المقدمة
الحَمدُ للهِ سَامِعِ السِّرِّ وَالنَّجوَى، وَكَاشِفِ الضُّرِّ وَالبَلوَى، وَمُغِيثِ المُتَلَهِّفِ قَبلَ الشَّكوَى، وَمُبَلِّغِ المُؤَمِّلِ غَايَةَ أَمَلِهِ القُصوَى، كَم نَشَرَ آثَارَ عَدلِهِ وَكَم أَغبَقَ فَضلُهُ وَأَروَى، مَن تَفَكَّرَ فِي ذَاتِهِ وَقَعَ بَعِيدَ المَهوَى، وَمَن خَالَفَهُ بِاتِّبَاعِ هَوَاهُ ضَرَّهُ مَا يَهوَى، لَا يُثِيبُ عَلَى صُوَرِ العِبَادِ وَإِنَّمَا يُعطِي عَلَى التَّقوَى، أَهلَكَ فِرعَونَ وَقَد أَضَلَّهُ وَأَغوَى، إِلَى أَن غَرِقَ يَومَ اليَمِّ أَينَ المُنقَلَبُ وَالمَثوَى، كَم أَهلَكَتِ الذُّنُوبُ مَن كَانَ أَكثَرَ مِنهُ وَأَقوَى، ﴿وَقَومَ نُوحٍ مِن قَبلُ إِنَّهُم كَانُوا هُم أَظلَمَ وَأَطغَىٰ * وَالمُؤتَفِكَةَ أَهوَىٰ﴾.
أَحمَدُهُ عَلَى صَرفِ الهَمِّ وَالجَوَى، حَمدَ مَن أَنَابَ وَارعَوَى، وَأَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِيمَا نَشَرَ وَطَوَى، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ أَرسَلَهُ وَعُودُ الهُدَى قَد ذَوَى، فَسَقَاهُ مَاءَ المُجَاهَدَةِ حَتَّى ارتَوَى، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَيهِ وَعَلَى أَبِي بَكرٍ الصِّدِّيقِ صَاحِبِهِ إِن رَحَلَ أَو ثَوَى، وَعَلَى الفَارُوقِ الَّذِي وَسَمَ بِجِدِّهِ جَبِينَ كُلِّ جَبَّارٍ وَكَوَى، وعَلَى ذِي النُّورَينِ الصَّابِرِ عَلَى الشَّهَادَةِ سَاكِنًا مَا التَوَى، وَعَلَى عَلِيٍّ الَّذِي زَهِدَ فِي الدُّنَيا فَبَاعَهَا وَمَا احتَوَى، أَمَّا بَعدُ:
رِيحٌ طَيِّبَةٌ تَقبِضُ رُوحَ كُلِّ مُؤمِنٍ
مِن أَشرَاطِ السَّاعَةِ هُبُوبُ الرِّيحِ الطَّيِّبَةِ لِقَبضِ أَروَاحِ المُؤمِنِينَ، فَقَد جَاءَ فِي حَدِيثِ النَّوَّاسِ بنِ سَمعَانَ الطَّوِيلِ فِي قِصَّةِ الدَّجَّالِ وَعِيسَى وَيَأجُوجَ وَمَأجُوجَ: «فَبَينَمَا هُم كَذَلِكَ إِذ بَعَثَ اللهُ رِيحًا طَيِّبَةً، فَتَأخُذُهُم تَحتَ آبَاطِهِم فَتَقبِضُ رُوحَ كُلِّ مُؤمِنٍ وَكُلِّ مُسلِمٍ، وَيَبقَى شِرَارُ النَّاسِ يَتَهَارَجُونَ فِيهَا تَهَارُجَ الحُمُرِ (أَي يُجَامِعُ الرِّجَالُ النِّسَاءَ بِحَضرَةِ النَّاسِ كَمَا يَفعَلُ الحَمِيرُ)، فَعَلَيهِم تَقُومُ السَّاعَةُ» رَوَاهُ أَحمَدُ وَمُسلِمٌ.
وَرَوَى أَحمَدُ وَمُسلِمٌ عَن عَبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «ثُمَّ يُرسِلُ اللهُ رِيحًا بَارِدَةً مِن قِبَلِ الشَّأمِ، فَلَا يَبقَى عَلَى وَجهِ الأَرضِ أَحَدٌ فِي قَلبِهِ مِثقَالُ ذَرَّةٍ مِن خَيرٍ أَو إِيمَانٍ إِلَّا قَبَضَتهُ، حَتَّى لَو أَنَّ أَحَدَكُم دَخَلَ فِي كَبَدِ جَبَلٍ (أَي وَسَطَهُ وَدَاخِلَهُ) لَدَخَلَتهُ عَلَيهِ حَتَّى تَقبِضَهُ». قَالَ: سَمِعتُهَا مِن رَسُولِ اللهِ ﷺ.
قَالَ: «فَيَبقَى شِرَارُ النَّاسِ فِي خِفَّةِ الطَّيرِ وَأَحلَامِ السِّبَاعِ (قَالَ العُلَمَاءُ: مَعنَاهُ يَكُونُونَ فِي سُرعَتِهِم إِلَى الشُّرُورِ وَقَضَاءِ الشَّهَوَاتِ وَالفَسَادِ كَطَيَرَانِ الطَّيرِ وَفِي العُدوَانِ وَظُلمِ بَعضِهِم بَعضًا فِي أَخلَاقِ السِّبَاعِ العَادِيَةِ)، لَا يَعرِفُونَ مَعرُوفًا، وَلَا يُنكِرُونَ مُنكَرًا، فَيَتَمَثَّلُ لَهُمُ الشَّيطَانُ فَيَقُولُ: أَلَا تَستَجِيبُونَ؟ فَيَقُولُونَ: فَمَا تَأمُرُنَا؟ فَيَأمُرُهُم بِعِبَادَةِ الأَوثَانِ، وَهُم فِي ذَلِكَ دَارٌّ رِزقُهُم، حَسَنٌ عَيشُهُم، ثُمَّ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَلَا يَسمَعُهُ أَحَدٌ إِلَّا أَصغَى لِيتًا (وَهِيَ صَفحَةُ العُنُقِ وَهِيَ جَانِبُهُ، وَأَصغَى أَمَالَ) وَرَفَعَ لِيتًا». قَالَ: «وَأَوَّلُ مَن يَسمَعُهُ رَجُلٌ يَلُوطُ حَوضَ إِبِلِهِ (أَي يُطَيِّنُهُ وَيُصلِحُهُ)»، قَالَ: «فَيَصعَقُ وَيَصعَقُ النَّاسُ، ثُمَّ يُرسِلُ اللهُ»، أَو قَالَ: «يُنزِلُ اللهُ مَطَرًا كَأَنَّهُ الطَّلُّ» أَوِ «الظِّلُّ» نُعمَانُ الشَّاكُّ (قَالَ العُلَمَاءُ الأَصَحُّ الطَّلُّ بِالمُهمَلَةِ وَهُوَ المُوَافِقُ لِلحَدِيثِ الآخَرِ أَنَّهُ كَمَنِيِّ الرِّجَالِ. قَالَ ابنُ الأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ فِي غَرِيبِ الحَدِيثِ وَالأَثَرِ: وَفِي حَدِيثِ أَشرَاطِ السَّاعَةِ: «ثُمَّ يُرسِلُ اللهُ مَطَرًا كَأَنَّهُ الطَّلُّ»، الطَّلُّ: الَّذِي يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ فِي الصَّحوِ. وَالطَّلُّ أَيضًا: أَضعَفُ المَطَرِ) «فَتَنبُتُ مِنهُ أَجسَادُ النَّاسِ، ثُمَّ يُنفَخُ فِيهِ أُخرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ، ثُمَّ يُقَالُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، هَلُمَّ إِلَى رَبِّكُم ﴿وَقِفُوهُم إِنَّهُم مَسئُولُونَ﴾ قَالَ: ثُمَّ يُقَالُ: أَخرِجُوا بَعثَ النَّارِ. فَيُقَالُ: مِن كَم؟ فَيُقَالُ: مِن كُلِّ أَلفٍ تِسعَمِائَةٍ وَتِسعَةً وَتِسعِينَ. قَالَ: فَذَاكَ يَومَ ﴿يَجعَلُ الوِلدَانَ شِيبًا﴾ وَذَلِكَ ﴿يَومَ يُكشَفُ عَن سَاقٍ﴾ (قَالَ النَّوَوِيُّ: قَالَ العُلَمَاءُ مَعنَاهُ وَمَعنَى مَا فِي القُرآنِ ﴿يَومَ يُكشَفُ عَن سَاقٍ﴾ يَومَ يُكشَفُ عَن شِدَّةٍ وَهَولٍ عَظِيمٍ، أَي يَظهَرُ ذَلِكَ، يُقَالُ كَشَفَتِ الحَربُ عَن سَاقِهَا إِذَا اشتَدَّت،) (ثَبَتَ عَنِ الصَّحَابِيِّ الجَلِيلِ عَبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا أَنَّهُ أَوَّلَ “السَّاقَ” فِي قَولِهِ تَعَالَى: ﴿يَومَ يُكشَفُ عَن سَاقٍ﴾، قَالَ: هَذَا يَومُ كَربٍ وَشِدَّةٍ”.اهـ رَوَاهُ الحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ، وَرَوَاهُ البَيهَقِيُّ فِي الأَسمَاءِ وَالصِّفَاتِ)».اهـ
وَرَوَى أَحمَدُ فِي مُسنَدِهِ عَن عَيَّاشِ بنِ أَبِي رَبِيعَةَ قَالَ: سَمِعتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: «تَخرُجُ رِيحٌ بَينَ يَدَيِ السَّاعَةِ تُقبَضُ فِيهَا أَروَاحُ كُلِّ مُؤمِنٍ».اهـ
وَرَوَى مُسلِمٌ وَالحَاكِمُ عَن أَبِي هُرَيرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّ اللهَ يَبعَثُ رِيحًا مِنَ اليَمَنِ أَليَنَ مِنَ الحَرِيرِ، فَلَا تَدَعُ أَحَدًا فِي قَلبِهِ مِثقَالُ حَبَّةٍ مِن إِيمَانٍ إِلَّا قَبَضَتهُ».اهـ
قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرحِ مُسلِمٍ: قَولُهُ ﷺ: «رِيحًا أَليَنَ مِنَ الحَرِيرِ» فِيهِ وَاللهُ أَعلَمُ إِشَارَةٌ إِلَى الرِّفقِ بِهِم وَالإِكرَامِ لَهُم. اهـ
وَرَوَى مُسلِمٌ عَن عَائِشَةَ قَالَت: سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «لَا يَذهَبُ اللَّيلُ وَالنَّهَارُ حَتَّى تُعبَدَ اللَّاتُ وَالعُزَّى». فَقُلتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِن كُنتُ لَأَظُنُّ حِينَ أَنزَلَ اللهُ: ﴿هُوَ الَّذِي أَرسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَو كَرِهَ المُشرِكُونَ﴾ أَنَّ ذَلِكَ تَامٌّ. قَالَ: «إِنَّهُ سَيَكُونُ مِن ذَلِكَ مَا شَاءَ اللهُ، ثُمَّ يَبعَثُ اللهُ رِيحًا طَيِّبَةً فَتَوَفَّى كُلَّ مَن فِي قَلبِهِ مِثقَالُ حَبَّةِ خَردَلٍ مِن إِيمَانٍ، فَيَبقَى مَن لَا خَيرَ فِيهِ، فَيَرجِعُونَ إِلَى دِينِ آبَائِهِم».اهـ
وَرَوَى مُسلِمٌ عَن عَبدِ الرَّحمَنِ بنِ شُمَاسَةَ المَهرِيِّ قَالَ: كُنتُ عِندَ مَسلَمَةَ بنِ مُخَلَّدٍ وَعِندَهُ عَبدُ اللهِ بنُ عَمرِو بنِ العَاصِ فَقَالَ عَبدُ اللهِ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا عَلَى شِرَارِ الخَلقِ، هُم شَرٌّ مِن أَهلِ الجَاهِلِيَّةِ، لَا يَدعُونَ اللهَ بِشَيءٍ إِلَّا رَدَّهُ عَلَيهِم، فَبَينَمَا هُم عَلَى ذَلِكَ أَقبَلَ عُقبَةُ بنُ عَامِرٍ، فَقَالَ لَهُ مَسلَمَةُ: يَا عُقبَةُ، اسمَع مَا يَقُولُ عَبدُ اللهِ، فَقَالَ عُقبَةُ: هُوَ أَعلَمُ، وَأَمَّا أَنَا فَسَمِعتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «لَا تَزَالُ عِصَابَةٌ مِن أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى أَمرِ اللهِ قَاهِرِينَ لِعَدُوِّهِم لَا يَضُرُّهُم مَن خَالَفَهُم حَتَّى تَأتِيَهُمُ السَّاعَةُ وَهُم عَلَى ذَلِكَ». فَقَالَ عَبدُ اللهِ: أَجَل، ثُمَّ يَبعَثُ اللهُ رِيحًا كَرِيحِ المِسكِ مَسُّهَا مَسُّ الحَرِيرِ، فَلَا تَترُكُ نَفسًا فِي قَلبِهِ مِثقَالُ حَبَّةٍ مِنَ الإِيمَانِ إِلَّا قَبَضَتهُ، ثُمَّ يَبقَى شِرَارُ النَّاسِ عَلَيهِم تَقُومُ السَّاعَةُ.اهـ
فَلَيسَ فِيهِمَا مُخَالَفَةٌ لِهَذِهِ الأَحَادِيثِ الَّتِي ذَكَرنَاهَا عَن هُبُوبِ الرِّيحِ، لِأَنَّ مَعنَى هَذَا أَنَّهُم لَا يَزَالُونَ عَلَى الحَقِّ حَتَّى تَقبِضَهُم هَذِهِ الرِّيحُ اللَّيِّنَةُ قُربَ القِيَامَةِ، وَيَكُونُ المُرَادُ بِقَولِهِ: «أَمرُ اللهِ»، هُبُوبُ تِلكَ الرِّيحِ، فَأَمَّا بَعدَ هُبُوبِهَا فَلَا يَبقَى إِلَّا الشِّرَارُ وَلَيسَ فِيهِم مُؤمِنٌ، فَعَلَيهِم تَقُومُ السَّاعَةُ.
هَدمُ الكَعبَةِ، وَسَلبُ حُلِيِّهَا، وَإِخرَاجُ كَنزِهَا
مِنَ العَلَامَاتِ العُظمَى هَدمُ الكَعبَةِ المُشَرَّفَةِ وَالقِبلَةِ المُعَظَّمَةِ وَسَلبُ حُلِيِّهَا وَإِخرَاجُ كَنزِهَا، وَيَكُونُ هَذَا بَعدَ هُبُوبِ الرِّيحِ الَّتِي يَمُوتُ بِهَا مَن فِي قَلبِهِ ذَرَّةٌ مِن إِيمَانٍ.
فَقَد رَوَى البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ عَن أَبِي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «يُخَرِّبُ الكَعبَةَ (مِنَ التَّخرِيبِ، هَذَا التَّخرِيبُ عِندَ قُربِ القِيَامَةِ حَيثُ لَا يَبقَى فِي الأَرضِ أَحَدٌ يَقُولُ اللهُ اللهُ) ذُو السُّوَيقَتَينِ (تَثنِيَةُ سُوَيقَةٍ وَهِيَ تَصغِيرُ سَاقٍ أَي لَهُ سَاقَانِ دَقِيقَانِ، وَإِنَّمَا صَغَّرَ السَّاقَينِ لِأَنَّ الغَالِبَ عَلَى سُوقِ الحَبَشَةِ الدِّقَّةُ) مِنَ الحَبَشَةِ (أَي رَجُلٌ مِنَ الحَبَشَةِ)».اهـ
وَفِي رِوَايَةٍ: «يُخَرِّبُ الكَعبَةَ ذُو السُّوَيقَتَينِ مِنَ الحَبَشَةِ، وَيَسلُبُهَا حِليَتَهَا، وَيُجَرِّدُهَا مِن كِسوَتِهَا، وَلَكَأَنِّي أَنظُرُ إِلَيهِ أُصَيلِعُ (هُوَ تَصغِيرُ الأَصلَعِ الَّذِي انحَسَرَ الشَّعرُ عَن رَأسِهِ) أُفَيدِعُ (الفَدَعُ بِالتَّحرِيكِ: زَيغٌ بَينَ القَدَمِ وَبَينَ عَظمِ السَّاقِ وَكَذَلِكَ فِي اليَدِ وَهُوَ أَن تَزُولَ المَفَاصِلُ عَن أَمَاكِنِهَا. وَقَالَ: أُفَيدِعُ: تَصغِيرُ أَفدَعَ)، يَضرِبُ عَلَيهَا بِمِسَحاَتِهِ [يَعنِي فؤوسه] وَمِعوَلِهِ».اهـ
وَرَوَى البُخَارِيُّ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «كَأَنِّي بِهِ أَسوَدَ أَفحَجَ، يَقلَعُهَا حَجَرًا حَجَرًا».اهـ وَفِي رِوَايَةِ أَحمَدَ عَنهُ: «كَأَنِّي أَنظُرُ إِلَيهِ أَسوَدَ أَفحَجَ، يَنقُضُهَا حَجَرًا حَجَرًا» يَعنِي الكَعبَةَ.اهـ
قَالَ بَدرُ الدِّينِ العَينِيُّ فِي عُمدَةِ القَارِي شَرحِ صَحِيحِ البُخَارِيِّ: وَجَاءَ فِي تَخرِيبِ الكَعبَةِ أَحَادِيثُ:
مِنهَا: مَا رَوَاهُ ابنُ الجَوزِيِّ مِن حَدِيثِ حُذَيفَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فَذَكَرَ حَدِيثًا فِيهِ طُولٌ، وَفِيهِ: «وَخَرَابُ مَكَّةَ مِنَ الحَبَشَةِ عَلَى يَدِ حَبَشِيٍّ أَفحَجِ السَّاقَينِ أَزرَقِ العَينَينِ أَفطَسِ الأَنفِ كَبِيرِ البَطنِ مَعَهُ أَصحَابُهُ، يَنقُضُونَهَا حَجَرًا حَجَرًا وَيَتَنَاوَلُونَهَا حَتَّى يَرمُوا بِهَا -يَعنِي: الكَعبَةَ-، إِلَى البَحرِ، وَخَرَابُ المَدِينَةِ مِنَ الجُوعِ، وَخَرَابُ اليَمَنِ مِنَ الجَرَادِ».اهـ
قَالَ الحَافِظُ ابنُ حَجَرٍ فِي الفَتحِ: وَقَعَ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ عِندَ أَبِي عُبَيدٍ فِي غَرِيبِ الحَدِيثِ مِن طَرِيقِ أَبِي العَالِيَةِ عَن عَلِيٍّ قَالَ: «استَكثِرُوا مِنَ الطَّوَافِ بِهَذَا البَيتِ قَبلَ أَن يُحَالَ بَينَكُم وَبَينَهُ، فَكَأَنِّي بِرَجُلٍ مِنَ الحَبَشَةِ أَصلَعُ»، أَو قَالَ: «أَصمَعُ حَمشُ السَّاقَينِ قَاعِدٌ عَلَيهَا وَهِيَ تُهدَمُ».
ثُمَّ قَالَ الحَافِظُ: وَقَولُهُ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ أَصلَعُ أَو أَصعَلُ أَو أَصمَعُ، الأَصلَعُ: مَن ذَهَبَ شَعرُ مُقَدَّمِ رَأسِهِ، وَالأَصعَلُ الصَّغِيرُ الرَّأسِ، وَالأَصمَعُ الصَّغِيرُ الأُذُنَينِ، وَقَولُهُ: حَمشُ السَّاقَينِ، بِحَاءٍ مُهمَلَةٍ وَمِيمٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ مُعجَمَةٍ أَي دَقِيقِ السَّاقَينِ.اهـ
وَأَخرَجَ الحَاكِمُ وَالبَيهَقِيُّ فِي السُّنَنِ الكُبرَى وَغَيرِهِمَا عَنِ الحَارِثِ بنِ سُوَيدٍ، قَالَ: سَمِعتُ عَلِيًّا رَضِيَ اللهُ عَنهُ يَقُولُ: «حُجُّوا قَبلَ أَن لَا تَحُجُّوا، فَكَأَنِّي أَنظُرُ إِلَى حَبَشِيٍّ أَصمَعَ أَفدَعَ بِيَدِهِ مِعوَلٌ يَهدِمُهَا حَجَرًا حَجَرًا»، فَقُلتُ لَهُ: شَيءٌ تَقُولُهُ بِرَأيِكَ أَو سَمِعتَهُ مِن رَسُولِ اللهِ ﷺ؟ قَالَ: «لَا وَالَّذِي فَلَقَ الحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، وَلَكِنِّي سَمِعتُهُ مِن نَبِيِّكُم ﷺ».اهـ
قَالَ الحَافِظُ ابنُ حَجَرٍ فِي الفَتحِ: قِيلَ هَذَا الحَدِيثُ يُخَالِفُ قَولَهُ تَعَالَى: ﴿أَوَلَم يَرَوا أَنَّا جَعَلنَا حَرَمًا آمِنًا﴾، وَلِأَنَّ اللهَ حَبَسَ عَن مَكَّةَ الفِيلَ وَلَم يُمَكِّن أَصحَابَهُ مِن تَخرِيبِ الكَعبَةِ وَلَم تَكُن إِذ ذَاكَ قِبلَةً، فَكَيفَ يُسَلِّطُ عَلَيهَا الحَبَشَةَ بَعدَ أَن صَارَت قِبلَةً لِلمُسلِمِينَ؟
وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ مَحمُولٌ عَلَى أَنَّهُ يَقَعُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ قُربَ قِيَامِ السَّاعَةِ حَيثُ لَا يَبقَى فِي الأَرضِ أَحَدٌ يَقُولُ (اللهُ اللهُ)، كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسلِمٍ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يُقَالَ فِي الأَرضِ اللهُ اللهُ»، وَلِهَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بنِ سَمعَانَ: «لَا يُعمَرُ بَعدَهُ أَبَدًا».
قَالَ القَاضِي عِيَاضٌ فِي شَرحِ مُسلِمٍ: وَهَذَا الحَدِيثُ وَشِبهُهُ لَا يُعَارِضُ قَولَهُ تَعَالَى: ﴿حَرَمًا آمِنًا﴾، فَمَعنَى ذَلِكَ إِلَى هَذَا الحِينِ، وَهُوَ قُرب السَّاعَةِ وَخَرَاب الدُّنيَا.اهـ
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرحِ مُسلِمٍ: وَلَا يُعَارِضُ هَذَا قَولَهُ تَعَالَى: ﴿حَرَمًا آمِنًا﴾ لِأَنَّ مَعنَاهُ: آمِنًا إِلَى قُربِ القِيَامَةِ وَخَرَابِ الدُّنيَا.اهـ
خَرَابُ المَدِينَةِ المُنَوَّرَةِ عَلَى سَاكِنِهَا أَفضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ
حَثَّ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ ﷺ عَلَى سُكنَى المَدِينَةِ المُنَوَّرَةِ وَالِاستِيطَانِ فِيهَا، وَرَغَّبَ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ المَدِينَةَ لَا بُدَّ أَن تَكُونَ أَحسَنَ حَالًا مِن غَيرِهَا غَالِبًا، فِيمَا مَضَى وَفِيمَا سَيَأتِي، فَقَد رَوَى أَحمَدُ وَغَيرُهُ عَنِ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَنِ استَطَاعَ أَن يَمُوتَ بِالمَدِينَةِ فَليَمُت بِهَا، فَإِنِّي أَشفَعُ لِمَن يَمُوتُ بِهَا».اهـ
وَأَخبَرَنَا ﷺ أَنَّ الإِيمَانَ لَيَنزَوِي إِلَى المَدِينَةِ المُنَوَّرَةِ كَمَا تَنزَوِي الحَيَّةُ إِلَى جُحرِهَا أَي إِلَى وِكرِهَا، وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا تَقُومُ حَتَّى تَنفِيَ المَدِينَةُ شِرَارَهَا، وَأَنَّهَا تَكُونُ ءَاخِرَ قَريَةٍ مِن قُرَى الإِسلَامِ خَرَابًا.
بَيَانُ: إِنَّ الإِيمَانَ لَيَأرِزُ إِلَى المَدِينَةِ
رَوَى البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ عَن أَبِي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «إِنَّ الإِيمَانَ لَيَأرِزُ إِلَى المَدِينَةِ كَمَا تَأرِزُ (أَي تَنزَوِي) الحَيَّةُ إِلَى جُحرِهَا (أَي ثُقبِهَا)».اهـ
قَالَ الحَافِظُ ابنُ حَجَرٍ فِي شَرحِ البُخَارِيِّ: قَولُهُ «كَمَا تَأرِزُ الحَيَّةُ إِلَى جُحرِهَا» أَي إِنَّهَا كَمَا تَنتَشِرُ مِن جُحرِهَا فِي طَلَبِ مَا تَعِيشُ بِهِ فَإِذَا رَاعَهَا شَيءٌ رَجَعَت إِلَى جُحرِهَا، كَذَلِكَ الإِيمَانُ انتَشَرَ فِي المَدِينَةِ وَكُلُّ مُؤمِنٍ لَهُ مِن نَفسِهِ سَائِقٌ إِلَى المَدِينَةِ لِمَحَبَّتِهِ فِي النَّبِيِّ ﷺ فَيَشمَلُ ذَلِكَ جَمِيعَ الأَزمِنَةِ لِأَنَّهُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ ﷺ لِلتَّعَلُّمِ مِنهُ وَفِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِم لِلِاقتِدَاءِ بِهَديِهِم وَمَن بَعدَ ذَلِكَ لِزِيَارَةِ قَبرِهِ ﷺ وَالصَّلَاةِ فِي مَسجِدِهِ وَالتَّبَرُّكِ بِمُشَاهَدَةِ آثَارِهِ وَآثَارِ أَصحَابِهِ.اهـ
وَرَوَى مُسلِمٌ فِي الصَّحِيحِ عَنِ ابنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ «إِنَّ الإِسلَامَ بَدَأَ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ وَهُوَ يَأرِزُ بَينَ المَسجِدَينِ (أَي مَسجِدَي مَكَّةَ وَالمَدِينَةِ) كَمَا تَأرِزُ الحَيَّةِ فِي جُحرِهَا».
قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرحِ مُسلِمٍ: قَالَ القَاضِي وَظَاهِرُ الحَدِيثِ العُمُومُ وَأَنَّ الإِسلَامَ بَدَأَ فِي آحَادٍ مِنَ النَّاسِ وَقِلَّةٍ ثُمَّ انتَشَرَ وَظَهَرَ ثُمَّ سَيَلحَقُهُ النَّقصُ وَالإِخلَالُ حَتَّى لَا يَبقَى إِلَّا فِي آحَادٍ وَقِلَّةٍ أَيضًا كَمَا بَدَأَ.اهـ
ثُمَّ قَالَ النَّوَوِيُّ: قَالَ القَاضِي عِيَاضٌ: وَقَولُهُ ﷺ «وَهُوَ يَأرِزُ إِلَى المَدِينَةِ» مَعنَاهُ أَنَّ الإِيمَانَ أَوَّلًا وَآخِرًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ لِأَنَّهُ فِي أَوَّلِ الإِسلَامِ كَانَ كُلُّ مَن خَلُصَ إِيمَانُهُ وَصَحَّ إِسلَامُهُ أَتَى المَدِينَةَ إِمَّا مُهَاجِرًا مُستَوطِنًا وَإِمَّا مُتَشَوِّقًا إِلَى رُؤيَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَمُتَعَلِّمًا مِنهُ وَمُتَقَرِّبًا ثُمَّ بَعدَهُ هَكَذَا فِي زَمَنِ الخُلَفَاءِ كَذَلِكَ وَلِأَخذِ سِيرَةِ العَدلِ مِنهُم وَالِاقتِدَاءِ بِجُمهُورِ الصَّحَابَةِ رِضوَانُ اللهِ عَلَيهِم فِيهَا ثُمَّ مَن بَعدَهُم مِنَ العُلَمَاءِ الَّذِينَ كَانُوا سُرُجَ الوَقتِ وَأَئِمَّةَ الهُدَى لِأَخذِ السُّنَنِ المُنتَشِرَةِ بِهَا عَنهُم فَكَانَ كُلُّ ثَابِتٍ عَلَى الإِيمَانِ مُنشَرِحِ الصَّدرِ بِهِ يَرحَلُ إِلَيهَا ثُمَّ بَعدَ ذَلِكَ فِي كُلِّ وَقتٍ إِلَى زَمَانِنَا لِزِيَارَةِ قَبرِ النَّبِيِّ ﷺ وَالتَّبَرُّكِ بِمَشَاهِدِهِ وَآثَارِهِ وَآثَارِ أَصحَابِهِ الكِرَامِ فَلَا يَأتِيهَا إِلَّا مُؤمِنٌ. هَذَا كَلَامُ القَاضِي.اهـ
وَرَوَى التِّرمِذِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «إِنَّ الدِّينَ لَيَأرِزُ إِلَى الحِجَازِ (وَهُوَ اسمُ مَكَّةَ وَالمَدِينَةِ وَحَوَالَيهِمَا فِي البِلَادِ) كَمَا تَأرِزُ الحَيَّةُ إِلَى جُحرِهَا، وَلَيَعقِلَنَّ الدِّينُ مِنَ الحِجَازِ مَعقِلَ الأَروِيَةِ (وهِيَ أُنثَى الوُعُولِ وَهِيَ تُيُوسُ الجَبَلِ.اهـ
قَالَ مُلَّا عَلِيٌّ القَارِي: وَالمَعنَى أَنَّ الدِّينَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ عِندَ ظُهُورِ الفِتَنِ وَاستِيلَاءِ الكَفَرَةِ وَالظَّلَمَةِ عَلَى بِلَادِ أَهلِ الإِسلَامِ يَعُودُ إِلَى الحِجَازِ كَمَا بَدَأَ مِنهُ.اهـ) مِن رَأسِ الجَبَلِ، إِنَّ الدِّينَ بَدَأَ غَرِيبًا وَيَرجِعُ غَرِيبًا (قَالَ مُلَّا عَلِيٌّ القَارِي: يَعنِي أَنَّ أَهلَ الدِّينِ فِي الأَوَّلِ كَانُوا غُرَبَاءَ يُنكِرُهُمُ النَّاسُ وَلَا يُخَالِطُونَهُم، فَكَذَا فِي الآخِرِ)، فَطُوبَى لِلغُرَبَاءِ (قَالَ مُلَّا عَلِيٌّ القَارِي: أَي: أَوَّلًا وَآخِرًا، وَسُمُّوا غُرَبَاءَ لِعَدَمِ تَعَلُّقِهِم بِالدُّنيَا وَأَهلِهَا) الَّذِينَ يُصلِحُونَ مَا أَفسَدَ النَّاسُ مِن بَعدِي مِن سُنَّتِي (قَالَ مُلَّا عَلِيٌّ القَارِي: أَي: يَعمَلُونَ بِهَا وَيُظهِرُونَهَا بِقَدرِ طَاقَتِهِم)».اهـ
بيان أن الساعة لا تقوم حتى تنفيَ المدينة شرارها
رَوَى مُسلِمٌ عَن أَبِي هُرَيرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «يَأتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَدعُو الرَّجُلُ ابنَ عَمِّهِ، وَقَرِيبَهُ هَلُمَّ إِلَى الرَّخَاءِ هَلُمَّ إِلَى الرَّخَاءِ، وَالمَدِينَةُ خَيرٌ لَهُم لَو كَانُوا يَعلَمُونَ، وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لَا يَخرُجُ مِنهُم أَحَدٌ رَغبَةً عَنهَا إِلَّا أَخلَفَ اللهُ فِيهَا خَيرًا مِنهُ، أَلَا إِنَّ المَدِينَةَ كَالكِيرِ (قَالَ ابنُ الأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ: الكِيرُ بِالكَسرِ: كِيرُ الحَدَّادِ، وَهُوَ المَبنِيُّ مِنَ الطِّينِ. وَقِيلَ: الزِّقُّ الَّذِي يُنفَخُ بِهِ النَّارُ، وَالمَبنِيُّ: الكُورُ) تُخرِجُ الخَبِيثَ، لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَنفِيَ المَدِينَةُ شِرَارَهَا كَمَا يَنفِي الكِيرُ خَبَثَ الحَدِيدِ (قَالَ ابنُ الأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ: هُوَ مَا تُلقِيهِ النَّارُ مِن وَسَخِ الفِضَّةِ وَالنُّحَاسِ وَغَيرِهِمَا إِذَا أُذِيبَا)».اهـ
قَولُهُ ﷺ «إِنَّمَا المَدِينَةُ كَالكِيرِ تَنفِي خَبَثَهَا وَيَنصَعُ طَيِّبُهَا» هُوَ بِفَتحِ اليَاءِ وَالصَّادِ المُهمَلَةِ أَي يَصفُو وَيَخلُصُ وَيَتَمَيَّزُ وَالنَّاصِعُ الصَّافِي الخَالِصُ وَمِنهُ قَولُهُم نَاصِعُ اللَّونِ أَي صَافِيهِ وَخَالِصُهُ وَمَعنَى الحَدِيثِ أَنَّهُ يَخرُجُ مِنَ المَدِينَةِ مَن لَم يَخلُص إِيمَانُهُ وَيَبقَى فِيهَا مَن خَلَصَ إِيمَانُهُ قَالَ أَهلُ اللُّغَةِ يُقَالُ نَصَعَ الشَّيءُ يَنصَعُ بِفَتحِ الصَّادِ فِيهِمَا نُصُوعًا إِذَا خَلَصَ وَوَضَحَ وَالنَّاصِعُ الخَالِصُ مِن كُلِّ شَيءٍ.اهـ
وَرَوَى البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ عَن أَبِي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أُمِرتُ بِقَريَةٍ تَأكُلُ القُرَى، يَقُولُونَ يَثرِبُ، وَهِيَ المَدِينَةُ، تَنفِي النَّاسَ كَمَا يَنفِي الكِيرُ خَبَثَ الحَدِيدِ».اهـ
قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرحِ مُسلِمٍ: قَولُهُ ﷺ «أُمِرتُ بَقَريَةٍ تَأكُلُ القُرَى» مَعنَاهُ أُمِرتُ بِالهِجرَةِ إِلَيهَا وَاستِيطَانِهَا وَذَكَرُوا فِي مَعنَى أَكلِهَا القُرَى وَجهَينِ أَحَدُهُمَا أَنَّهَا مَركَزُ جُيُوشِ الإِسلَامِ فِي أَوَّلِ الأَمرِ فَمِنهَا فُتِحَتِ القُرَى وَغُنِمَت أَموَالُهَا وَسَبَايَاهَا وَالثَّانِي مَعنَاهُ أَنَّ أَكلَهَا وَمِيرَتَهَا تَكُونُ مِنَ القُرَى المُفتَتِحَةِ وَإِلَيهَا تُسَاقُ غَنَائِمُهَا.
قَولُهُ ﷺ «يَقُولُونَ يَثرِبَ وَهِيَ المَدِينَةُ» يَعنِي أَنَّ بَعضَ النَّاسِ مِنَ المُنَافِقِينَ وَغَيرَهُم يُسَمُّونَهَا يَثرِبَ وَإِنَّمَا اسمُهَا المَدِينَةُ وَطَابَةُ وَطَيبَةُ فَفِي هَذَا كَرَاهَةُ تَسمِيَتِهَا يَثرِبَ.اهـ
قَولُهُ ﷺ: «تَنفِي النَّاسَ» أَيِ الشِّرَارَ مِنهُم، وَلَيسَ المَقصُودُ مِنَ الحَدِيثِ ذَمُّ مَن خَرَجَ مِنَ المَدِينَةِ مُطلَقًا، فَقَد خَرَجَ مِنهَا جَمعٌ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَسَكَنُوا غَيرَهَا مِنَ البِلَادِ وَكَذَا مَن بَعدَهُم مِنَ الفُضَلَاءِ، خَرَجَ مِنَ المَدِينَةِ بَعدَ النَّبِيِّ ﷺ مُعَاذٌ وَأَبُو عُبَيدَةَ وَابنُ مَسعُودٍ وَطَائِفَةٌ ثُمَّ عَلِيٌّ وَطَلحَةُ وَالزُّبَيرُ وَعَمَّارٌ وَآخَرُونَ وَهُم مِن أَطيَبِ الخَلقِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ المُرَادَ بِالحَدِيثِ تَخصِيصُ نَاسٍ دُونَ نَاسٍ وَوَقتٍ دُونَ وَقتٍ.
وَإِنَّمَا المَذمُومُ مَن خَرَجَ عَنهَا كَرَاهَةً فِيهَا وَرَغبَةً عَنهَا وَأَمَّا المُشَارُ إِلَيهِم فَإِنَّمَا خَرَجُوا لِمَقَاصِدَ صَحِيحَةٍ كَنَشرِ العِلمِ وَفَتحِ بِلَادِ الشِّركِ وَالمُرَابَطَةِ فِي الثُّغُورِ وَجِهَادِ الأَعدَاءِ وَهُم مَعَ ذَلِكَ عَلَى اعتِقَادِ فَضلِ المَدِينَةِ وَفَضلِ سُكنَاهَا.اهـ
بَيَانُ تَركِ النَّاسِ المَدِينَةَ فِي ءَاخِرِ الزَّمَانِ
بَعدَ هُبُوبِ الرِّيحِ الَّتِي تَقبِضُ رُوحَ كُلِّ مُسلِمٍ بِزَمَانٍ لَا يَبقَى فِي المَدِينَةِ المُنَوَّرَةِ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ، فَتَخرَبُ المَدِينَةُ وَهِيَ آخِرُ قُرَى الإِسلَامِ خَرَابًا.
فَقَد رَوَى التِّرمِذِيُّ عَن أَبِي هُرَيرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «ءَاخِرُ قَريَةٍ مِن قُرَى الإِسلَامِ خَرَابًا المَدِينَةُ».اهـ
وَرَوَى البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ أَنَّ أَبَا هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «يَترُكُونَ المَدِينَةَ عَلَى خَيرِ مَا كَانَت لَا يَغشَاهَا إِلَّا العَوَافِي -يُرِيدُ عَوَافِيَ السِّبَاعِ وَالطَّيرِ- وَآخِرُ مَن يُحشَرُ رَاعِيَانِ مِن مُزَينَةَ، يُرِيدَانِ المَدِينَةَ، يَنعَقَانِ (أَي يَصِيحَانِ) بِغَنَمِهِمَا فَيَجِدَانِهَا وَحشًا (قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرحِ مُسلِمٍ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ مَعنَاهُ يَجِدَانِهَا ذَاتَ وُحُوشٍ)، حَتَّى إِذَا بَلَغَا ثَنِيَّةَ الوَدَاعِ خَرَّا عَلَى وُجُوهِهِمَا».
وَلَفظُ رِوَايَةِ مُسلِمٍ عَنهُ: «يَترُكُونَ المَدِينَةَ عَلَى خَيرِ مَا كَانَت (قَالَ الحَافِظُ ابنُ حَجَرٍ فِي الفَتحِ: أَي عَلَى أَحسَنِ حَالٍ كَانَت عَلَيهِ مِن قَبلُ) لَا يَغشَاهَا إِلَّا العَوَافِي -يُرِيدُ عَوَافِيَ السِّبَاعِ وَالطَّيرِ- ثُمَّ يَخرُجُ رَاعِيَانِ مِن مُزَينَةَ يُرِيدَانِ المَدِينَةَ يَنعَقَانِ بِغَنَمِهِمَا فَيَجِدَانِهَا وَحشًا حَتَّى إِذَا بَلَغَا ثَنِيَّةَ الوَدَاعِ خَرَّا عَلَى وُجُوهِهِمَا.اهـ (قَالَ الحَافِظُ ابنُ حَجَرٍ فِي الفَتحِ: أَي سَقَطَا مَيِّتَينِ أَوِ المُرَادُ بِقَولِهِ خَرَّا عَلَى وُجُوهِهِمَا أَي سَقَطَا بِمَن أَسقَطَهُمَا وَهُوَ المَلَكُ.اهـ قَالَ المُنَاوِيُّ فِي التَّيسِيرِ بِشَرحِ الجَامِعِ الصَّغِيرِ: أَي أَخَذَتهُمَا الصَّعقَةُ عِندَ النَّفخَةِ الأُولَى)
رَوَى مَالِكٌ عَنِ ابنِ حَمَاسٍ بِمُهمَلَتَينِ وَتَخفِيفٍ عَن عَمِّهِ عَن أَبِي هُرَيرَةَ رَفَعَهُ: «لَتَترُكُنَّ المَدِينَةَ عَلَى أَحسَنِ مَا كَانَت حَتَّى يَدخُلَ الذِّئبُ فَيَعوِيَ عَلَى بَعضِ سَوَارِي المَسجِدِ أَو عَلَى المِنبَرِ» قَالُوا: فَلِمَن تَكُونُ ثِمَارُهَا، قَالَ: «لِلعَوَافِي، الطَّيرِ وَالسِّبَاعِ»، أَخرَجَهُ مَعنُ بنُ عِيسَى فِي المُوَطَّأِ عَن مَالِكٍ، وَرَوَاهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الثِّقَاتِ خَارِجَ المُوَطَّأِ.اهـ
وَرَوَى عُمَرُ بنُ شَبَّةَ فِي تَارِيخِ المَدِينَةِ بِإِسنَادٍ صَحِيحٍ عَن عَوفِ بنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ المَسجِدَ ثُمَّ نَظَرَ إِلَينَا فَقَالَ: «أَمَا وَاللهِ لَتَدَعُنَّهَا مُذَلَّلَةً أَربَعِينَ عَامًا لِلعَوَافِي، أَتَدرُونَ مَا العَوَافِي؟ الطَّيرُ وَالسِّبَاعُ».اهـ قَالَ الحَافِظُ ابنُ حَجَرٍ فِي الفَتحِ: وَهَذَا لَم يَقَع قَطعًا.اهـ
تَنبِيهٌ: أَنكَرَ ابنُ عُمَرَ عَلَى أَبِي هُرَيرَةَ تَعبِيرَهُ فِي هَذَا الحَدِيثِ بِقَولِهِ: «خَيرَ مَا كَانَت»، وَقَالَ: إِنَّ الصَّوَابَ: أَعمَرَ مَا كَانَت، فَقَد رَوَى عُمَرُ بنُ شَبَّةَ فِي تَارِيخِ المَدِينَةِ: عَن أَبِي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «المَدِينَةُ يَخرُجُ مِنهَا أَهلُهَا خَيرَ مَا كَانَت». فَقَالَ أَبُو الوَلِيدِ: وَكَانَ عَبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا يَرُدُّ عَلَيهِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بنُ مُسَاحِقِ بنِ عَمرِو بنِ خَرَّاشٍ أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا عِندَ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا، فَجَاءَ أَبُو هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ فَقَالَ: لِمَ تَرُدُّ عَلَيَّ؟ فَوَاللهِ لَقَد كُنتُ أَنَا وَأَنتَ فِي بَيتٍ حِينَ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «يَخرُجُ مِنهَا أَهلُهَا خَيرَ مَا كَانَت» فَقَالَ ابنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا: أَجَل، قَد كُنتُ أَنَا وَأَنتَ فِي بَيتٍ، وَلَكِن لَم يَقُلهُ، إِنَّمَا قَالَ: «أَعمَرَ مَا كَانَت»، وَلَو قَالَ: «خَيرَ مَا كَانَت»، لَكَانَ ذَلِكَ وَهُوَ حَيٌّ وَأَصحَابَهُ. فَقَالَ أَبُو هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: «صَدَقتَ وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ».اهـ
وَرَوَى عُمَرُ بنُ شَبَّةَ فِي تَارِيخِ المَدِينَةِ عَن أَبِي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: «آخِرُ مَن يُحشَرُ رَجُلَانِ: رَجُلٌ مِن جُهَينَةَ، وَآخَرُ مِن مُزَينَةَ، فَيَقُولَانِ: أَينَ النَّاسُ؟ فَيَأتِيَانِ المَسجِدَ فَلَا يَرَيَانِ إِلَّا الثَّعلَبَ، فَيَنزِلُ إِلَيهِمَا مَلَكَانِ فَيَسحَبَانِهِمَا عَلَى وُجُوهِهِمَا حَتَّى يُلحِقَاهُمَا بِالنَّاسِ».اهـ
خروج نار عظيمة تطرد الناس إلى محشرهم
آخِرُ الآيَاتِ الكُبرَى وَالعَلَامَاتِ العُظمَى لِأَشرَاطِ السَّاعَةِ خُرُوجُ نَارٍ عَظِيمَةٍ تَطرُدُ النَّاسَ إِلَى مَحشَرِهِم. وَقَد جَاءَ فِي ذَلِكَ عِدَّةُ أَحَادِيثَ، مِنهَا:
عَن حُذَيفَةَ بنِ أَسِيدٍ الغِفَارِيِّ قَالَ: اطَّلَعَ النَّبِيُّ ﷺ عَلَينَا وَنَحنُ نَتَذَاكَرُ فَقَالَ: «مَا تَذَاكَرُونَ؟» قَالُوا: نَذكُرُ السَّاعَةَ. قَالَ: «إِنَّهَا لَن تَقُومَ حَتَّى تَرَوا قَبلَهَا عَشرَ آيَاتٍ»، فَذَكَرَ « ونَارٌ تَخرُجُ مِنَ اليَمَنِ تَطرُدُ النَّاسَ إِلَى مَحشَرِهِم».اهـ رَوَاهُ مُسلِمٌ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسلِمٍ عَنهُ: «وَنَارٌ تَخرُجُ مِن قُعرَةِ عَدَنٍ تَرحَلَ النَّاسَ».اهـ
قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرحِ مُسلِمٍ: قَولُهُ ﷺ «وَآخِرُ ذَلِكَ: نَارٌ تَخرُجُ مِنَ اليَمَنِ تَطرُدُ النَّاسَ إِلَى مَحشَرِهِم» وَفِي رِوَايَةٍ «وَنَارٌ تَخرُجُ مِن قُعرَةِ عَدَنٍ» هَكَذَا هُوَ فِي الأُصُولِ (قُعرَة) بِالهَاءِ وَالقَافِ مَضمُومَةً وَمَعنَاهُ مِن أَقصَى قَعرِ أَرضِ عَدَنٍ، وَعَدَنٌ مَدِينَةٌ مَعرُوفَةٌ مَشهُورَةٌ بِاليَمَنِ، قَالَ المَاوَردِيُّ: سُمِّيَت عَدَنًا مِنَ العُدُونِ وَهِيَ الإِقَامَةُ لِأَنَّ تُبَّعًا كَانَ يَحبِسُ فِيهَا أَصحَابَ الجَرَائِمِ، وَهَذِهِ النَّارُ الخَارِجَةُ مِن قَعرِ عَدَنٍ وَاليَمَنِ هِيَ الحَاشِرَةُ لِلنَّاسِ كَمَا صُرِّحَ بِهِ فِي الحَدِيثِ.اهـ
ثُمَّ قَالَ النَّوَوِيُّ: قَولُهُ ﷺ (تَرحَلُ النَّاسَ) هُوَ بِفَتحِ التَّاءِ وَإِسكَانِ الرَّاءِ وَفَتحِ الحَاءِ المُهمَلَةِ المُخَفَّفَةِ هَكَذَا ضَبَطنَاهُ وَهَكَذَا ضَبَطَهُ الجُمهُورُ وَكَذَا نَقَلَ القَاضِي عَن رِوَايَتِهِم وَمَعنَاهُ تَأخُذُهُم بِالرَّحِيلِ وَتُزعِجُهُم وَيَجعَلُونَ يَرحَلُونَ قُدَّامَهَا.اهـ
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسلِمٍ: عَن أَبِي سُرَيحَةَ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي غُرفَةٍ وَنَحنُ تَحتَهَا نَتَحَدَّثُ وَسَاقَ الحَدِيثَ بِمِثلِهِ. قَالَ شُعبَةُ وَأَحسَبُهُ قَالَ: تَنزِلُ مَعَهُم إِذَا نَزَلُوا وَتَقِيلُ مَعَهُم حَيثُ قَالُوا.اهـ
وَفِي رِوَايَةِ ابنِ مَاجَه عَنهُ: وَنَارٌ تَخرُجُ مِن قَعرِ عَدَنِ أَبيَنَ (قَالَ ابنُ الأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ: هِيَ مَدِينَةٌ مَعرُوفَةٌ بِاليَمَنِ، أُضِيفَت إِلَى أَبيَنَ بِوَزنِ أَبيَضَ، وَهُوَ رَجُلٌ مِن حِميَرَ، عَدَنَ بِهَا: أَي أَقَامَ. وَمِنهُ سُمِّيَت جَنَّةَ عَدنٍ: أَي جَنَّةَ إِقَامَةٍ. يُقَالُ: عَدَنَ بِالمَكَانِ يَعدِنُ عَدنًا إِذَا لَزِمَهُ وَلَم يَبرَح مِنهُ) تَسُوقُ النَّاسَ إِلَى المَحشَرِ تَبِيتُ مَعَهُم إِذَا بَاتُوا وَتَقِيلُ مَعَهُم إِذَا قَالُوا.اهـ
وَرَوَى أَحمَدُ وَالتِّرمِذِيُّ وَاللَّفظُ لَهُ عَنِ ابنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «سَتَخرُجُ نَارٌ مِن حَضرَمَوتَ أَو مِن نَحوِ بَحرِ حَضرَمَوتَ قَبلَ يَومِ القِيَامَةِ تَحشُرُ النَّاسَ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، فَمَا تَأمُرُنَا؟ قَالَ: «عَلَيكُم بِالشَّامِ».اهـ
كيفية حشرها للناس
رَوَى البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ عَن أَبِي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «يُحشَرُ النَّاسُ عَلَى ثَلَاثِ طَرَائِقَ، رَاغِبِينَ رَاهِبِينَ، وَاثنَانِ عَلَى بَعِيرٍ، وَثَلَاثَةٌ عَلَى بَعِيرٍ، وَأَربَعَةٌ عَلَى بَعِيرٍ، وَعَشَرَةٌ عَلَى بَعِيرٍ، وَتَحشُرُ بَقِيَّتَهُمُ النَّارُ تَبِيتُ مَعَهُم، حَيثُ بَاتُوا وَتَقِيلُ مَعَهُم حَيثُ قَالُوا، وَتُصبِحُ مَعَهُم حَيثُ أَصبَحُوا، وَتُمسِي مَعَهُم حَيثُ أَمسَوا».اهـ
قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرحِ مُسلِمٍ: قَالَ العُلَمَاءُ وَهَذَا الحَشرُ فِي آخِرِ الدُّنيَا قُبَيلَ القِيَامَةِ وَقُبَيلَ النَّفخِ فِي الصُّورِ، بِدَلِيلِ قَولِهِ ﷺ (تَحشُرُ بَقِيَّتَهُمُ النَّارُ تَبِيتُ مَعَهُم وَتَقِيلُ وَتُصبِحُ وَتُمسِي) وَهَذَا آخِرُ أَشرَاطِ السَّاعَةِ كَمَا ذَكَرَ مُسلِمٌ بَعدَ هَذَا فِي آيَاتِ السَّاعَةِ، قَالَ: (وَآخِرُ ذَلِكَ نَارٌ تَخرُجُ مِن قَعرِ عَدَنٍ تَرحَلُ النَّاسَ) وَفِي رِوَايَةٍ (تَطرُدُ النَّاسَ إِلَى مَحشَرِهِم) وَالمُرَادُ بِثَلَاثِ طَرَائِقَ: ثَلَاثُ فِرَقٍ، وَمِنهُ قَولُهُ تَعَالَى إِخبَارًا عَنِ الجِنِّ: ﴿كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا﴾ أَي: فِرَقًا مُختَلِفَةَ الأَهوَاءِ.اهـ
وَقَالَ الحَافِظُ ابنُ حَجَرٍ فِي الفَتحِ: قَولُهُ (وَتَحشُرُ بَقِيَّتَهُمُ النَّارُ) هَذِهِ هِيَ النَّارُ المَذكُورَةُ فِي حَدِيثِ حُذَيفَةَ بنِ أَسِيدٍ بِفَتحِ الهَمزَةِ وَعِندَ مُسلِمٍ فِي حَدِيثٍ فِيهِ ذِكرُ الآيَاتِ الكَائِنَةِ قَبلَ قِيَامِ السَّاعَةِ كَطُلُوعِ الشَّمسِ مِن مَغرِبِهَا فَفِيهِ (وَآخِرُ ذَلِكَ نَارٌ تَخرُجُ مِن قَعرِ عَدَنٍ تَرحَلُ النَّاسَ) وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ (تَطرُدُ النَّاسَ إِلَى حَشرِهِم).
قَولُهُ (تَقِيلُ مَعَهُم حَيثُ قَالُوا) إلخ، فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مُلَازَمَةِ النَّارِ لَهُم إِلَى أَن يَصِلُوا إِلَى مَكَانِ الحَشرِ وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ الثَّالِثَةُ. قَالَ الخَطَّابِيُّ: هَذَا الحَشرُ يَكُونُ قَبلَ قِيَامِ السَّاعَةِ تَحشُرُ النَّاسَ أَحيَاءً إِلَى الشَّامِ، وَأَمَّا الحَشرُ مِنَ القُبُورِ إِلَى المَوقِفِ فَهُوَ عَلَى خِلَافِ هَذِهِ الصُّورَةِ مِنَ الرُّكُوبِ عَلَى الإِبِلِ وَالتَّعَاقُبِ عَلَيهَا وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ ابنِ عَبَّاسٍ فِي البَابِ (حُفَاةً عُرَاةً مُشَاةً).
ثُمَّ قَالَ ابنُ حَجَرٍ: وَصَوَّبَ عِيَاضٌ مَا ذَهَبَ إِلَيهِ الخَطَّابِيُّ وَقَوَّاهُ بِحَدِيثِ حُذَيفَةَ بنِ أَسِيدٍ وَبِقَولِهِ فِي آخِرِ حَدِيثِ البَابِ (تَقِيلُ مَعَهُم وَتَبِيتُ وَتُصبِحُ وَتُمسِي) فَإِنَّ هَذِهِ الأَوصَافَ مُختَصَّةٌ بِالدُّنيَا.اهـ
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ عَن عَبدِ اللهِ بنِ عَمرِو بنِ العَاصِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «تُبعَثُ نَارٌ عَلَى أَهلِ المَشرِقِ فَتَحشُرُهُم إِلَى المَغرِبِ تَبِيتُ مَعَهُم حَيثُ بَاتُوا، وَتَقِيلُ مَعَهُم حَيثُ قَالُوا، يَكُونُ لَهَا مَا سَقَطَ مِنهُم وَتَخَلَّفَ، تَسُوقُهُم سَوقَ الجَمَلِ الكَسِيرِ».اهـ
على من تقوم الساعة
رَوَى مُسلِمٌ عَن أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يُقَالَ فِي الأَرضِ: اللهُ، اللهُ».اهـ (أَي حَتَّى لَا يُذكَرَ اسمُ اللهِ وَلَا يُعبَدَ) وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسلِمٍ عَنهُ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ عَلَى أَحَدٍ يَقُولُ: اللهُ، اللهُ”.اهـ وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحمَدَ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يُقَالَ فِي الأَرضِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ».اهـ وَفِي رِوَايَةٍ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ عَلَى أَحَدٍ يَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ».اهـ وَفِي رِوَايَةٍ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ عَلَى مُؤمِنٍ، يَبعَثُ اللهُ رِيحًا بَينَ يَدَيِ السَّاعَةِ طَيِّبَةً فَتَهُبُّ فَلَا يَبقَى مُؤمِنٌ إِلَّا مَاتَ».اهـ
وَرَوَى مُسلِمٌ عَن عَبدِ اللهِ بنِ مَسعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا عَلَى شِرَارِ النَّاسِ».اهـ وَفِي رِوَايَةٍ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا عَلَى حُثَالَةِ النَّاسِ».اهـ
وَرَوَى أَحمَدُ عَن عَبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَأخُذَ اللهُ شَرِيطَتَهُ مِن أَهلِ الأَرضِ، فَيَبقَى فِيهَا عُجَاجَةٌ لَا يَعرِفُونَ مَعرُوفًا وَلَا يُنكِرُونَ مُنكَرًا».اهـ
وَلِأَحمَدَ مِن حَدِيثِ ثَوبَانَ: «وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَلحَقَ قَبَائِلُ مِن أُمَّتِي بِالمُشرِكِينَ، وَحَتَّى تَعبُدَ قَبَاِئِلُ مِن أُمَّتِي الأَوثَانَ».اهـ
وَلِأَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ عَن أَبِي هُرَيرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَرجِعَ نَاسٌ مِن أُمَّتِي إِلَى أَوثَانٍ يَعبُدُونَهَا مِن دُونِ اللهِ».اهـ
خاتمة
أَيُّهَا الأَحِبَّةُ، هَا نَحنُ نَصِلُ إِلَى خِتَامِ هَذِهِ السِّلسِلَةِ الرَّمَضَانِيَّةِ المُبَارَكَةِ، الَّتِي تَحَدَّثنَا فِيهَا عَن عَلَامَاتِ السَّاعَةِ، مِنَ الصُّغرَى إِلَى الكُبرَى، مِن بِدَايَاتِ الإِنذَارِ إِلَى مَشَاهِدِ النِّهَايَةِ، فَمَرَرْنَا عَلَى أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ تَقشَعِرُّ لَهَا الجُلُودُ، وَتَنخَلِعُ لَهَا القُلُوبُ، وَمَا كَانَ القَصدُ مِنهَا بَثَّ الخَوفِ، بَلْ بَثَّ اليَقَظَةِ، وَإِنَارَةَ الطَّرِيقِ.
فَيَا مَن بَلَغَ أُذُنَكَ العلمُ، هَل بَلَغَ قَلبَكَ؟ هَل تَوَقَّفْتَ وَسَأَلتَ نَفسَكَ: مَاذَا أَعدَدْتَ لِلِقَاءِ اللهِ؟ هَل عَرَفْتَ أَنَّ كُلَّ عَلَامَةٍ مِن عَلَامَاتِ السَّاعَةِ إِنَّمَا هِيَ كَجَرَسِ تَنبِيهٍ لَكَ، قَبلَ أَن تَكُونَ مَشهَدًا يَحصُلُ فِي هَذِهِ الدُّنيَا؟ هَلِ استَشعَرْتَ أَنَّ السَّاعَةَ لَيسَتْ فَقَطْ بَعِيدَةً عَنِّي وَعَنكَ، بَل قَدْ تَكُونُ أَقرَبَ مِمَّا تَتَخَيَّلُ، فِي لَحظَةِ قَبضِ رُوحِكَ؟ يَا مَنِ استَمَعْتَ مَعَنَا فِي هَذَا الشَّهْرِ إِلَى هَذِهِ العَلَامَاتِ:
نِهَايَةُ العَلَامَاتِ هَِي بِدَايَةُ الحَقِيقَةِ الكُبرَى… يَومَ العَرضِ عَلَى اللهِ. حَيثُ قَالَ تَعَالَى: ((وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا، لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ))، ((يَومَئِذٍ تُعرَضُونَ لَا تَخفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ))، هُنَاكَ، لَا يُنَجِّي العَبدَ نَسَبٌ، وَلَا حَسَبٌ، وَلَا جَاهٌ، وَلَا مَالٌ …. رَحمَةُ اللهِ تَعَالَى، الَّذِي جَعَلَ سَبَبَ النَّجَاةِ عَمَلَكَ، قَلبَكَ، نِيَّتَكَ، وَصِدقَكَ. يَا مَن لَا يَزَالُ قَلبُهُ فِي صَدرِهِ يَنبِضُ، وَرُوحُهُ فِيهِ لَم تَخرُجْ: اعْلَمْ أَنَّ الوَقتَ لَم يَفُتْ بَعدُ، نَعَمْ: رَمَضَانُ شَارَفَ عَلَى الرَّحِيلِ، لَكِنَّ أَبوَابَ التَّوبَةِ مَا زَالَتْ مَفْتُوحَةً. وَإِنَّنَا لَا نَختِمُ بَرنَامَجَنَا اليَومَ إِلَّا لِيَفتَحَ كُلٌّ مِنَّا صَفحَةً جَدِيدَةً، عُنوَانُهَا: (اسْتَعِدَّ، فَقَدِ اقتَرَبَ اللِّقَاءُ)! قَالَ أَحَدُ الصَّالِحِينَ: “تَاللهِ لَوْ قِيلَ لِأَهلِ القُبُورِ: تَمَنَّوا، لَتَمَنَّوا يَومًا مِنْ رَمَضَانَ يُصْلِحُونَ فِيهِ مَا أَفسَدُوْا”. وَنَحنُ – وَللهِ الحَمدُ – مَا زِلنَا أَحيَاءَ، نَسمَعُ، وَنُبصِرُ، وَنَستَطِيعُ.
أَحِبَّتِي: مَا نَرَاهُ مِنْ أَحدَاثٍ جِسَامٍ، وَحُرُوبٍ وَفِتَنٍ، وَانكِشَافٍ لِقُلُوبٍ ضَعِيفَةٍ، وَثَبَاتٍ لِأُنَاسٍ وَهَلَاكٍ لِآخَرِينَ، لَيسَ عَبَثًا، بَلْ هُوَ جُزءٌ مِنْ عَلَامَاتِ هَذَا الزَّمَانِ. وَإِنَّ مِنْ أَعظَمِ وَسَائِلِ الثَّبَاتِ أَنْ تَعْرِفَ رَبَّكَ عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِ، وَتَعرِفَ نَبِيَّكَ عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِ، وَتَتَعَلَّمَ مَا افتَرَضَ اللهُ عَلَيكَ مِنْ عِلمِ الدِّينِ وَتَسْأَلَ اللهَ الهِدَايَةَ فِي كُلِّ وَقتٍ. فَفِي زَمَنِ الفِتَنِ، الثَّبَاتُ نِعمَةٌ، وَالصُّحْبَةُ الصَّالِحَةُ كَنزٌ، وَالعِلمُ الشَّرعِيُّ أَمَانٌ لَكَ مِنْ تَقَلُّبَاتِ الأَزمَانِ وَالفِتَنِ، وَالقَلبُ الحَيُّ بِالعِلْمِ يَكُونُ أَبعَدَ عَنِ الزَّلَلِ غَالِبًا بِإِذنِ اللهِ. فَيَا مَنْ سَمِعَ عَنْ عَلَامَاتِ السَّاعَةِ، اجْعَلْ فِي قَلبِكَ عَلَامَةً …. عَلَامَةَ تَوبَةٍ، عَلَامَةَ رُجُوعٍ، عَلَامَةَ صِدقٍ مَعَ اللهِ، فَهُوَ الَّذِي يَعلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخفِي الصُّدُورُ.
وَعِندَ انقِضَاءِ العَلَامَاتِ وَإِتيَانِ السَّاعَةِ اعْلَمْ أَنَّ مَا يَنفَعُكَ هُوَ مَا قَالَهُ رَبُّ العَالَمِينَ فِي كِتَابِهِ الكَرِيمِ حِكَايَةً عَنِ الخَلِيلِ إِبرَاهِيمَ عَلَيهِ السَّلَامُ: ((وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ، يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ))، وَالقَلبُ السَّلِيمُ الَّذِي يَنفَعُكَ يَومَ الدِّينِ هُوَ العَامِرُ بِمَعرِفَةِ اللهِ كَمَا يَجِبُ وَبِتَعظِيمِ اللهِ وَبِتنزِيهِ اللهِ عَنِ الشَّبِيهِ وَالمَثِيلِ، وَالقَلبُ السَّلِيمُ هُوَ الصَّادِقُ المُخلِصُ بِأَعمَالِ الطَّاعَاتِ، فَلَا يَنْظُرُ إِلَى مَدحِ النَّاسِ وَلَا ذَمِّهِمْ وَلَا إِحسَانِهِمْ وَلَا إِسَاءَتِهِمْ، الخَالِي عَن أَسبَابِ الهَلَكَةِ، هَذِهِ هِيَ أُسُسُ وَقَوَاعِدُ سَلَامَةِ الصَّدرِ، لَا تَجِدُ مُحَرِّكًا لِلعَمَلِ فِيهِ إِلَّا طَلَبَ ثَوَابِ اللهِ وَمَا عِندَهُ وَلَا رَادِعًا لَهُ عَنِ الفِتَنِ إِلَّا خَوفَهُ مِنَ اللهِ، يُقَدِّمُ للهِ وَيُعطِي للهِ وَيَخشَى اللهَ وَيَثبُتُ للهِ وَيَخَافُ الفِتنَةَ وَيَسأَلُ اللهَ النَّجَاةَ مِنهَا، يَمشِي عَلَى وَجَلٍ وَخَوفٍ لَا يَطْمَئِنُّ فِي الدُّنيَا إِلَّا بِطَاعَةِ رَبِّهِ إِذَا خَلَا لِمُنَاجَاتِهِ، لَذَّتُهُ فِي هَذَا، لَو كَانَ بَينَ النَّاسِ فَهُوَ خَالٍ عَنهُمْ بِقَلْبِهِ، لَوْ كَلَّمَهُمْ وَخَالَطَهُمْ فَهُوَ مَعَ حُبِّ اللهِ وَثَوَابِ اللهِ وَطَاعَةِ اللهِ وَالرَّادِعُ عَنِ الخَلَلِ هُوَ الخَوفُ مِنَ اللهِ لَا غَيرُ، هَذِهِ سَلَامَةُ الصَّدْرِ الَّتِي تَنفَعُكَ يَومَ الدِّينِ.
خِتَامًا، أُوصِيكُمْ وَنَفسِيَ بِـ: دَوَامِ الِاستِغْفَارِ، وَبِالإِكثَارِ مِنَ الدُّعَاءِ لِلْمُسْلِمِينَ، لَا سِيَّمَا فِي فِلَسطِينَ، وَفِي غَزَّةَ الصَّابِرَةِ، وَبِنُصْرَةِ الحَقِّ وَلَوْ بِكَلِمَةٍ، بِالدُّعَاءِ، بِالنِّيَّةِ، وَبِالثَّبَاتِ عَلَى الطَّرِيقِ، وَبِالحِفَاظِ عَلَى مَا بَدَأتُمْ بِهِ فِي هَذَا الشَّهرِ: مِن صَلَاةٍ، وَقِرَاءَةِ قُرآنٍ، وَعِلْمٍ، وَرِفقَةِ خَيرٍ، وَصَدَقَةٍ فِي السِّرِّ وَالعَلَنِ فَإِنَّ خَيرَ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ فِي رَمَضَانَ.
أَحبَابِي: كَمْ هِيَ عَظِيمَةٌ فَرحَةُ العَبدِ المُؤمِنِ الصَّالِحِ بِمَا قَامَ بِهِ مِنَ الخَيرَاتِ فِي رَمَضَانَ، وَكَم هُوَ عَظِيمٌ ثَبَاتُهُ عَلَيهَا بَعدَ رَمَضَانَ، مِنَ الإِمسَاكِ عَنِ الكَلَامِ الَّذِي لَا يُرضِي اللهَ تَعَالَى، مِنَ الِابتِعَادِ عَمَّا حَرَّمَ اللهُ تَعَالَى وَكَذَلِكَ مِنَ الثَّبَاتِ عَلَى طَاعَةِ اللهِ مِن صَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَتَعَلُّمِ عِلْمِ الدِّينِ، نَعَم، بِإِقبَالٍ، بِهِمَّةٍ عَالِيَةٍ إِلَى مَجَالِسِ عِلمِ الدِّينِ، لَا تَشبَعْ أَخِي المُؤمِنَ مِن تَحصِيلَ عِلمِ الدِّينِ، فَقَد قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: “لَا يَشبَعُ مُؤمِنٌ مِن خَيرٍ يَسمَعُهُ حَتَّى يَكُونَ مُنتَهَاهُ الجَنَّةُ“، رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وإنه يَمُرُّ عَلَى الإِنسَانِ أَحيَانًا أَوقَاتٌ يَكُونُ فِيهَا مِنَ الغَافِلِينَ ثُمَّ يَتَيَقَّظُ وَيَنتَبِهُ فَيَطرُقُ بَابَ التَّوبَةِ إِلَى اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. وَبَابُ التَّوبَةِ مَفتُوحٌ مَا لَم تَصِلِ الرُّوحُ إِلَى الحُلقُومِ أَي مَا لَم يُغَرغِر، وَلَم تَطلُعِ الشَّمسُ مِن مَغرِبِهَا، وَمَا لَم يَرَ مَلَكَ المَوتِ عَزرَائِيلَ عَلَيهِ السَّلَامُ.
يَا أَخِي المُسلِمَ، لَعَلَّهَا أَيَّامٌ أَو سَاعَاتٌ أَو دَقَائِقُ أَو أَقَلُّ تَمضِي عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا ثُمَّ يَنتَهِي بِهِ الأَمرُ إِلَى القَبرِ. تُرَى، أَلَيسَ الكَيِّسُ مَن دَانَ نَفسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعدَ المَوتِ؟ بَلَى وَاللهِ. أَلَيسَ الكَيِّسُ الفَطِنُ الذَّكِيُّ هُوَ الَّذِي حَاسَبَ نَفسَهُ فِي هَذِهِ الدُّنيَا قَبلَ أَن يُحَاسَبَ فِي الآخِرَةِ؟ بَلَى وَاللهِ. فَالغَفلَةُ لَا تَنفَعُ، وَمَتَاعُ الدُّنيَا الغُرُورُ وَالخِدَاعُ.
وَإِنَّ مِنْ أَكبَرِ الخُسرَانِ أَنْ يَعُودَ المَرءُ بَعْدَ الغَنِيمَةِ خَاسِرًا، وَأَنْ يُبَدِّدَ المَكَاسِبَ الَّتِي يَسَّرَهَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي هَذَا الشَّهرِ الكَرِيمِ، وَأَنْ يَنقَلِبَ بَعدَ الإِقبَالِ مُدْبِرًا، وَبَعدَ المُسَارَعَةِ إِلَى الخَيرَاتِ مُهَاجِرًا، وَبَعدَ عِمَارَةِ المَسَاجِدِ بِالتِّلَاوَاتِ وَالطَّاعَاتِ مُعرِضًا، فَإِنَّ هَذِهِ الأُمُورَ لَتَدُلُّ عَلَى أَنَّ القُلُوبَ لَمْ تَحْيَ حَيَاةً كَامِلَةً بِالِإيمَانِ، وَلَم تَسْتَنِرْ نُورَها التَّامَّ بِالقُرءَانِ، وَأَنَّ النُّفُوسَ لَمْ تَذُقْ حَلَاوَةَ الطَّاعَةِ وَلَا المُنَاجَاةِ كَمَا يَنبَغِي، وَأَنَّ الإِيمَانَ مَا يَزَالُ فِي النُّفُوسِ لَيسَ كَامِلًا. يَقُوْلُ اللهُ تَعَالَى: ((إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا))، وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ:
غَدًا تُوَفَّى النُّفُوسُ مَا كَسَبَت *** وَيَحصُدُ الزَّارِعُونَ مَا زَرَعُوا
إِن أَحسَنُوا أَحسَنُوا لِأَنفُسِهِم *** وَإِن أَسَاءُوا فَبِئسَ مَا صَنَعُوا
وَقَالَ الشَّاعِرُ أَيْضًا:
تَرَحَّلَ شَهرُ الصَّبرِ وَالَهفَاهُ وَانصَرَفَا *** وَاختَصَّ بِالفَوزِ فِي الجَنَّاتِ مَنْ خَدَمَا
وَأَصبَحَ الغَافِلُ المِسكِينُ مُنكَسِرًا *** مِثلِي فَيَا وَيحَهُ يَا عُظمَ مَا حُرِمَا
مَن فَاتَهُ الزَّرعُ فِي وَقتِ البَذَارِ فَمَا *** تَرَاهُ يَحصُدُ إِلَّا الهَمَّ والنَّدَمَا
وَأُذَكِّرُكُمْ أَحبَابِي بِلَيلَةٍ يَغفُلُ عَنهَا أَكثَرُ النَّاسِ: كَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الأَسْوَدِ يُحْيِي لَيْلَةَ الْفِطْرِ وَيَقُولُ: هِيَ لَيْلَةُ يَغفُل عنهَا النَّاس.اهـ
رَوَى الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الأُمِّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْعِيدِ مُحْتَسِبًا لَمْ يَمُتْ قَلْبُهُ حِينَ تَمُوتُ الْقُلُوبُ.اهـ
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: وَبَلَغَنَا أَنَّهُ كَانَ يُقَالُ: إنَّ الدُّعَاءَ يُسْتَجَابُ فِي خَمْسِ لَيَالٍ فِي لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ، وَلَيْلَةِ الْأَضْحَى، وَلَيْلَةِ الْفِطْرِ، وَأَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَجَبٍ، وَلَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ.اهـ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: أَخْبَرَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: رَأَيْت مَشْيَخَةً مِنْ خِيَارِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يَظْهَرُونَ عَلَى مَسْجِدِ النَّبِيِّ ﷺ لَيْلَةَ الْعِيدِ فَيَدْعُونَ وَيَذْكُرُونَ اللهَ حَتَّى تَمْضِيَ سَاعَةٌ مِنْ اللَّيْلِ.اهـ وكَانَ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ وَهُوَ شَيخُ الإِمَامِ مَالِكٍ رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالَى يَدْعُو فِي آخِرِ رَمَضَانَ فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ رَبَّ رَمَضَانَ مُنَزِّلَ الْقُرْآنِ هَذَا شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ قَدْ انقَضَى، أَيْ رَبِّ فَأَعُوذُ بِوَجْهِكَ الْكَرِيمِ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ مِنْ لَيْلَتِي هَذِهِ أَوْ يَخْرُجُ رَمَضَانُ وَعَلَيَّ ذَنْبٌ تُعَذِّبَنِي بِهِ يَوْمَ أَلْقَاكَ.اهـ
وَأَختِمُ فَأَقُولُ: عِبَادَ اللهِ، تَدَبَّرُوا القُرْءَانَ المَجِيدَ، فَقَدْ دَلَّكُمْ عَلَى الأَمرِ الرَّشِيد، وَأَحْضِرُوا قُلُوْبَكُمْ لِفَهْمِ الوَعْدِ وَالوَعِيدِ، وَلَازِمُوا طَاعَةَ رَبِّكُمْ فَهَذَا شَأْنُ العَبِيدِ، وَاحْذَرُوا غَضَبَهُ فَلَكَمْ قَصَمَ مِنْ جَبَّارٍ عَنِيْدٍ، ﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ﴾.
أَينَ مَنْ بَنَى وَشَادَ وَطَوَّل، وَتَأَمَّرَ عَلَى النَّاسِ وَسَادَ فِي الأَوَّل، وَظَنَّ جَهْلًا مِنْهُ أَنَّهُ لَا يَتَحَوَّل، هَيهَاتَ، عَادَ الزَّمَانُ عَلَيْهِمْ سَالِبًا مَا خَوَّل، فَسُقُوا كَأْسًا مِنَ المَوتِ عَلَى إِهْلَاكِهِم عَوَّل، ﴿أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾.
إِنَّ شَهرَ رَمَضَانَ قَدِ انْصَرَمَ وَمَضَتْ أَيَّامُه، فَكَأَنَّكُمْ بِهِ قَدْ رَحَلَ وَانْطَلَق، يَشْهَدُ لِمَنْ أَطَاعَ وَعَلَى مَنْ فَسَق، فَأَينَ الحُزنُ لِفِرَاقِهِ وَأَينَ القَلَق.
مَا كَانَ أَشرَفَ زَمَانِه بَينَ صَومٍ وَسَهَر، وَمَا كَانَ أَصفَى أَحوَالِهُ مِن ءافَات الكَدَر، وَمَا كَانَ أَطيَبَ المُنَاجَاةِ فِيهِ بَينَ وَسَطِ اللَّيلِ والسَّحَر، ومَا كَانَ أَرَقَّ القُلُوبِ عِندَ اشتِغَالِهَا بالآيَاتِ والسُّوَر.
فَيَا أَيُّها المَقبُولُ هَنِيئًا لَكَ بِثَوَابِهِ تَثوِي بِهِ، وبُشرَاكَ إذَا أَمَّنَكَ الرَّبُّ مِنْ عِقَابِه، وطُوبَى لَكَ حَيثُ اسْتَخْلَصَك لِبَابِه، وَفَخرًا لَكَ حَيثُ شَغَلَكَ بِكِتَابِه، فاجتَهَدْ في بَقِيَّةِ شَهرِك هَذَا قَبلَ ذَهَابِه، فَرُبَّ مُؤَمِّلٍ لِقَاءَ مِثلِهِ مَا قُدِّرَ لَهُ وَلَا اتَّفَق.
وَيَا أَيُّهَا المَطرُودُ في شَهرِ السَّعَادَة، خَيبَةً لَكَ إِذَا سَبَقَكَ السَّادَة، وَنَجَا المُجتَهِدُون وَأَنتَ أَسِيرُ الوِسَادَة، وَانسَلَخَ هَذَا الشَّهرُ عَنْكَ ومَا انسَلَخْتَ عَن قَبِيحِ العَادَة، فَأَينَ تلَهُّفُكَ عَلى الفَوَاتِ وَأينَ الحُرَق.
فَيَا إِخوَانِي، قَد دَنا رَحِيلُ هَذَا الشَّهرِ وحَانَ، فَرُبَّ مُؤَمِّلٍ لِقَاءَ مِثلِه بَعُدَ عَنِ الإِمكَان، فَوَدِّعُوهُ بِالأَسَفِ وَالأَحْزَان، وَاندُبُوا عَليهِ بِأَلسُنِ الأَسَى وَالأشجَان، السَّلَامُ عَلَيكَ یَا شَهرَ رَمَضَان، سَلَامَ مُحِبٍّ أَوْدَى بِهِ القَلَق.
السَّلَامُ عَلَيكَ يَا شَهرَ ضِيَاء المَسَاجِد، السَّلامُ عَلَيكَ يَا شَهرَ الذِّكرِ وَالمَحَامِد، السَّلامُ عَلَيكَ يَا شَهرَ زَرْعِ الحَاصِد، السَّلَامُ عَلَيكَ يَا شَهرَ المُتَعَبِّدِ الزَّاهِد، السَّلَامُ علَيكَ مِنْ قَلبٍ لِفِرَاقِكَ فَاقِد، السَّلامُ عَلَيكَ مِن عَينٍ لِفِرَاقِكَ فِي أَرَق.
السَّلامُ عَلَيكَ يا شَهرَ المَصَابِيح، السَّلامُ عَلَيكَ يا شَهرَ التَّرَاوِيح، السَّلَامُ عَلَيكَ يَا شَهرَ المَتجَرِ الرَّبِيح، السَّلَامُ عَلَيكَ يَا شَهرَ الغُفرَانِ الصَّرِيح، السَّلَامُ عَلَيكَ يَا شَهرَ التَبَرِّي مِنْ كُل فِعلٍ قَبِيح، وَيَا أسَفًا عَلَى مَا اجتَمَعَ فِيكَ مِنَ الخَيرَاتِ وَاتَّسَق.
فَيَا لَيتَ شِعرِي هَلْ تَعُودُ أَيَّامُكَ عَلَينَا أَمْ لَا تَعُود، وَيَا لَيتَنَا عَلِمْنَا مَنِ المَقبُولُ مِنَّا ومَنِ المَطرُود، ويَا لَيتَنا تَحقَّقْنَا مَا تَشهَدُ بِهِ عَلَينَا يَومَ الوُرُود، وَيَا أَسَفًا لِتَصَرُّمِكَ يَا شَهرَ السُّعُود، السَّلَامُ عَلَيكَ مِنْ مُوَدِّعٍ بِتَودِيعِكَ نَطَق.
أَينَ مَنْ كَانَ مَعَكُم فِي العَامِ المَاضِي، أَمَا قصَدَتْهُ سِهامُ المَنُونِ القَواضِي، فَخَلَا فِي لَحدِهِ بأَعمَالِه المَواضِي، وَكَانَ زَادُهُ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ الحَنُوطَ وَالخِرَق.
رَحَلَ وَاللهِ عَنْ أَوطَانِه وظَعَن، وَأُزعِجَ عَن أَهلِهِ وَالوَطَن، وَبَقِيَ فِي لَحدِهِ أَسِيرَ الحَزَن، ومَا نفَعَهُ مَا جَمَعَ وَمَا خَزَن، وَتَمَنَّى أَنْ يُعَادَ لِيَزدَادَ مِنَ الزَّادِ ولَنْ، وَلَقَد هَتَفَ بِه هَاتِفُ الإِنذَارِ فَمَا فَطِن، وَأَصَمَّهُ الهَوَى عَنْ نَاصِحٍ قَدْ نَطَق.
فَتَيَقَّظ أَيُّها الغَافِل وَانظُر بَينَ يَدَيكَ، وَاحذَرْ أَنْ يَشهَدَ شَهرُ رَمَضَانَ بِالمَعَاصِي عَلَيك، وَتَزَوَّدْ لِرَحِيلِكَ وَانصِبِ الأُخرَى بَينَ عَينَيك، وَاسْتَعِدَّ لِلمَنَايَا قَبلَ أَنْ تَمُدَّ أَيدِيَهَا إِلَيك، قَبلَ أَنْ يُوثَقَ الأَسِيرُ وَيَشتَدَّ الزَّفِيرُ وَيَجْرِيَ العَرَق.
اللهم لَا تَجعَلْنَا مِمَّنْ سَمِعُوا فَغَفَلُوا، أَوْ عَلِمُوا فَتَاهُوا، أَوْ وُعِظُوا فَمَا اتَّعَظُوا.. اللهم اجْعَلْنَا مِمَّنْ يَستَعِدُّ لِلِقَائِكَ، وَيُبعَثُ عَلَى خَيرِ حَالٍ.. اللهم اخْتِمْ لَنَا رَمَضَانَ بِالقَبُولِ، وَعَمِّرْ قُلُوبَنَا بِالإِيمَانِ، وَانصُرْ إِخوَانَنَا فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَارْفَعْ عَنْهُمُ البَلَاءَ، وَاجْمَعْ كَلِمَتَهُمْ، وَارْزُقْهُمُ النَّصْرَ وَالتَّمْكِينَ.. وَإِلَى لِقَاءٍ قَادِمٍ بِإِذْنِ اللهِ، فِي مَيَادِينِ الخَيرِ، وَمَجَالِسِ الذِّكرِ، وَمَوَاسِمِ الطَّاعَةِ.
وَالسَّلَامُ عَلَيكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ.
مختارات من الأدعية والأذكار
ما يقول عند الخروج من البيت
عَن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «إِذَا خَرَجَ الرَّجُلُ مِن بَيتِهِ فَقَالَ: بِاسمِ اللَّهِ، تَوَكَّلتُ عَلَى اللَّهِ، لَا حَولَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، قَالَ: يُقَالُ حِينَئِذٍ: هُدِيتَ، وَكُفِيتَ، وَوُقِيتَ، فَتَتَنَحَّى لَهُ الشَّيَاطِينُ،فَيَقُولُ شَيطَانٌ آخَرُ: كَيفَ لَكَ بِرَجُلٍ قَد هُدِيَ وَكُفِيَ وَوُقِيَ؟» رَوَاهُ البَيهَقِيُّ فِي الدَّعَوَاتِ.
وَأُذَكِّرُكُمْ أَحبَابِي بِبَرنَامَجِنَا بَعدَ رَمَضَانَ فِي شَرحِ رِيَاضِ الصَّالِحِيَن، فَاحْضُرْ وَادْعُ غَيرَكَ لِلحُضُورِ، وَلَا تَكُنْ بَعْدَ رَمَضَانَ إِلَّا كَمَا كُنْتَ فِي رَمَضَانَ وَزِيَادَة، وَإِيَّاكَ وَالتَّوَانِيَ فَالمَوْتُ لَمْ يَنْزِلْ بِنَا بَعْدُ.
الدعاء الختامي
الحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِي رَسُولِ اللهِ
اللهم فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ عَالِمَ الغَيبِ وَالشَّهَادَةِ رَبَّ كُلِّ شَيءٍ وَمَلِيكَهُ أَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ أَعُوذُ بِكَ مِن شَرِّ نَفسِي وَشَرِّ الشَّيطَانِ وَشِركِهِ
اللهم إِنِّي أَسأَلُكَ العَافِيَةَ فِي دِينِي وَدُنيَايَ وَأَهلِي وَمَالِي، اللهم استُر عَورَتِي وَآمِن رَوعَتِي وَأَقِل عَثرَتِي وَاحفِظنِي مِن بَينِ يَدَيَّ وَمِن خَلفِي وَعَن يَمِينِي وَعَن شِمَالِي وَمِن فَوقِي وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَن أُغتَالَ مِن تَحتِي
اللهم إِنِّي أَسأَلُكَ الرِّضَا بَعدَ القَضَاءِ وَبَردَ العَيشِ بَعدَ المَوتِ مِن غَيرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ وَلَا فِتنَةٍ مُضِلَّةٍ وَأَعُوذُ بِكَ أَن أُظلَمَ أَو أَظلِمَ أَو أَعتَدِي أَو يُعتَدَى عَلَيَّ أَو أَكسِبَ خَطِيئَةً أَو ذَنبًا لَا تَغفِرُهُ اللهم اجعَلنَا مِنَ العُلَمَاءِ الحُلَمَاءِ البَرَرَةِ الأَتقِيَاءِ، اللهم فَقِّهنَا فِي الدِّينِ، وَاجعَلنَا مِنَ الآمِرِينَ بِالمَعرُوفِ النَّاهِينَ عَنِ المُنكَرِ، اللهم أَكرِمنَا بِحِفظِ القُرآنِ العَظِيمِ، وَارزُقنَا تِلَاوَتَهُ آنَاءَ اللَّيلِ وَأَطرَافَ النَّهَارِ، وَاحفَظنَا بِبَرَكَتِهِ وَبَرَكَةِ حَبِيبِكَ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَاجعَلنَا مِن العَامِلِينَ بِأَحكَامِهِ، وَمِنَ الوَقَّافِينَ عِندَ حُدُودِهِ، وَاجعَلهُ حُجَّةً لَنَا لَا عَلَينَا، وَاجعَلهُ نُورًا لَنَا فِي الدُّنيَا وَالقَبرِ وَالآخِرَةِ.
رَبِّ اغفِر لَنَا وَلِوَالِدِينَا وَارحَمهُم كَمَا رَبُّونَا صَغَارًا وَاغفِر لِلمُؤمِنِينَ وَالمُؤمِنَاتِ وَالمُسلِمِينَ وَالمُسلِمَاتِ الأَحيَاءِ مِنهُم وَالأَموَاتِ اللهم إِنَّا نسأَلُكَ مُوجِبَاتِ رَحمَتِكَ وَعَزَائِمَ مَغفِرَتِك، وَالغَنِيمَةَ مِن كُلِّ بِرٍّ، وَالسَّلامَةَ مِن كُلِّ إِثمٍ، اللهم لا تَدَع لنا ذَنبًا إِلَّا غَفَرتَهُ، وَلا هَمًّا إِلَّا فَرَّجتَهُ، وَلا حَاجَةً هِيَ لَكَ رِضًا إِلَّا قَضَيتَهَا يَا أَرحَمَ الرَّاحِمِينَ
اللهم انصُرُ أَهلَ فِلَسطِينَ اللهم انصُر أَهلَ غَزَّةَ اللهم انصُرهُم وَلَا تَنصُر عَلَيهِم، اللهم اجمَع صُفُوفَهُم، وَاشفِ مُصَابَهُم وارحَم شُهَدَاءَهُم. اللهم انصُر غَزَّةَ اللهم لَا تَرفَع لِلكَيَانِ المُحتَلِّ فِي القُدسِ وَغَزَّةَ رَايَةً، وَلَا تُحَقِّق لِجَيشِ الِاحتِلَالِ الصُّهيُونِيِّ غَايَةً، وَاجعَلهُم يَا رَبَّ العَالَمِينَ لِجَمِيعِ النَّاسِ آيَةً.
يَا رَبُّ انقَطَعَ الرَّجَاءُ إِلَّا مِنكَ يَا اللهُ، وَخَابَتَ الآمَالُ إِلَّا فِيكَ، وَانسَدَّتِ الطُّرُقُ إِلَّا إِلَيكَ، وَأُغلِقَتِ الأَبوَابُ إِلَّا بَابُكَ فَلَا تَكِلنَا إِلَى أَحَدٍ سِوَاكَ.
اللهم شَتِّت شَملَ اليَهُودِ الصَّهَايِنَةِ وَفَرِّق جَمعَهُم وَاجعَل تَدبِيرَهُم فِي تَدمِيرِهِم وَخَرِّب بُنيَانَهُم وَبَدِّل أَحوَالَهُم وَقَرِّب آجَالَهُم وَاقطَع أَعمَارَهُم وَاشغَلهُم بِأَبدَانِهِم وَخُذهُم أَخذَ عَزِيزٍ مُقتَدِرٍ، اللهم إِنَّا فُقَرَاءُ لِرَحمَتِكَ مُحتَاجُونَ لِعَونِكَ فَإِن عَجَزَت أَبدَانُنَا عَن مُشَارَكَتِهِم، فَاقبَل اللهم دُعَاءَنَا بِنَصرِهِم.
اللهم ارفَعِ البَلَاءَ وَالوَبَاءَ وَالأَمرَاضَ عَنِ المُسلِمِينَ فِي مَشَارِقِ الأَرضِ وَمَغَارِبِهَا إِكرَامًا لِوَجهِ مُحَمَّدٍ ﷺ يَا رَبَّ العَالَمِينَ، اللهم تَوَفَّنَا عَلَى كَامِلِ الإِيمَانِ وَارزُقنَا شَهَادَةً فِي سَبِيلِكَ وَمَوتًا فِي بَلَدِ نَبِيِّكَ ﷺ، وَاحشُرنَا عَلَى نُوقٍ رَحَائِلُهَا مِن ذَهَبٍ آمِنِينَ مُطمَئِنِّينَ يَا رَبَّ العَالَمِينَ.
اللهم انصُر عِبَادَكَ فِي فِلَسطِينَ وَسَخِّر لَهُمُ الأَرضَ وَمَن عَلَيهَا وَالسَّمَاءَ وَمَن فِيهَا. اللهم بِقُوَّتِكَ نَسأَلُكَ يَا اللهُ يَا سَمِيعُ يَا قَرِيبُ، يَا مُجِيبُ يَا مُنتَقِمُ يَا جَبَّارُ، يَا قَهَّارُ يَا عَظِيمَ القَهرِ أَن تَجعَلَ كَيدَ المُحتَلِّينَ فِي نَحرِهِم، وَاجعَل مَكرَهُم عَائِدًا إِلَيهِم.
رَبَّنَا ءَاتِنَا فِي الدُّنيَا حَسَنَةً، وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ
اللهم أَعِنَّا عَلَى ذِكرِكَ وَشُكرِكَ وَحُسنِ عِبَادَتِكَ، اللهم أَعِنَّا عَلَى ذِكرِكَ وَشُكرِكَ وَحُسنِ عِبَادَتِكَ، اللهم أَعِنَّا عَلَى ذِكرِكَ وَشُكرِكَ وَحُسنِ عِبَادَتِكَ
اللهم أَعِنَّا عَلَى الصِّيَامِ وَالقِيَامِ وَتَقَبَّل مِنَّا يَا رَبَّ العَالَمِينَ، اللهم اجعَلنَا مِن عُتَقَاءِ هَذَا الشَّهرِ الكَرِيمِ وَمِنَ المَقبُولِينَ يَا أَكرَمَ الأَكرَمِينَ، اللهم أَعتِقنَا فِيهِ مِنَ النِّيرَانِ يَا اللهُ يَا اللهُ يَا اللهُ، اللهم أَرِنَا لَيلَةَ القَدرِ المُبَارَكَةَ يَا رَبَّ العَالَمِينَ وَارزُقنَا فِيهَا دَعوَةً مُجَابَةً بِجَاهِ سَيِّدِ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ يَا اللهُ. اللهم ارزُقنَا حُسنَ الخِتَامِ وَالمَوتَ عَلَى دِينِكَ دِينِ الإِسلَامِ وَرُؤيَةَ سَيِّدِ الأَنَامِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ ﷺ.
اللهم إِنَّا دَعَونَاكَ فَاستَجِب لَنَا دُعَاءَنَا وَاغفِرِ اللهم لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسرَافَنَا فِي أَمرِنَا وَمَا أَنتَ أَعلَمُ بِهِ مِنَّا وَارزُق كُلَّ مَن حَضَرَ وَاستَمَعَ لِلدَّرسِ سُؤلَهُ مِنَ الخَيرِ وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ وَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ وَسَلِّم تَسلِيمًا كَثِيرًا إِلَى يَومِ الدِّينِ.
وَآخِرُ دَعوَانَا أَنِ الحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ