ غَدًا.اهـ

وَفِي مُسنَدِ أَحمَدَ عَن أَبِي سَعِيدٍ الخُدرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنهُ قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَعدَ العَصرِ إِلَى مُغَيرِبَانِ الشَّمسِ (أَي وَقتِ غُرُوبِهَا) حَفِظَهَا مِنَّا مَن حَفِظَهَا وَنَسِيَهَا مَن نَسِيَهَا فَقَالَ: «أَلَا إِنَّ الدُّنيَا خَضِرَةٌ حُلوَةٌ، وَإِنَّ اللهَ مُستَخلِفُكُم فِيهَا فَنَاظِرٌ كَيفَ تَعمَلُونَ، أَلَا فَاتَّقُوا الدُّنيَا، وَاتَّقُوا النِّسَاءَ»، وَقَالَ فِيهَا ﷺ: «أَلَا إِنَّهُ لَم يَبقَ مِنَ الدُّنيَا فِيمَا مَضَى إِلَّا كَمَا بَقِيَ مِن هَذِهِ الشَّمسِ أَن تَغِيبَ».اهـ

وَلِأَجلِ كُلِّ هَذَا حَثَّ الشَّرعُ الحَنِيفُ عَلَى النَّظَرِ لِلآخِرَةِ وَالإِقبَالِ عَلَيهَا وَالنُّفُورِ مِن هَذِهِ الدُّنيَا، فَالدُّنيَا فِي إِدبَارٍ وَالآخِرَةُ فِي إِقبَالٍ، وَهَذَا مَا سَنُثبِتُهُ بِإِذنِ اللهِ فِي مَجَالِسِنَا فِي هَذَا الشَّهرِ الكَرِيمِ المُبَارَكِ، وَنَذكُرُ عَلَامَاتِ السَّاعَةِ الصُّغرَى بِتَفَاصِيلِهَا وَالكُبرَى بِتَفَاصِيلِهَا، لِلعِبرَةِ وَالتَّذكِرَةِ وَالمَوعِظَةِ فَرَبُّنَا يَقُولُ فِي القُرآنِ الكَرِيمِ: ﴿اقتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُم وَهُم فِي غَفلَةٍ مُعرِضُونَ﴾.

السؤال الفقهي
كَم عَدَدُ رَكَعَاتِ التَّرَاوِيحِ فِي رَمَضَانَ؟
اسمُ التَّرَاوِيحِ يُطلَقُ عَلَى العِشرِينَ رَكعَةً فَقَط، مَن نَوَى التَّرَاوِيحَ وَصَلَّى رَكعَتَينِ مَثَلًا أَو أَربَعَ رَكَعَاتٍ فَهَذَا لَا يُسَمَّى بِالتَّرَاوِيحِ، وَمَا كَانَ أَقَلَّ مِن عِشرِينَ رَكعَةً يُسَمَّى قِيَامَ رَمَضَانَ.

وَكُلٌّ مِنهُمَا يُسَمَّى قِيَامَ رَمَضَانَ، فَمَن صَلَّى عِشرِينَ رَكعَةً يُقَالُ لَهُ قِيَامُ رَمَضَانَ، وَمَن صَلَّى سِتَّ رَكَعَاتٍ أَو ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ أَو تِسعًا مَثَلًا يُقَالُ لَهُ قِيَامُ رَمَضَانَ، وَاسمُ التَّرَاوِيحِ خَاصٌّ بِمَا كَانَ عِشرِينَ رَكعَةً.

مختارات من الأدعية والأذكار
لِقَضَاءِ الدَّينِ
عَن مُعَاذِ بنِ جَبَلٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ افتَقَدَهُ يَومَ الجُمُعَةِ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللهِ ﷺ أَتَى مُعَاذًا فَقَالَ لَهُ: «يَا مُعَاذُ، مَا لِي لَم أَرَكَ؟» قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، لِيَهُودِيٍّ عَلَيَّ أُوقِيَّةٌ مِن تِبرٍ فَخَرَجتُ إِلَيكَ فَحَبَسَنِي عَنكَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «يَا مُعَاذُ، أَلَا أُعَلِّمُكَ دُعَاءً تَدعُو بِهِ فَلَو كَانَ عَلَيكَ مِنَ الدّينِ مِثلُ جَبَلِ صَبِرٍ أَدَّاهُ اللهُ عَنكَ – وَصَبِرٌ جَبَلٌ بِاليَمَنِ –فَادعُ بِهِ يَا مُعَاذُ قُلِ:

اللهم مَالِكَ المُلكِ تُؤتِي المُلكَ مَن تَشَاءُ، وَتَنزِعُ المُلكَ مِمَّن تَشَاءُ، وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ، وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكِ الخَيرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ، تُولِجُ اللَّيلَ فِي النَّهَارِ، وتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيلِ، وَتُخرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ، وَتُخرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ، وَتَرزُقُ مَن تَشَاءُ بِغَيرِ حِسَابٍ رَحمَنَ الدُّنيَا وَالآخِرَةِ وَرَحِيمَهُمَا، تُعطِي مَن تَشَاءُ مِنهُمَا، وتَمنَعُ مَن تَشَاءُ، ارحَمنِي رَحمَةً تُغنِيني بِهَا عَن رَحمَةِ مَن سِوَاكَ». رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعجَمَيهِ.

الدعاء الختامي
الحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِي رَسُولِ اللهِ

اللهم بِعِلمِكَ بِحَالِنَا وَقُدرَتِكَ عَلَى إِصلَاحِنَا وَرَحمَتِكَ أَتمِم عَلَينَا نِعمَتَكَ وَأَنلنا رِضَاكَ وَرَحمَتَكَ وَأَجزِل نَصِيبَنَا مِن جَزِيلِ لُطفِكَ.

اللهم بِجَاهِ هَذَا الشَّهرِ الفَضِيلِ شَهرِ رَمَضَانَ المُبَارَكِ وَفِّقنَا لِلعَمَلِ بِمُوجِبَاتِ رِضَاكَ وَلَا تَحرِمنَا عَطَاءَكَ وَلَا تُوَلِّنَا أَحَدًا غَيرَكَ وَلَا تَحرِمنَا خَيرَكَ يَا مَن خَيرَيِ الدُّنيَا وَالآخِرَة فِي خَزَائِنِهِ وَأَهلُ السَّمَوَات وَالأَرضِ مُفتَقِرُونَ لِرَحمَتِهِ.

اللهم إِنَّنَا ظَلَمنَا أَنفُسَنَا وَأَسَأنَا فِي مُعَامَلَتِنَا وَغَفِلنَا عَنِ التَّيَقُّظِ مِن ذُنُوبِنَا حَتَّى غَلَبَ عَلَى قُلُوبِنَا رَينُهَا، وَقَد نَدِمنَا عَلَى قُبحِ مَا فَعَلنَا وَارتَكَبنَا، وَبَدَا لَنَا سَيِّئَاتُ مَا كَسَبنَا. اللهم اغفِر لَنَا مَغفِرَةً مِن عِندِكَ يَحسُنُ لَنَا بِهَا تَوفِيقُكَ وَتَكشِفُ بِهَا عَنَّا عَذَابَكَ وَتُغَشِّينَا بِهَا رَحمَتَكَ يَا مَن أَظهَرَ الجَمِيلَ وَسَتَرَ القَبِيحَ وَلَم يُؤَاخِذ بِالجَرِيرَةِ وَلَم يَهتِكِ السَّرِيرَةَ.

اللهم اجعَل فِي قَلبِنَا نُورًا، وَفِى لِسَانِنَا نُورًا، وَاجعَل فِي سَمعِنَا نُورًا، وَاجعَل فِي بَصَرِنَا نُورًا، وَاجعَل مِن خَلفِنَا نُورًا، وَمِن أَمَامِنَا نُورًا، وَاجعَل مِن فَوقِنَا نُورًا، وَمِن تَحتِنَا نُورًا، اللهم أَعطِنَا نُورًا.

اللهم أَعِنَّا عَلَى ذِكرِكَ وَشُكرِكَ وَحُسنِ عِبَادَتِكَ، اللهم أَعِنَّا عَلَى ذِكرِكَ وَشُكرِكَ وَحُسنِ عِبَادَتِكَ، اللهم أَعِنَّا عَلَى ذِكرِكَ وَشُكرِكَ وَحُسنِ عِبَادَتِكَ

اللهم أَعِنَّا عَلَى الصِّيَامِ وَالقِيَامِ وَتَقَبَّل مِنَّا يَا رَبَّ العَالَمِينَ، اللهم اجعَلنَا مِن عُتَقَاءِ هَذَا الشَّهرِ الكَرِيمِ وَمِنَ المَقبُولِينَ يَا أَكرَمَ الأَكرَمِينَ، اللهم أَعتِقنَا فِيهِ مِنَ النِّيرَانِ يَا اللهُ يَا اللهُ يَا اللهُ، اللهم أَرِنَا لَيلَةَ القَدرِ المُبَارَكَةَ يَا رَبَّ العَالَمِينَ وَارزُقنَا فِيهَا دَعوَةً مُجَابَةً بِجَاهِ سَيِّدِ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ يَا اللهُ. اللهم ارزُقنَا حُسنَ الخِتَامِ وَالمَوتَ عَلَى دِينِكَ دِينِ الإِسلَامِ وَرُؤيَةَ سَيِّدِ الأَنَامِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ ﷺ.

اللهم فُكَّ أَرضَ غَزَّةَ وَفِلَسطِينَ مِنَ اليَهُودِ الغَاصِبِينَ. اللهم الطُف بِالمُسلِمِينَ وَانصُرهُم يَا أَرحَمَ الرَّاحِمِينَ يَا رَبَّ العَالَمِينَ، اللهم عَلَيكَ بِأَعدَاءِ الدِّينِ، اللهم الطُف بِالمُسلِمِينَ فِي شَتَّى بِقَاعِ الأَرضِ وَوَحِّد كَلِمَتَهُم وَانصُرهُم عَلَى أَعدَاءِ الدِّينِ،

اللهم إِنَّا دَعَونَاكَ فَاستَجِب لَنَا دُعَاءَنَا وَاغفِرِ اللهم لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسرَافَنَا فِي أَمرِنَا وَمَا أَنتَ أَعلَمُ بِهِ مِنَّا وَارزُق كُلَّ مَن حَضَرَ وَاستَمَعَ لِلدَّرسِ سُؤلَهُ مِنَ الخَيرِ.

وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ وَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ وَسَلِّم تَسلِيمًا كَثِيرًا إِلَى يَومِ الدِّينِ.

وَآخِرُ دَعوَانَا أَنِ الحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ

شاهد أيضاً

شرح دعاء “اللهم إني أسألك من الخير كله” ودلالاته في طلب الجنة والوقاية من النار

المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم الحمدُ لله الذي أنزلَ على عبده الكتاب ولم يجعل لهُ …